الاثنين، 30 نوفمبر 2009

أطروحة دكتوراه تتناول شعر الرفض والتمرّد
وتوازن بين أمل دنقل و عبدالرؤوف بابكر السيّد






في صباح الأربعاء الموافق 8. 4. 2009، وبمدرج المرحوم الأستاذ عبدالله محمد الهوبي بجامعة الفاتح القاطع (أ) وبعد إجراء المناقشة العلنيّة والتداول أصدرت اللجنة بإجماع الآراء قرارها بمنح الطالبة هدى رجب محمّد إبراهيم درجة الإجازة الدقيقة الدكتوراه في اللغة العربيّة " الدراسات الأدبيّة" على أطروحتها الموسومة ب :
فاعليّة شعر الرفض والتمرّد
أمل دنقل - عبد الرؤوف بابكر السيّد
دراسة نقديّة موازنة في ضوء منهج التحليل الفاعلي
أشرف على هذه الأطروحة د. ساسي سعيد رمضان واشترك في مناقشتها كل من:
أ.د. علي عبد المطلب الهوني د. عمرو أحمد عيسى د. مصطفى محمد أبو شعالة
وقد جاء في مقدّمة الأطروحة ما يلي:
لقد كانت علاقة الشاعر بالسلطة في تراثنا العربي في الغالب علاقة التابع بالمتبوع، علاقة قمعية مشدودة بفعل انجذاب تلك السلطات المسيطرة، مثل سلطة البنية السياسية، وسلطة البنية الاجتماعية، وسلطة البنية الدينية، وسلطة البنية الثقافية، إلى تاريخ القمع التليد.
لذا فإن مطلب الأدباء في الحرية ليس حاضراً في أدراج تلك البنى المسيطرة القامعة، إن هي شاءت منحته لهم، وإن هي شاءت حجبته عنهم، مكتوون بنار القهر والاستلاب والقمع، فما من سبيل إلا السير في طريق الرفض والتمرد وتحمل كافة تبعاته ومسؤولياته، إما مفطورين أو موجهين إليه توجيهاً، مدفوعين دفعاً بقوة تلك السلطات ، مشكلين بشعرهم حجر عثرة في طريقها.
حيث لا يهدف ذلك الشعر الرافض والمتمرد إلى توفيق أوضاع الشاعر مع البنى المسيطرة في المجتمع وعمل مصالحة معها، بل يهدف إلى تحريض الإنسان ضد مظاهر النقص وأساليب القمع ووسائل القهر، إنه يشعل شرارة الحرية داخل النفوس المقموعة؛ لتشهد هول الكارثة التي تعشعش فيها لتتمرد على ذاتها، قبل أن تتمرد على غيرها، كل هذا سنشهده، من خلال شاعرين عرفا برفضهما وتمردهما ونضالهما، وهما الشاعر المصري أمل دنقل والشاعر السوداني عبدالرؤوف بابكر السيد .





ومن الأسباب التي دعتني إلى اختيار هذه الدراسة دون غيرها ما يلي :
. 1) الاحتياج الكبير إلى دراسة الأدب المعاصر بشكل عام، وخاصة ذلك الأدب الذي يعالج قضايانا المعيشة من صراعات، وانهزامات، وتردِ في كافة الأوضاع التي تمر بها الأمة العربية، وخروجاً عن الدور الرسمي الذي عهدناه في كتبنا المدرسة التلقينية، أو الكتب المرجعية، التي انكفأت على دراسة أغراض الشعر المعتادة، والتي كادت أن تصرف الباحثين عن دراسة المعاصرة .
2) عدم وجود دراسة مستقلة لأغراض الرفض والتمرد في كل توجهاته، سواء السياسية، أو الاجتماعية، أو الثقافية، ماعدا بعض الدراسات التي تطرقت لذلك الموضوع، ولكن مع اختلاف في المنهجية، والنماذج المختارة للدراسة.
3) ضرورة إثارة مثل هذه القضايا، والتي تبرز فيها إمكانات الشعراء وأساليبهم الفنية المراوغة، للتحايل على الرقابة، وتسريب أفكار ومواقف ثورية رافضة ومتمردة، أو متعارضة مع السلطات بمختلف أنواعها حيناً، وبين الشريحة المغلقة لرفضها وثورتها دون اتخاذ التقية والاحتماء وراء أسوار منيعة، من فنون البلاغة، والتنقل بين أساليب الإبعاد والإقصاء من ناحية أخرى .
4) محاولة إحياء ذلك الغرض والذي كان يمثله أدب الشطار والصعاليك والعيارين والزط والكدية، والذين عاشوا القمع يوماً، فتولد عنهم إبداع لم يأخذ كفايته من الاهتمام والعناية، لما يمثله أصحابه من مروق ومخالفة للبنى السائدة، التي تستهجنهم، ولا تعترف حتى بإبداعاتهم، بل لا تراه إبداعاً على الإطلاق، ماعدا بعض الكتب التي تناولت الصعاليك مثل كتاب يوسف خليف، وفصول في بعض من الكتب التراثية .
5) وبالرغم من الاهتمام الذي حظي به الشاعر أمل دنقل، إلا أن مكتباتنا العربية على حد علمي تخلو من دراسة مستقلة حول غرض الرفض والتمرد عنده، والذي يعتبر السمة الأساسية الغالبة على شعره، ناهيك عن الدراسات التي ذكر بعضاً منها في سفره، وبعض المجلات العلمية هنا وهناك .
6) عدم وجود دراسة أكاديمية عن الشاعر السوداني عبدالرؤوف بابكر السيد على الإطلاق، حيث تعد هذه الدراسة اللبنة الأساسية، والمصدر الرئيس لكل الدراسات التي ستقام حول شعره فيما بعد، علماً بأن الدراسة سترفق ملحقاً، يتكون من خمسة وثلاثين سؤالاً حوارياً، أجرتها الباحثة مع الشاعر نفسه، وهو ما عمدت الأطروحة على إضافته للمكتبة العربية.
7) توضيح العلاقة الوثيقة التي ترتبط الشاعر الرافض والمتمرد بالواقع المحيط به وعدم انفصاله عنه، فالنص الشعري الصادر عن ذلك الشاعر يحيل إلى مرجعية لها إطارها الدال الراسخ، مما يحدد زاوية قدرة وقوة نظر الشاعر، إلى الوعي بواقعه والحكم على عالمه بغية تطوير ما هو في حاجة لذلك التطوير، ولا يكون ذلك _ من وجهه نظري ـ إلا بمعرفة "الفاعلية ".
و"الفاعلية" أو "التحليل الفاعلي" هو المنهج المتبع في الدراسة و الذي يمثل النشاط الذي يثري الحياة الإنسانية جمعاء.
وأول عمل قمت به قبل أن أشرع في البحث هو الوقوف على الأعمال التي تناولت الشاعرين أمل دنقل، وعبدالرؤوف بالبحث والدراسة حتى أتجاوز التكرار والاجترار، ومن بينها :
1) رسالة دكتوراه بعنوان الحركة النقدية حول تجربة أمل دنقل الشعرية ، حسن سليمان سلمان، في الجامعة الأردنية، كلية الدراسات العليا، قسم اللغة العربية، اسم المشرف أ.د. صلاح جرار، المشرف المشارك ،د. سامح الرواندة ، ط 2007ف .
2) دراسة بعنوان البنيات الدالة في شعر أمل دنقل ، عبدالسلام الميساوي ، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، ط 1994ف .
3) شعر أمل دنقل، دراسة أسلوبية، فتحي أبو مراد، سنة 2002ف.
4) ورقة بحثية بعنوان ( شعراء الرفض) ، د. لويس عوض ، سفر أمل دنقل، لعبلة الرويني ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1999ف .
5) ودارستان للدكتور مصطفى الضبع ، الأستاذ المساعد ورئيس قسم البلاغة والنقد والأدب المقارن كلية دار العلوم بمصر ، بعنوان :
أ‌) تقنيات الواقع في شعر أمل دنقل ،دراسة نقدية ، القاهرة ط1999ف .
ب‌) آليات الرفض في القصيدة الحديثة ، المؤتمر العلمي الخامس، كلية دار العلوم، الفيوم، أكتوبر 2002، ومنشورة بمجلة أفق عدد 42 ،43 ، فبراير ، مارس 2004ف ،
أما عبدالرؤوف بابكر السيد فكل ما عثرت عليه عبارة عن دراسات لبعض من قصائده، بعضها منشور في مجلات أدبية وعلمية والبعض الآخر مخطوط ، من بينها:
1) بين يدي الشعر ، عمر رمضان ،سنة 2007ف مخطوط.
2) بحثاً عن معلقة، بحثاً عن عكاظ،حسن الأشلم، مجلة تعالوا ، جامعة التحدي ، العدد الأول ، سنة 2008ف .
3)الرؤية والتشكيل الفني قراءة في قصيدة" وترية الهاجس والحرف "للشاعر عبد الرؤوف با بكر السيد د . حماد حسن أبو شاويش، جامعة الأقصى، غزّة فلسطين.
4) وتريّة الهاجس والحرف..عبدالرؤوف بابكر السيّد .. سيرة للوطن والذات.. للدكتور سعد التميمي، جامعة إب.

ومن حيث المنهج المتّبع في الدراسة فإنّ مرتكزات نظرية الأدب التي اقترحها(صاحب التحليل الفاعلي) تتلخّص في :
1) الرؤية الفلسفية.
2) الهوية الإبداعية للنص الأدبي.
3) الهوية الإبداعية للمؤلف .
4) الهوية الإبداعية للقارئ
.
وجاءت الدراسة مقسمة إلى أربعة فصول. كل فصل بثلاثة مباحث ماعدا الفصل الثالث بأربعة مباحث، وتمهيد للبحث كالآتي :
1) التمهيد، عن مصطلحي الرفض والتمرد لغة واصطلاحاً، ومن ثم عرضت لمنهج التحليل الفاعلي، كما عرضه صاحبه الشيخ محمد الشيخ، كونه لم يغفل عن أحد أطراف العمل الأدبي، سواء أكان منتجاً أم نصاً أم قارئاً ، والتطرق للدراسة الأهم وهي التي أسهمت بفتح نافذة في كيفية مقاربة النصوص الشعرية وهي" النص الأدبي الاستلاب والفاعلية " لعبدالرؤوف بابكر السيد" لما فيها من إضافة يحتذي بها كل باحث يعتمد منهج التحليل الفاعلي، ومقاربة النص الشعري على وجه التحديد .
2) الفصل الأول : أدبيات بنى الوعي :
المبحث الأول : أدبيات البنية التناسلية . وفيه تم الحديث عن هذه البنية المغلقة وقصورها، وأنها مازالت مسيطرة ومستدمجة غالبية أفراد المجتمع العربي، وإصرارها على إعادة إنتاج نفسها، وذلك بتوظيف أفرادها وتطويقهم بآليات تقمع وتدمر كل مارق عنها.
المبحث الثاني : أدبيات بنية الوعي البرجوازي، تناولت على أثر المبحث السابق البنية البرجوازية كما عرفها الشيخ محمد الشيخ، كونها قاصرة وأصبحت مسيطرة نوعاً ما، مشكّلة صراعاً أبدياً مع البنية التناسلية من أجل فرض نفسها، وحماية أفرادها كي لا تفقد وجودها، مستحضرةً بعضاً من أدبياتها التي تدافع بها، وترد على من يخاطبها ويحاول إجهاضها ودحرها.
المبحث الثالث :أدبيات بنية الوعي الخلاق، تم الإشارة في هذا المبحث، إلى علاقة المبدع والعبقري والشاعر بمجتمعاتهم، والصراعات المحتدمة بينهم، والتي تنم عن احتياز هؤلاء المبدعين لبنية وعي مخالفة لبنية مجتمعاتهم، والتي بها يحاولون أن ينفلتوا، ويختلفوا قدر الإمكان بغية تعديل الواقع وتحسينه، رافدة ذلك ببعض الأدبيات التي تم انتقاؤها بشكل عشوائي، لإثبات أن هذه البنية لم تنشأ حديثاً وإنما هي متجذرة في صلب البشرية، من أجل الارتقاء بمستوى كل ما هو بشري إلى الإنساني، وهي الغاية والمطلب.
3) الفصل الثاني : فاعلية كلا الشاعرين .
المبحث الأول : التحدي والمجابهة: يتم التعرف على شاعرينا اللذين اختارتهما الدراسة وعرض بعض من نتاجهما القولي والذي يمثل غرض الرفض والتمرد، بل يعتبر السمة الغالبة على شعريهما، علماً بأننا لم نتطرق لسيرتيهما الذاتية بغية السرد والتوثيق؛ وإنما تطرقنا للتحديات التي جابهاها، فنتج ما هو بين أيدينا، وما استحق أن يكون موضوعاً للدراسة .
المبحث الثاني : فاعلية النص : وبما أن منهج التحليل الفاعلي اهتم بأطراف العمل الثلاث مبدعاً ونصاً وقارئاً، فإن هذا المبحث يهتم بنصوص شاعرينا الرافضة والمتمردة، دون النظر لأجواء النص وأسبابه. ففاعلية النص من العناصر الأساسية لفاعلية المبدع، فإذا لم يكن لنصه فاعلية مؤثرة في المتلقي بحيث يكون مؤثراً ومغيراً ومعبراً وفاعلا، حينها يفقد النص مذاقه وسر نجاحه، ومن ثم الاستمرار من عدمه .
المبحث الثالث : فاعلية المتلقي، وفي هذا المبحث يتم التطرق إلى متلقي النص، ومقدار تأثره به حسب بنيته التي يحتازها، تناسلية كانت، أو برجوازية، أو الخلاقة، وبما أن النص ملكاً للمتلقي، كما النهر هو ملك للمصب وليس للمنبع، فإن العبء يقع على كاهله، من أجل تصدير فاعلية بعينها، ربما تخالف بنية مبدع النص وقصديته وربما تتفق، وقد تم عرض بعض قراءات تمت على شعر كلٍ من شاعرينا أمل وعبدالرؤوف، وتلخيص وجهات النظر فيه، وإبراز فاعلية متلقي نصوصهما بكل حياد .
4) الفصل الثالث : الأنماط التعبيرية .
فقد كان هو بيت القصيد، حيث قسمته إلى أربعة مباحث كما يلي:
المبحث الأول : الأنماط السياسية، وفيها تم التطرق إلى كلمة السلطة وسلطة الكلمة، من خلال أبيات لأمل وعبدالرؤوف في محاولاتهما المستمرة من أجل خلخلة البنية التي هما بصدد مواجهتها، منوهين إلى الأسلوب الذي اتبعه كل منهما في تعبيره عن رفضه وتمرده مع ذكر أوجه الاتفاق والاختلاف .
المبحث الثاني : الأنماط الاجتماعية، من خلال النماذج المختارة، تطرقت الدراسة إلى العصبية المسيطرة على المجتمعات العربية وسيادة العادات والتقاليد والسنن غير الصالحة بغية قمع الأفراد ورضوخهم، من أجل مصالح بعينها أو شريحة بعينها، غارقة في دياجير الظلم والتقوقع في ثنايا الماضي بكل تناقضاته مع الزمن الحاضر، بحثاً عن زمن مضى، ولحظات كرامة يفتقدها الحاضر، وعن هوية غائمة، أو اللجوء للآخر، دفعاً لوطأة الهزيمة، وسعياً لمعرفة سبب تفوق الآخر وانكساره، ظناً أن غياب تلك المعرفة كانت سبباً في الهزيمة .
المبحث الثالث : الأنماط الدينية ، تمت الإشارة في هذا المبحث إلى بعض من القراءات النقدية المعاصرة لمجمل الخطاب الديني، والخلط الواقع بين النصوص الدينية والفكر الديني، من فهم النصوص وتأويلها وبين النصوص ذاتها، مما نتج عنه الشيع والمذاهب والتيارات السلفية والتي في حالة مد وجزر لا يتوقف، ولن يتوقف مادمنا نحتكم لحرفية نصوص هي ذاتها تأمرنا بالتعقل والتدبر والتفكر، رافدة كل ذلك ببعض من النماذج الشعرية لكلٍ من شاعرينا .
المبحث الرابع : الأنماط الثقافية، وهو عصارة كل ما سبق ذكره وتلخيص مجّمع في نسيج واحد، ولكن يختلف من مجتمع إلى آخر كل حسب مدخلاته، وظروفه السياسية، والاجتماعية، والدينية بما يخدم مصالح البنية السائدة في تلك المجتمعات، وبما يشكل لها طابعاً مخالفاً يميزها عن غيرها، مع التمثيل .
5) الفصل الرابع الأنماط الفنية :
فلقد كان للأنماط الفنية وتنقسم إلى ثلاثة مباحث كما يلي :
المبحث الأول : بنية اللغة ، تم التطرق في هذا المبحث إلى لغة كلا الشاعرين، وكيف أنهما اعتصرا كل إمكاناتهما واستثمراها وجعلاها تتجاوز حدود مناطقها التعبيرية، من أن تحيط بكل أعماق التجربة الشعورية وأبعادها الخفية، من استعمال المفردة وما تشكل منها من أفعال متزامنة، ودلالة الزمن فيها، وإخراج الشيء من نقيضه إلى غير ذلك من فنيات اللغة وسحرها .
المبحث الثاني : بنية الصورة، تم إظهار إمكانات الشاعرين في استعمالهما كل ما يجمِّل الصورة ويحسنِّها من روعة الخيال وخصوبته مستخدمين فنون الإيماء والغموض والإيحاء، والظهور، فتحمل المتلقي إلى عالم يشبه الأحلام فيؤثر فيه ويحقق ما يصبوا له من خلال تلك الصور إن نجح في إيصالها، حسب بنية المتلقي .
المبحث الثالث : بنية الإيقاع، تم التفريق بين الإيقاع المعروف كمقياس من أهم المقاييس الفنية للإبداع الشعري، وبين كونه عملية جوهرية وضرورية لمجموعة اعتبارات كتأكيد قوي لمعنى الكلمات، وضغط على الانفعال والأفكار، لذا فسنترك الإيقاع الخارجي " الموسيقي التركيبية "، ونتعامل مع الإيقاع الداخلي " الموسيقي التعبيرية "، لكلا الشاعرين ونفصِّل القول من حيث : إيقاع اللغة _ إيقاع العصر _ إيقاع الرفض والتمرد .
ومن أهم المصادر التي استخدمها الباحث في الدراسة:
1) أمل دنقل ، الأعمال الشعرية الكاملة _ دار العودة _ بيروت _ مكتبة مدبولي _ القاهرة _ ط2 1985ف .
2) عبدالرؤوف بابكر السيد _ديوان الحروف _مطبوعات مجلة المؤتمر _ ط1 _2007ف.
3) عبدالرؤوف بابكر السيد _ النص الأدبي الاستلاب والفاعلية _ منشورات جامعة التحدي ليبيا_ ط1 سنة 2008ف .
4) الشيخ محمد الشيخ _ الإنسان والتحليل الفاعلي _ تحليل الشخصية السودانية من خلال _"موسم الهجرة إلى الشمال و" عرس الزين " دار الوعد _ الخرطوم _ سنة1989 ف .
5) عبدالعزيز قباني _ العصبية بنية المجتمع العربي_ منشورات دار الأفاق الجديدة _ بيروت ط1 _1997 ف.
6) عبلة الرويني سفر أمل دنقل _ الحياة المصرية العامة للكتاب 1999ف .
7) عبلة الرويني الجنوبي _ دار سعاد الصباح _ ط1 _ 1992ف .

أما الصعوبات التي واجهت الدراسة إضافة إلى أسباب اختيارها والتي سبق ذكرها فتمثلت فيما يلي :
1) غياب دراسات أكاديمية حول شعر عبدالرؤوف بابكر السيد، الأمر الذي أدى إلى التركيز على الشاعر نفسه والاعتماد الكلي على الذات في تحليل نصوصه.
2) غياب دراسات تناولت شعر الرفض والتمرد كغرض شعري غالب على نصوص أغلب شعراء العصر، ناهيك عما وجدته هنا وهناك من المقتطفات التي لا ترضي نهم الباحث في أدب الثورة والمقاومة .
وقد تم إرفاق ملحق يتضمن الحوار الذي أجرته الباحثة مع الشاعر عبدالرؤوف بابكر السيد.
وأنا بهذا الجهد لا أدعي الكمال والتمام، فإنتاج شاعرينا أمل وعبدالرؤوف ما يزال في حاجة إلى المزيد من الدراسة العميقة، التي تميط اللثام عن مساهمات هذين الرائدين في إثراء الأدب المعاصر، ودورهما الكبير الذي لعباه في قراءة الواقع.

كما جاءت خاتمة الدراسة كما يلي:
حين يصبح الشاعر قادراً على أن يقول الكلام الذي ليس من الكلمات، فليس لأنه مولع بابتكار لغة بيانية زخرفيه يتباهى بتثويرها وتفجيرها، ولكن هذه اللغة المبتكرة سيرافقها طرائق تفكير مبتكرة من شأنها أن تنقل الإنسان من مستهلك للكلام إلى منتج للفعل، أي إلى منتج للكلام الفاعل الذي يفضى إلى التغيير والتثوير.
فلغتنا السائدة هي لغة الأوضاع السائدة ، وهذه الأوضاع مختلفة، على جميع المستويات، لهذا كانت لغتنا متخلفة على جميع المستويات " إنها لغة بيانية ، صنعية ، زخرفيه ، والمجتمع هنا يستهلك اللفظة ، كمتعة فردية ، أي كما يستهلك السلعة، هكذا فقدت اللغة حيوية الإبداع وحرارة الحياة ،... إنها تمجد لحظة الكلام ، لا لحظة العمل ، لحظة الاستهلاك ، لا لحظة الإنتاج "( ).
من هنا ، ومن هذه اللغة تولد " اللغة الوحشية " ( ) ، يولد التمرد ، اللغة البدائية الطازجة التي لم تستأنس بعد، وعلى جناح هذه اللغة يمكن للشاعر أن يحلق إلى آفاق الحرية :
" لا تكتبُ أرض الحريّة إلا لَُغَةُ وحشية " ( ).
وانحياز الشاعر المعاصر لهذه اللغة يعنى أنه يعلن ترك اللغة الضد والتي تشمل لغة الاستعطاف، والاسترقاق والاسترحام، لغة البكاء على الأطلال والعبرات والنظرات والحسرات التي تستهوي أفئدة الغالبية العظمى من الجماهير ، وتداعب أحاسيسهم البدائية ، وتهدهد آمالهم المحبطة، وتكّرس لحالة السكر التي يغرقون في لججها .
وكما يقمع الإنسان الإنسان، كذلك تقمع الكلمات الكلمات، والشاعر الذي نذر نفسه لتحرير الإنسان من الإنسان يدرك أن هذا التحرر لا يصل إلي غايته إلا بتحرير الكلمات من الكلمات، والتخلص من الثقافة السلطوية أو التسلطية، بدعوات مستمرة إلى التأمل ملياً في طبيعة هذه الثقافة التي لا تعرف لغة الاختلاف أو لغة الحوار، والوقوف في وجه من يقيمون أنفسهم أوصياء على الفكر، والسياسة والأدب، والفن، والدين، مستخدمين آليات القمع الجسدي والنفسي لمواجهة من يختلفون عنهم، ولا يرون رأيهم، الذي يعتبر الصانع للحاضر، والذي ما هو إلا صورة مستنسخة من الماضي، بكل سلبياته ومخلفاته ولا ننكر بعضا من الإيجابيات التي كانت صالحة فيما مضى .
ووفقاً لهذه الرؤية التي توصلت إليها الدراسة ثمة نتائج نلخصها فيما يلي :
أولاً : من حيث الفاعلية:
أ‌) فاعلية المبدع حسب البنية التي يحتازها وفي دراستنا ، فإن كلا الشاعرين قد احتازا بنية وعي خلاق أولهما وهو أمل، من خلال الظروف الحياتية التي تصدى لها بفاعلية، والتحديات التي جابهته فطوعها إيجاباً من خلال إبداعه، وثانيها وهو عبدالرؤوف فمن خلال علمه وقراءاته وتساؤلاته المستمرة حول السائد، وعن الضعف فيه ، إضافة إلى قراءته الثاقبة لكل ما يحيط به، والأحداث التي مرت بها بلاده وأمته العربية فاختار أن يكون مسحراتي في الظهيرة، بأسلوب وخطاب لا ترفضه البنية السائدة رغم الأسئلة التي يطرحها، مخاطباً العقل متحدياً البنية أن تجيب عليها، ومن خلال مهنته التربوية التي احتازها، وصوته الإعلامي الذي وظفه وأخيراً إبداعه الشعري .
ب‌) إن فاعلية النص تجلب من خلال التجاوب وتصدير الفاعلية للقارئ، ورسم الواقع التخيلي عبر اللغة، وشحنة الأفكار ومساءلة البنى القاصرة والدعوة لاحتياز بنية وعي مفتوح خلاق، إضافة إلى الدعوة إلى المحبة والتعامل مع الآخر والدخول لرحاب الإنسانية .
ج‌) إن فاعلية القارئ، ليست هي إلا قراءته وفق بنيته التي يحتازها، ويوظف النص لصالحها وقد تجلى ذلك من خلال عدد من القراءات لنصوص كلا الشاعرين والتي قدمنا لها عرضاً في متن الأطروحة .
ثانياً : من حيث التمرد:
أ‌) إن خطاب الرفض والتمرد يتسم بعدة خصائص تتمثل في المباشرة حيناً، وفي الرمز والتعمية حيناً أي أنه يخاطب البنى المختلفة عبر الإبداع اللغوي.
ب‌) إن ظاهرة الرفض والتمرد ليست حديثة ولكنها تشكل في العصر الحديث قوة مفتوحة الفضاءات تستطيع أن تؤثر وأن يبلغ خطابها مداه، رغم التهميش والمواقف المتعسفة التي تمارس من رفض وتمرد على السائد .
ج‌) إن الخروج عن السائد والمألوف رغم إيجابيته، إلا أنه في كثير من الأحيان تحاصره البنى السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية بشكل عام ، فيظل الرافض المتمرد صعلوكاً مغترباً في وطنه، لكنه يصر على مشروعه ورؤيته مهما كلفه ذلك من معاناة، فهو مقتنع بأن هذا هو دوره في هذه الحياة (الحب والإبداع، والعطاء الشامل) مهما وقفت البنى السائدة في وجهه، وحاولت تحجيم دوره، وخلق نجوميات السلطة عبر إعلامها الرسمي .
ثالثا ً : من حيث الموازنة:
توصلت الدراسة إلى أن كلا الشاعرين أمل وعبدالرؤوف قد اشتركا في بعض السمات والخصائص و اختلفا في بعضها الآخر، وقد عرضنا إلى المشترك منها متمثلاً في :
1) أن كلاهما يحمل أفكاراً وروىً، تتعارض مع أفكار البنية التناسلية والبرجوازية، كرفضهما للتراث والتقاليد والأعراف السلبية، والدعوة الملحة للمعاصرة ، والحرية والصدق ومعاني الحب والخير والعطاء .
2) كلاهما دعا البنية السائدة إلى مواجهة الصعوبات والتحديات والصراعات والنزاعات التي تواجه الإنسانية اليوم، مما يعرقل مسيرة العطاء والإبداع ، من أجل تهيئة حياة كريمة للإنسان .
3) كلاهما رفض وتمرّد واستطاع أن يؤثر بشكل واضح، وجاد لتغيير الواقع السائد، وذلك بخلق واقع بديل، فكان بمثابة المسحراتي في الظهيرة .
4) كلاهما تعرض للقمع والحرمان من البنية وعانى في سبيل قول ما يجب أن يقال، لا ما يجب أن يسمع ويعمم .
5) كلاهما كان متديناً في صباه، وعندما تقدمت بهما السن استطاعا أن ينتهجا أسلوباً مغايراً عما تلقياه في صباهما من تلقين وتعليم، وذلك بطرح التساؤلات ليس بهدف إنكار الله ولكن مخاطبته ومناقشته والبحث دائماً عن الإجابة لأسئلة صعبة لم يجداها أثنا قصور وعييها.
أما المختلف منها فقد تجسد في الوسيلة والنهج والأسلوب بالدرجة الأولى ويأتي في الدرجة الثانية :
1) أن أمل استعراضي يبحث عن لفت الأنظار إليه دائماً "( )، على عكس عبدالرؤوف فهو لا يميل إلى لفت الأنظار إلى شكله وهندامه بقدر ما يهوى أن يكوّن رصيداً إنسانياً وأدبياً .
2) أمل " يخاصم أصدقاءه إذا دخل عليهم فلم يتهللوا واقفين جمعياً في فرحة بلقائه، يقتحم الآخرين اقتحاماً، ويبادرهم بالسؤال المباغت في أشد مناطق خصوصياتهم، كأن الحياء لم يمر ببابه ، .... ، انفعالي حاد يتشاجر في لحظات الغضب الأكبر بالأيدي والكراسي والسباب، يهوى المشاحنات الكلامية، والمداعبات الحادة في جرأة مستفزة "( ).
أما عبدالرؤوف، فهو متزن وهادئ لا يكاد يسمع صوته وهو يتحدث، ولكن عند صعوده منصة الشعر ليلقي بدرره على المسامع التي تأبى أن تنصت ، تنقشع الشخصية التي تختبئ وراء ذلك الجسد النحيل ، بصوت رخيم أبرق وأرعد ، يضحى " شيخاً أخذته نشوة الجذب في الحضرة ، فارساً يمتطي صهوة فرسه الجموح "( ).
3) أمل تمسك وبقى في موطنه يعاند التهميش والإقصاء، أما عبدالرؤوف فلقد لجأ إلى الغربة بعد أن ضاق ذرعاً بما لقيه من قمع وتـنكيل.
ونهاية القول فإني آمل من الله تعالى أن أكون قد ساهمت بهذا الجهد المتواضع في تحقيق بعض من الأهداف التي جاهد في سبيلها شعراء الرفض والتمرد، ومن بينها التنبيه إلى مخاطر الادعاء بامتلاك الحقيقة، والعنصرية والتطرق في كل النواحي، كالماضوية والسطحية والاتكالية المفرطة على المغيبات والتفاخر بالأنساب والبكاء على الأطلال ، وكل ما يتنافي مع ما تنادي به الرسائل السماوية والدعوة المستمرة للحب ولعطاء الشامل، وإني لأسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يجعل هذا العمل مفيداً لقرائه في كل البنيات التناسلية والبرجوازية والخلاقة .





.





إقرأ المزيد Entry>>

الأحد، 29 نوفمبر 2009

أفريقيا بحروف أبنائها (1):
عبد الرؤوف بابكر السيّد



إن الوضوح الذي اتسم به الشعر العربي تجاه أفريقيا أملته ظروف النضال وواقعيّة المرحلة والعمل على تعبئة الجماهير للتحرّر من أسر الاستعمار والتفرقة العنصريّة والاضهاد وصلف البنية الماديّة الغربيّة التي استباحت أفريقيا بأرضها وخيراتها وإنسانها، لذا فهناك من جابه بعنصريّة ، وهناك من جابه بوعي مفتوح ، وهناك من خلّد الأبطال الأفارقة، وهناك من لجأ إلى التراث الأفريقي متشبثا به معليا من شأنه مصوّرا له حتى لو اختلف مع معتقده . والجميع لم يفكر بأنه يكتب باللغة العربيّة التي وبكل تأكيد لن تصل إلي غالبيّة أفريقيا ولكنه من منطلق أفريقيّته أو من منطلق إنسانيّته واشتراكه مع أخيه الأفريقي.
* الجميع اشترك في حب أفريقيا، الوطن الأم ، أحبّوا غاباتها وهضابها وأنهارها ووديانها ، وإنسانها ، فقيرا ومعذّبا ومظلوما ، عاريا وحافيا قدما ورأسا وقواما ،إنهم حين يتغنون بأفريقيا ، لا يشعرون بأنها غيرهم بل منها أرضها أرضهم وهم أبناؤها وإن باعدت بينهم المسافات، أو سدّت أفق التواصل بينهم اللغات.
* لقد أخذت أفريقيا مساحة واسعة من الشعر العربي، ولا أظن أن اللغات الأفريقية الأخرى إلاّ وبها من الوجد والعشق والشوق والحب لأفريقيا الأم أكثر مما بها من عشق الأقطار الصغيرة ، كلها روافد للنهر الكبير ، للقارة العملاقة التي استبيحت أرضا وسماء وإنسانا زمنا ، واحتملت واحتمل إنسانها كل القهر والاستعباد والاستغلال ، وهاهي بعد نضال مرير وبطولات وتضحيات بدأت بسعة صدر تضمد جراحها وتلملم شتاتها وتحتضن بنيها .

. سنحاول فيما يلي أن نسلط الضوء على بعض من الشعر والشعراء العرب الذين انحازوا لأفريقيا ، وعملوا لإنصافها والتغنّي بها باللسان العربي .. آملا أن أجد في اللغات الأفريقيّة الأخرى ما يشكل ديوان أفريقيا في عيون أبنائها وبأقلام مبدعيها . وفي ذلك ما يدحض افتراءات الغرب الذي سعى للتفريق بين شمال القارة وجنوبها ، بين ثقافة عربيّة وأخرى أفريقيّة ، بين شمال الصحراء وجنوبها .. وفيه أيضا ما يعزّز السلام في السودان بين شماله وجنوبه ، حيث عشق إنسان الشمال أخاه في الجنوب ، وظل يناديه ليعانقه زمنا ليس باليسير، وفيه ما يؤكد على وحدة هذا الفضاء العربي الأفريقي من حيث النضال وعشق الحرّية ، والتوحّد على هذه الأرض .
* أفريقيا قارة مسالمة ، مهد للإنسان وحضاراته ، استبيحت ونهبت ثرواتها ولا تزال ، واستعبد إنسانها ، وسخّر لخدمة الأبيض ، هجّر من موطنه وطبيعته لموطن آخر وطبيعة أخرى ، واستعمر ولقّن لغات أخرى غير لغته . من هو هذا الإنسان ، كيف يشعر كيف يعيش؟ متى سيحقّق ذاته ويبدأ في بناء قارته كما بنى القارات الأخرى ويحتلّ موقعه تحت الشمس وفوق الأرض ، ذلك يتوقف على وعيه وفاعليته وإبداعه وتوحّده .
* الشعراء العرب جمعتهم هذه المعاناة في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الماضي ، فسجلوا موقفهم النضالي بجرأة توضح مدى عمق التعاطف والتوحّد بين الإنسان في شمال القارة أو جنوبها رغم معاناته ونضالاته التي أجّجت الثورة في أفريقيا بأكملها، وبقي مع هذا التوحّد عبر حركات التحرر حتى نال آخر قطر أفريقي استقلاله وحريته .
* في مقدّمة الشعراء العرب المعاصرين الذين تغنّوا بأفريقيا وحرّضوا على الثورة والتمرّد شاعرنا محمّـد الفيتو ري الذي حملت دواوينه اسمها (أغاني من أفريقيا) و (عاشق من أفريقيا) و (أحزان أفريقيا) حيث أصبحت أفريقيا رمزا لتمزّقه وضياعه وغليانه وتمرّده :

* لتنتفض جـثّة تاريخـنا ولينتصب تمثال أحقـادنا
آن لهذا الأسود المنزوي المتواري عن عيون السنا
آن له أن يتحدّى الورى آن لـه أن يتحدّى الفـنا
فلتنحن الشمس لهاماتنا ولتخشع الأرض لأصواتنا
إنا سنكسوها بأفـراحنا كمـا كسوناها بأحزانـنا
أجل فإنا قد أتـى دورنا أفريقيا . إنا قد أتى دورنا

• الفيتوري الذي يعشق أفريقيا :

أنا في حبّك مليون ضحيّة
تتهاوى تحت أقدام جلالك

* يقول متوحدا كأي أفريقي ذاق من الضياع والتشرد ما ذاق ، وطوى ليالي الغربة فيها منحازا بكل نبضة في مشاعره إليها ، ولا يزال يغنّي لها :

ومنذ ما انطلقت ضائعا مشرّدا
أطوي ليالي غربتي
وأمتطي خيول سأمي
كنت عذابي أنت يا أفريقيا
وكنت غربتي التي أعيشها
وحينما غنّيت، غنيت لعينيك
ومسّت شفتيّ في وله رموشها.

* وبحكم انحيازه للجموع مافتئ الفيتوري يسخر فنه وإبداعاته وانفعالاته لأرض الانفعالات ، حيث أضحت أفريقيا مشروعه الذي يتغنى به ليله ونهاره مكرسا حياته لها ولإنسانها الذي ألهمه هذا الإبداع والفن فكتب نفسه فيه:

لم تمت فيّ أغانيّ فما زلت أغنّي
لك يا أرض انفعالاتي وحزني
للملايين التي تنقش في الصخر وتبني
والتي ما فتئت تبدع فنّي

* وتظل نداءا ته لها لا تنقطع محرّضا وداعيا لليقظة من نوم طال وليل تطاول :

أفريقيا استيقظي
استيقظي من حلمك الأسود
أفريقيا النائية
يا وطني ، يا أرض أجداديه
إني أناديك
ألم تسمعي صراخ آلامي وأحفاديه

* ويصرّ على محو وصمة العار والذل التي علقت بأفريقيا الثورة رغم المعاناة والبؤس والقهر ، حتى تحقيق النصر، يقول في (أغاني من أفريقيا) :

إن نكن سرنا على الشوك سنينا
ولقينا من أذاه ما لقينا
إن نكن بتنا عراة جائعينا
أو نكن عشنا حفاة بائسينا
إن تكن قد أوهت الفأس قوانا
فوقفنا نتحدّى الساقطينا
إن يكن سخّرنا جلاّدنا
فبنينا لأمانينا سجونا
فلقد ثرنا على أنفسنا
ومحونا وصمة الذلة فينا.

• إنه شاعرنا محمد الفيتوري، تقول بطاقته الشخصيّة ، إنه من مواليد عام 1930، في بلدة (الجنينه) عاصمة دار المساليت، الواقعة على حدود السودان الغربيّة، دخل المعهد الابتدائي الديني بالإسكندريّة، درس في الأزهر ، وعمل بالصحافة في القاهرة والخرطوم وبيروت، أصدر عدّة دواوين أهمها (أغاني أفريقيا) و ( عاشق من أفريقيا ) و (أحزان أفريقيا) و(اذكريني يا أفريقيا)و(معزوفة لدرويش متجوّل) و(أقوال شاهد إثبات).

( مشهد من أحزان أفريقيا):

( ممر صخريّ شديد الانحدار.. السكون والوحشة يخيّمان على أشجار الغابة الكثيفة ، التي يتسلّل خلالها الممر .. سحب جامدة تغطّي الأفق..
الوقت ليل محتقن ...
يخترق الصمت المقدّس أصداء خطى (نازاكي) المغنّى غير المرئي قادما من بعيد .. في الخلفيّة أطلال قلعة عتيدة .. كل شيء يوحي بغرابة المشهد .. )

نازاكي: عودوا أنى كنتم ..
غرباء كما أنتم ..
فقراء كما أنتم ..
يا أحبابي الموتى عودوا ..
حتى لو كنتم قد متّم .

كورس الموتى: صمتا.. صمتا من الطارق أبواب الموتى؟
يا هذا الطارق، من أنت ؟ من أنت؟
أتكون الريح تحرّك فوق الأرض قوائمها البيضاء
ما شأنك أيتها الريح العرجاء بنا؟
ما شأن الريح
ما شأن الريح ..
أتكون الشمس المشدودة
سقطت في قاع الكون
أيكون الكون؟
أيكون الكون .

نازاكي: فقراء كما انتم
غرباء كما أنتم ..
عودوا يا أحبابي الموتى ..
حتى لو كنتم قد متـم..

كورس الموتى: أيكون العالم ؟

لم يوقظ عالمنا هذا العالم.
ماذا يبغي منا
يستجدي موتى مشنوقين؟
يستجدي موتى منفيّين ؟
يستجدي موتى مجلودين ؟
لم يبق لدينا ما نعطيه..
أعطيناه دمنا،
أعطيناه حتى أعظمنا،
وجماجمنا ..
ومضينا مقهورين..
لا نملك إلاّ بعض تراب من ماضيه.

نازاكي: فقراء كما أنتم
غرباء كما أنتم
عودوا يا أحبابي الموتى
حتى لو كنتم قد متّـم ..

كورس الموتى: كانت حيتان النهر
تلوح خلال النهر
نجوما من فضة
وطيور الكركي البضّة
تتنقّل عبر الأعشاب الخضراء
وصبايا القرية يوقدن النيران
وبضعة أطفال في الماء
وتلوّت أحشاء الغابة
صرخت فجأة
واصفرّت اشجار الغابة
هرمت فجأة
وتعالت راقصة نار القرصان
وتساقطنا قتلى ..
وتساقطنا جرحى ..
وتساقطنا أسرى ..
ورأينا حينئذ وجه السجان
كانت دنيا من أحزان
يا هذا الطارق أبواب الموتى
ضوضاؤك تفزعنا
وتقضّ مضاجعنا..
فارجع لا تفجعنا
لا تحرمنا النسيان .

نازاكي: يا أحبابي الفقراء
يا أحبابي الغرباء
كنتم أبدا عظماء

كورس الموتى: ( ضجّة)
يدعونا كي نرجع
يا وابور الأعمى .. يا كافور الأقرع
يا دودو .. يا مرسال .. أو تسمع .. أو تسمع؟
قد كنت عظيما حتّى في الأغلال

( أصوات مختلطة.. ليست بضحك .. ولا بكاء .. زحف أقدام
وسلاسل وسياط ـ طبول حزينة تدقّ ببطء ..)
أغنية الغربة الأولى

دميت أيدين .. أرجلنا
لكنا سوف نسير
ومياه النهر تسير..
وشموس الأفق تسير..
وتراب الأرض يسير
فوداعا يا أفريقيا ..
يا رمحى المكسور.
يا أفريقيا .. يا كوخي المهجور
يا أفريقيا .. يا وجهي المذعور..
سأكون بعيدا عنك .. بعيدا عنك ..
وتنتصب الأسوار
ما بين خطاي وبينك .. يا أفريقيا ..
وتطول الأسفار
لكنك حتّى طعم الخنجر
حتى طعم العار..
في قلبي .. في عيني ..
يا أفريقيا المفقودة .. ليل نهار
ونظلّ نســــــــــير
ومياه النهر تســـــــير
وشموس الأفق تســـــير
وتراب الأرض يســـــير
فوداعا يا أفريقيا .. يا أفريقيا ..

( صوت القافلة الحزينة .. العبيد مغلولون .. أصوات السلاسل.. النخاسون في المؤخرة .. الحرس لا يكفون عن الحركة .. إيقاعات الطبول تختفي شيئا فشيئا )

.

إقرأ المزيد Entry>>

الجمعة، 27 نوفمبر 2009

قراءة في بحر العقل
دراسة فكريّة لنص الشاعر
عبدالرؤوف بابكر السيّد(نصوغ حياتنا وكما نريد)
مصباح الغنّاي سالم – جامعة سبها – ليبيا


مقدّمة وإشارة:
يوجد مفهوم يتفق عليه البعض، وهو أنّ فهم الحقيقة يعني المستحيل، بمعنى أنّ الحقيقة شيء مختلف عن الواقع. ويقول الفيلسوف نيتشة في هذا المجال:"الحقيقة خفاء" . ولكن إذا كانت الحقيقة خفاء، وفهمها استحال على البشر، كيف الطريق إليها، ومن هذا المنطلق جاءت هذه القراءة لفهم نصّ أدبيّ في مفرداته، فكريّ في معانيه الكامنة، وهذه الدراسة دراسة فكريّة فحسب، وحتى لا يقال أننا دخلنا من النافذة فعنوان النص لا ينتقد أحدا، ولا حتى يتطاول على بحور الشعر العربيّة المعروفة، بل نجد العنوان من أجل وضع بعض النقاط على بعض الحروف، وبذلك فهو "أي النص" يؤمن باللغة عاملا مهمّا لخلق الإبداع، ومن هنا جاءت دراسة الجانب الفكري دون الجانب الأدبي واللغوي، وعبر هذا الكم يكون الكيف عنوانا محدّدا ألا وهو "قراءة في بحر العقل". وهو بالتأكيد ليس بحرا جديدا، بل الدخول فيه بطريقة قراءة آليات النص، وذلك عبر مستويات خمسة هي:


.
(1) المستوى الإشكالي.. (2) المستوى الدلالي.. (3) المستوى التأويلي..(4) المستوى التناصّى.. (5) المستوى النقدي..
وعبر كل مستوى نسعى لتوضيح مقصديّة النص بمعنى غاية النص، ولعلّ فهم مقصديّة الكاتب"عبدالرؤوف بابكر السيّد" هي الأهم.
فالمستوى الأوّل يدرس الأسئلة المطروحة، وهي تمثّل أسئلة الأفكار.أمّا المستوى الثاني فيمثّل المفاهيم المطروحة، وبالنسبة للمستوