الاثنين، 12 أكتوبر 2009

فاعليّة الحياة
قراءة في قصّة الموت
للأديب معمّر القذّافي


عبد الرؤوف بابكر السيّد
الأستاذ المشارك بقسم اللغة العربيّة
كليّة الآداب/ جامعة التحدّي
- تمّت المشاركة بهذه الدراسة في الندوة العلميّة حول البعد الاجتماعي في إبداعات معمّر القذّافي 15. 4. 2008، جامعة التحدّي - سرت. ونشرت بمجلّد - معمّر القذافي كاتبا وأديبا - الصادر عن اللجنة الشعبيّة للثقافة والإعلام بالجماهيريّة صيف 2008

جسد النص بين الفكرة والتأمّل
جسد النصّ الأدبي تبنيه اللغة ، وتشكّله بنية الفاعليّة التخيّليّة للمبدع، تبثّ الحركة فيه بالفكرة والأبعاد التي يحملها، تجعله حيّا نابضا علاقات الفاعليّة بين تآزر وتنازع بنى الوعي لدى المبدع والمتلقّي على السواء. وهو في نهاية المطاف خلقٌ وفاعليّة. خلقٌ أبرزته إلى الوجود معاناةٌ ورؤى وخيال وفكر صاحبه، وفاعليّة بما يصدّره ويبثّه بتعدّد قراءاته من قبل المتلقّي وبنى الوعي على اختلافها......

. فالموت كفكرة مخيفة مرعبة قاهرة لإبداع وحيويّة وفاعليّة الإنسان فناءٌ وعدميّة في صراع مع الحياة والأحياء، يتعامل معه الإنسان على أنه (قدرٌ لا مهرب منه ، لغزٌ مرعب ، هادمٌ للذّات، عبثي يأخذ خيار الناس، نقلة لحياة أخرى، أو عدميّة لا حياة بعدها ، أو أنها قسوة الطبيعة على أبنائها، أو أنّه راحة للروح وفكٌّ لإسارها من هذا الجسد القيد وهذه المادّة القاسية.
قصّة الموت، هي إحدى القصص التأمّليّة التي صاغها قلمُ المبدع معمّر القذّافي ليناقش هذا اللغز من خلال سيرة ذاتيّة ، ومشاهدات عيانيّة وإسقاطات على واقع يحتاج إلى إحياء من موات كبير وإيقاظ من سباتٍ عميق.
يعرض النص القصصي إلى أنواع من الموت: الموت الشرس، الموت المصادم ، الموت الغادر، الموت المراوغ، والمنيّة الأنثى التي تتسلّل عبر نفاد سنيّ العمر عند الكبر والشيخوخة. كما عرض لنماذج من البشر راصدا مواقفهم في مجابهتهم لهذا الموت ، فمن يخافه ويخشاه، ومن يقارعه بشجاعة واستبسال، ومن يستسلم له متنازلا عن حقّه في الحياة ، مسقطا دوره وفاعليّته فيها.
في هذا المجتمع النابض بالحياة والحركة، يتعايش فيه النقيض وهو الموت الذي اختاره القذّافي عنوانا لإحدى قصصه طارحا سؤاله : هل الموت ذكرٌ أم أنثى؟ العلم عند الله.. لأنّ هذا اللغز الذي حيّر كلّ المجتمعات البشريّة منذ فجرها وحتى الآن يسعى بكلّ ما أوتي من قوّة وشراسة ليضع حدّا للحياة، وكما تأمّله الكثيرون واحتار فيه الكثيرون ولم يجدوا له تفسيرا حتى لجأ بعض منهم لخلق الأساطير حوله ، وطلب البعض الإجابة من الديانات، وساءل البعض الرسل، ولم يجد إجابة تشفي أو تفسيرا يريح (الله وحده يعلم .. قل الروح من أمر ربّي.. فإذا جاء أمر ربّك )كانت للأديب معمّر القذّافي وقفته ورؤيته حين رصد أفعاله وتأمّل أشكاله ومراوغته في أقرب الناس لديه وهو والده.
هذه البيئة الاجتماعيّة المليئة بالحياة، المتدفقة بالحيويّة، المقاومة المقاتلة المدافعة عن حوضها بسلاحها، حتى في الصحراء القاحلة المجدبة التي يرتع فيها الموت، والمليئة بأسباب الموت وتعدّدها احتضن نسيج القصّة هذا التربّص بالحياة والأحياء، وانعدام المهرب "وإن ترق أسباب السماء بسلّم"..
إلاّ أن أبعاد الطرح توحي بأنه مهما كان الموت قاسيا ، وخشنا، ووحشيّا، تقطر الدماء من أنيابه( كم من ضحيّة افترسها وهي نائمة حالمة في سبات عميق..!! وكم من ضحيّة افترسها وهي ضاحكةً مستبشرةً لا تفكّر فيه ) ص67 ( قد ينهش رضيعا من ثدي أمّه، يقتله أمامها.. وقد يمدّ يده إلى داخل بطنها ليخرجه ميتا بعد طول انتظار، وقد يخطف أحد العروسين في ليلة الزفاف، وقد يداهم الأبوين ويترك الأطفال، وقد يفعل العكس) ص
مع كلّ هذه الوحشيّة التي تتعايش معها المجتمعات البشريّة فإنّ الحياة برمّتها وفاعليّتها وحيويّتها أقوى منه، بدليل هذا الوجود الذي لم يندثر، وهذه البشريّة التي لم تفنَ ، ولم يستطع الموت رغم قسوته وشراسته وضراوته أن يقضي عليها..
هل الموت ابن للحياة أم نقيضها، بدونها لا وجود له ولا اسم له ولا لون له ولا مكان له ، معها يولد ، ثمّ يتربّص بها إلى أن ينتصر عليها.. والموت وهو ابنها يعادلها في الفاعليّة.. فهي تنتج وتثري وتعطي.. وهو بالمقابل أيضا يحرّر من الأسر ويطلق الروح في رحاب حياة أخرى.. الحياةُ حركةٌ وفعل والموت حركة وفعل في اتجاه مضاد.. البعض يقول إنّ البدء كان للموت للعدميّة، فما أن برزت الحركة ودبّت الحياة في هذا الجسد وفي أجساد كلّ الكائنات حتّى شحذ الموت أسلحته ، واستنهض همّته مقاوما لها متربّصا بها قاهرا ومقاتلا بوحشيّة وبلا رحمة من أجل أن يعود الموات وينتهي العالم الحي إلى عالم العدم كما كان. لماذا لأنه كان الأسبق، ولأنّ الغول النائم في ماديّته لم يرتض أن تتحرّك المادّة وتدبّ الحياة فيها.. تتشكّل الكائنات ، ويتشكّلُ الإنسانُ في أحسن تقويم.ز فهل يقبل الموت من احتلّ مكانته في الوجود. استيقظ وكشّر عن أنيابه وشحذ مخالبه وبدأ يهاجم وهو واثق من النصر.. الحياة كانت الأقوى..
قاتل بشراسة، الحياة كانت المنتصر دائما..
بطش بالحروب وبالزلازل وبالبراكين وبالأعاصير وبالكوارث الطبيعيّة وبجيوش من الفايروسات وجحافل من الأمراض.. لكنّ الحياة كانت الأقوى..
راوغ وتسلّل عبر بنات الدهر والكائنات التي تحمل ترياقه .. الحياة كانت الأقوى..
لبس ثوب الأنثى وتخفّى وأغرى من تقدّمت به السن وبدّل اسمه من الموت إلى المنيّة، لكنّ فاعليّة الإنسان كانت أقوى بالذريّة وإثراء الحياة والمحبّة.. وبما أنّ المجتمعات البشريّة أصبحت تتعايش معه فلم تعد تعيره اهتماما وتقاومه بمزيد من الإنجاب، وبمزيد من العلم والمعرفة للقضاء على حجافله الخفيّة .. فإذا به يزداد شراسة ولم يرض إلاّ بإيلام الأحياء بعد أن يختطف فريسته لعلمه بأن فاعليّة الحياة وانتصارها ليس إلا بهذه المحبّة الشاملة بين أبناء المجتمعات.. ومع كلّ ذلك فالحياة ظلّت الأقوى..
إذن لمَ الخوف؟ ولم الاستسلام؟ ولم التنازلات؟ ولم لا تستمرّ المقاومة بالعلم والمعرفة والتقدّم الطبّي..
لم نستقبله بابتسامة حين يأتي منيّة ونقارعه إذا كان موتا؟ سؤال يحمل إجابته فهو منيّة يكون الإنسان قد أدّى دوره بفاعليّة وترك بصمته في إثراء هذه الحياة بالإنجاب أو بالخيرات الماديّة أو بالعلم الذي يخلفه وراءه والعطاء الذي يكون قد قدّمه ، عندها يستقبله مبتسما لأنه انتصر وأدّي دوره.
علاقات الفاعليّة في النص
تتمثّل علاقات الفاعليّة في النص بين بنية الوعي الأوليّة المتمثّلة في والد الراوي وجماعة المجاهدين الذين يذودون عن حياضهم بكلّ ما أوتوا من قوّة، مضحّين بأرواحهم متحدين الموت مستخفّين بالحياة إن كانت تحت الذلّ والاستعباد. خاصّة وأنهم في مجابهة بنية وعي غازية هي بنية الوعي المادّي البرجوازي المتمثّل في جحافل الطليان والأرتريين في معركة القرضابيّة، وعملائهم في عسكر السنوسي الموالي للطليان في سرت وأجدابيا بحفرة " كلايا " قرب منجم الملح. هذه البنية القاصرة بنية الوعي المادّي التي تسعى لنهب خيرات الشعوب واستعبادها والاستحواذ عليها بكلّ السبل بما فيها القتل والتدمير والعدوان والعنف ، تجدها تتحالف مع الموت وترفع رايته وتسير تحت عباءته، في حين أنّ بنية الوعي الخلاق تتمثّل في الراوي الذي يتأمّل فعل الموت ويفرّق بين البيولوجيّ منه والموت المتمثّل في تدنّي الفاعليّة من خوف واستسلام وهروب وعمالة وعدم اعتماد على الذات..
وحراك هذه البنى اقتضى أن يتحمّل نسيج النصّ هذا الصراع الدامي فجاء بشخوص الموت حين تقمّص ملابس جنود العقيد (مياني)، وغدر بالحيّة التي تحمل ترياقه وكمن في الدمى والعملاء الذين يسيّرهم الأعداء .
إلاّ أنّ الانتصار لبنية الوعي الخلاّق هو الدعوة إلى عدم التفريط في الفاعليّة أو الاستسلام ، عدم اليأس أو تدنّي الفاعليّة بل الانتصار على الموت البيولوجي بتحقيق الخلود من خلال أفعالها وإنجازاتها وفاعليتها وعطائها ومقاومتها.. من خلال محبّتها وإنسانيّتها.
فإذا كان محور القصّة هو التساؤل المطروح هل الموت ذكر أم أنثى.. فإنّ فاعليّة ودور كليهما هو الانتصار مع اختلاف الوسيلة. وإن كان محورها هو إرادة الإنسان وتحقيق الخلود بأفعاله وفاعليّته فإنّ الموت البيولوجي لا ولن ينهي علاقة الإنسان بالحياة، فالبنية الأوّليّة عطاؤها غير محدود من حيث التناسل والأبناء الذين يحملون قيما سامية، وأخلاقا اجتماعيّة قبليّة، وتربية بيتيّة عظيمة يلتزمون بالتصرّف المثالي.. والبنية البرجوازيّة إذا وظّفت ستستثمر الثروة الماديّة وتوظفها لفعل الخير، والبنية الخلاّقة تخلّد نفسها بالباقيات الصالحات وبالعلم والمعرفة والإبداع، هذا هو الخلود وهذا هو الانتصار على الموت البيولوجي..
أمّا الموات وانعدام الفاعليّة أوتدنّيها فإنّ الموت ينتصر عليها وهي في دائرة البشر الخانع الخائف المذعور في حياته عديمة الفاعليّة وفي موتها البيولوجي كذلك، حيث يمحوها من التاريخ وينسي أنها عاشت لحظة أو تركت أثرا..
من هنا تأخذ القصّة دورها التحريضي انطلاقا من نسيجها التأمّلي وأسئلتها المشروعة وحواراتها ونتائجها. كيف يكون الإنسان عونا للموت على أخيه الإنسان، إن لم يكن محتازا لبنية وعي القصور؟ وكيف يستسلم الإنسان لأعدائه وهو يعلم أن الموت غير منحاز ولا مهرب منه وسيطاله أينما كان؟ وكيف يقبل الإنسان بالعمالة أو أن يصبح دمية في يد الآخر أو أن يكون رهينة ؟ وأين فاعليّته من كلّ ذلك ؟ إنها علاقات الفاعليّة في النص بين تآزر وتنازع بنى الوعي الثلاث لدى الإنسان.
الذكوريّة والأنثويّة:
إلاّ أنّ ومن خلال هذا التساؤل تصلنا شفرة المجتمع الذكوري التي لا زالت تتسلّل عبر الإبداع . لماذا لا نقارعه إذا كان ذكرا ونحن ذكور؟ إذن كيف تقارعه المرأة؟ ولم اختار القذّافي الذكوريّة والأنثويّة في تشخيص الموت والمنيّة؟ ألأن اللغة فرضت ذلك فجاء اسم الموت ذكرا والمنيّة أنثى؟ أم لأنّ المبدع مقاتل محارب مقاوم ثائر متمرّد متحدّ..؟ أم لأنّ طبيعة الصراع الذي تخوضه دول العالم الثالث يجعلها تصارع حتى الموت نفسه. أم لأنّ المقاتلين في جيوش العالم الذين يقاتلون تحت راية الموت كلهم من الذكور، ثمّ ارتباط القتال والمقاومة بالقوّة البدنيّة.
يأتي الموت في هيئة مقاتل عبر العدو وفي هيئة حيّة تسعى.. أو في هيئة فايروس لا تراه العين.
لماذا من الواجب تحديد جنس الموت؟ لنقارعه إن كان ذكرا حتى النهاية.. وإن كانت أنثى وجب الاستسلام لها إلى الرمق الأخير..
الذي يقارعه هم الذكور بحكم بنية تكوينهم القويّة، والتي أهّلتها الطبيعة للصراع.. ماذا عن الإناث كيف يقارعنه وينازلنه أو حتى يستسلمن لها.
[ لفظ الموت "المنيّة" ورد في الكتب تارة مذكّرا ، وتارة مؤنّثا] لم واللغة أعني العربيّة ذكوريّة الأصل بحكم فاعليّة الذكر وتحكّمه في نشأتها ، ألا ترون معي أنّ " تاء التأنيث" ساكنة غير متحرّكة ولا محلّ لها من الإعراب، وأنّ واو الجماعة يخاطب به النساء مهما كان عددهنّ إذا كان معهنّ رجلٌ واحد. وأنّ الحروف الأنثويّة الضعيفة نطلق عليها حروف العلّة الناجمة عن تصويت الأنثى التي كانت لدى العرب قديماً هي بذاتها علّة ينبغي وأدُها والتخلّص منها.
رغم كلّ ذلك لم يحدث أن استوقفتنا النظرة حول ذكوريّة الموت أو أنثويّة المنيّة. لأنّنا ننصرف عن ذلك بحجم الفقد والمصاب أوّلاً ولأنّ الفكر قد أراحته الأساطير والمعتقدات الدينيّة فتعايش لغز الفناء مع الحياة وتعايشت معه المجتمعات وأراحته لا حقا الديانات فلم تعد هناك من مساحة للتفكير فيه سوى أنّه قدر وأنّه اكتمال اليوم، وأنّ علم ذلك عند ربّي..
فعندما يكون الموت ذكرا يجب مقاومته لأنّه يسعى لأن يستلب حياة الإنسان وإرادته وقدرته ويشل فاعليّته، هنا يجب الدفاع والمقاومة والتصدّي والتحدّي والشجاعة والاستبسال والنضال وكل مفردات الانتصاف للذات التي ينبغي أن تتسلّح بالإرادة للمحافظة على مكتسبات الحياة وأداء الإنسان لدوره فيها. أمّا حين يكون أنثى، فمن الشّهامة أن لا يقاوم وأن يتم الابتسام لها حتى ولو كان الحضور يذرفون الدمع خشية الفراق.. لماذا لأنّ الإنسان يكون قد أدّى دوره بفاعليّة وترك وراءه أثرا، وخلّد ذاته من خلال الإنجاب أو من خلال ما جمع من ثروات ماديّة أو من خلال عطاء علميّ وإبداع واختراع.
هذه المقابلة بين الذكورة والأنوثة تنسحب كذلك على أنّ الحياة أنثى في مقابل الموت الذكر، والأنثى خصبة ومعطاءة ولا يمكن أن يفرّط الإنسان فيها، إنه يدافع عنها حتى الرمق الأخير لأنّ خصوبة هذه الحياة الأنثى في أنها تنجب وتتناسل وتعطي وتهب الخلود بالعلم والمعرفة. فكيف يفرّط الإنسان في أرضه الأنثى المعطاءة أو عرضه أو معتقده أو قيمه أو في منجزاته.. إنها ثمار الحياة .. لذا وجب مقاومة الموت الذكر المعتدى .. لأنه لا يتسم بأخلاق الفروسيّة في المجابهة، بل يراوغ ويطعن من الخلف ويتخفّى ويتستّر ويتخنّس وأخيرا حينما يعجز وتعييه الحيل يرتدي ثوب الأنثى بعد أن تكون إرادة الإنسان قد سطّرت خلودها بفاعليّتها وإنجازاتها، وبعد أن تكون الحياة الأنثى قد تجاوزت مرحلة الخصوبة ، عندها يبتسم المرء للموت الأنثى ويرحّب بها ويستسلم لها حتى الرمق الأخير.
أمّا الإنسان الذي ليست له فاعليّة، نتيجة الخوف والضعف والاستسلام فإنه ميّت رغم وجوده بين الأحياء عقيم لا دور له ولا إبداع ولا فاعليّة فهو بذلك لا يستحقّها لأنه في مرحلة موات يتفادى الموت بجبنه وخوفه ، والموت لن يتركه مع كل هذه التنازلات " وإن يرق أسباب السماء بسلّم" ولو احتمى في عروش مشيّدة ، ولو أصبح ساداتيّا خائنا منبطحا.
لقد جمع المبدع بين الذكورة والأنوثة باعتبارهما قوام الحياة وآليّات استمرارها والانتصار على العدميّة والفناء.
إلاّ أنّ المعالجة الجديدة لهذا الموضوع القديم قدم البشريّة جاء ليفجّر عددا من القضايا ، ويحرّك بنى الوعي في تقبّله وقراءته من جديد بصورة مغايرة .. فعلى الرغم من أنّ الحياة والموت حقائق في تضادّهما وفي صراعهما إلاّ أنّ الموات في هذه الحياة يعني انعدام الإرادة ، أو أن يضع الإنسان حدّا لحياته بنفسه حين( يتخاذل أو يستسلم ، أو يخدّر أو يهرول للمصالحة أو أن يفني ذاته دون فاعليّة).
ومع أنّ الموت ألدّ أعداء الحياة فلم الاستسلام له؟ لم يرتعد الإنسان ويكون مشلولا بمجرد سماع اسمه أو التلويح به ؟ هذا الموت لكي تجابهه الحياة لابدّ أن تتسلّح بسلاحه وتقاومه به، وسلاحه يتمثّل في صفاته التي حدّدها الكاتب من:
أنه مهاجم، أنه شجاع ، أنه لا يستسلم أبدا، أنه لا يقع في الأسر ، أنه لا يسقط صريعا، أنه مقاوم، أنه ذو نفس طويل، ذو صبر غير محدود، ذو ثقة في النصر على الخصم تصل حدّ اليقين، ذو تصميم لا تراجع عنه، أنّ قوّته تكمن في قدرته على تحمّل واستيعاب وطحن كل السهام والمعاول التي تصيبه، وفي تحويل الهزيمة إلى طاقة قتاليّة ناريّة تؤدّي حتما إلى سقوط خصمه.،وأن جدارته بالنصر تأتي من كونه غير منحاز لا يستعين بأحد ليس عميلا ولا حليفا لآخر ولا رهينة ، ولا دمية يلقى بها في سلّة المهملات بعد انقضاء الغرض من اللعب بها. كما أن جدارته بالنصر تكمن في ثقته بنفسه وتأكده من النصر وأنّ قوّته في ذاته وليس بدعم من أمريكا.
وهذه كلّها فاعليّة يمكن أن يتسلّح بها الإنسان بإرادته فيطول أمد الصراع بل يسهم الإنسان في صنع قدره بدل أن يستسلم له مشلولا، عاجزا ضعيفا ،
إضافة إلى أنّ قيمة الحياة والفاعليّة تتمثّل في تفوّقها على الموت أخلاقيّا فالموت لا مثل أخلاقيّة له ولا أخلاق اجتماعيّة قبليّة له وليست لديه تربية بيتيّة عظيمة تجعله هذه المناقب ملزما أدبيّا بالتصرّف المثالي حتى لا يمسّ تلك القيم بالخزي.. فالموت مراوغ ، ومتلوّن، ومتقلّب، وله أفعال دنيئة غادرة وليست لديه رحمة ولا شفقة.
لذا فالحياة أقوى منه وأشرف منه ولها فاعليّة أكبر منه بدليل أنه لم يستطع عبر تاريخ البشريّة الطويل أن يقضي عليها ، ولهذا كذلك فالمقاومة تقود في أغلب الأوقات إلى النصر فعليكم بالمقاومة. والاستسلام لا يوصل إلى النصر أبدا فابعدوا عنه ولا تتستروا به، والموت لا يرحم خصمه مهما استسلم ومهما جبن وأبدى الضعف والمسكنة (حتى لو أصبح ساداتيا).. عليكم مقاومة الموت لإطالة أعماركم.(اطلبوا الموت توهب لكم الحياة) .
لذا فالموقف الصحيح هو المواجهة أمّا الهروب حتى إلى الخارج فلا ينجي من الموت " أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيّدة"
آليّة السرد وبنية القصّة:
آليّة السرد المشحونة بالصراع بين فاعليّة الحياة وعدميّة الموت تذخر بالفعل والحركة والمقاومة، أحداث وأزمنة ووقائع وحراك لبنى الوعي ومقارنة وتأمّل وتساؤل وتصنيف لفاعليّة إيجابية وأخرى سلبيّة حاملة لقضيّة أساسيّة هي إرادة الإنسان الأقوى والمتميّزة بخصائص الفروسيّة والقيم والمجابهة والثقة بالنفس والإرادة الحرّة وباعتبار الراوي ثائر متمرّد مقاوم متحدٍّ مجابه مناضل ذو إرادة وفاعليّة فإنه يلتقط ما يؤمن به، وما كان من أمر المجاهدين الذين غرسوا فيه هذه الإرادة الحرّة فأضحى عاشقا لها مضحّيا في سبيلها منتصرا على الفناء والعدم والموت.
من يحمل هذه الصفات فإنّه يحقّق الخلود فينتصر على الفناء، بما يحقّقه من استمراريّة حتّى لو استسلم للموت الأنثى في نهاية المطاف. فالحياة الأقوى والأشرف والفاعليّة الإيجابيّة في مقابل الموت المراوغ والغادر والخائن والوحشي
تحدّث النص عن الموت وهو يمجّد الحياة ويشيد بفاعليّتها.. تحدّث عن مجابهته لوالده والمجاهدين معه وهو يشيد بهم وبشجاعتهم واستبسالهم، تحدّث عن الموت الأنثى وهو يهاجم الموات والاستسلام وانعدام الفاعليّة لدى الأحياء..
أشاد بالموت في أنه لا يعتمد على أحد وإرادته داخليّة وثقته بنفسه كبيرة ، وهو يشيد حقيقة بمن يتحلّى بهذه الصفات من الأحياء غير العملاء ولا الدمى ولا المستسلمين والخونة والمصالحين والمفرّطين في منجزات الأمّة ومكتسباتها وحقوقها ظنّا منهم أنهم سينجون منه.
معركة طويلة وصراع مرير أزليّ بين أن تكون أو لا تكون، لذلك حشد النص كل مفردات الصراع الذي لم تسلم منه حتى الشمس التي انحدرت على رأسها نحو الأرض كأنّما أصابتها رصاصة طائشة فجاء النصّ مشحونا بالدفاع والمقاومة والمعارك والمقارعة والقتال والمجابهة والهجوم والتحدّي والشراسة والشجاعة والاستبسال والتحدّي (84) مفردة، كما أنّ مفردة الموت وردت(90) مرّة .. أمّا الأسلحة ومفردات المعارك من هزيمة ونصر وهروب وكر وفر وعتاد وعدّة ورصاص وذخيرة ما يصل إلى(195 )مفردة كلها انتشرت على امتداد نسيج النص (369)مفردة ، في مقابل:
الموات بين الأحياء من تخدير كيماوي وغير كيماوي وعمالة وذيليّة وارتهان ودمى وغيبوبة مايصل(17) مفردة..
يقابل كلّ ذلك البحث عن : البطل الأسطوري ، المثل العليا، الأخلاق الاجتماعيّة القبليّة، التربية البيتيّة العظيمة ، المناقب التي تلزم صاحبها بالتصرّف المثالي وعدم المساس بتلك القيم..
كلّ ذلك يطرح من خلال بنية وعيه الخلاّق أن:
(إرادة الحياة تدمّر تدابير الموت وتخيّب تخميناته)
(أنّ تلك الإرادة قادرة على إبطال مفعول السمّ الزعاف)
(وأنّ قيمة الإنسان في داخله وفي ذاته وليست بدعم من آخر)
(وأنّ الإنسان يمكن أن ينتصر على الموت البيولوجي بمحافظته على فاعليّته والارتقاء بها، وأنّ الإشكال يكمن في الموات من الأحياء وانعدام الفاعليّة والخوف والاستسلام والارتهان للغير والذيليّة)
هذا هو الانتصار الحقيقي .. تحقيق الخلود بالإنجازات والأفعال والقيم والفاعليّة المفتوحة.
إنّ القصّة بمجملها صراع أبديّ لا مفرّ منه لكنّ الحياة أقوى مهما كانت شراسة الموت والقصّة بمجملها دفاع عن الفاعليّة في هذه الحياة، وفي العطاء غير المحدود الذي يقدّمه المرء فيها، وفي الخصوبة التي تنعم بها هذه الحياة الأنثى، فكيف لا يدافع الإنسان بإرادته وشجاعته واستبساله عنها وعن عرضه وأرضه، من أجل أداء دوره الذي يحقّق لحياته الخلود والاستمراريّة مادام هذا الوحش (الموت الذكر) لا يفرّق بين هذا وذاك ولا ينحاز لهذا دون ذاك فهو يبطش بالحياة والحيويّة من حيث هي نقيض له تستفزّه بأنوثتها وحيويّتها وخصوبتها ساعيا لأن يقضي عليها ويجرّدها من الفاعليّة وأسباب الخلود.
العنوان مباشرٌ يحمل وراءه ما يثير في الإنسان التحفّز ، ويحمل وراءه استنفار الذات الداخليّة للحياة، العنوان رغم مباشرته يحمل وراءه الحياة بخصوبتها وحيويّتها والتي يدافع الإنسان عنها ضدّ الموت والفناء والموات والعدميّة.
.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق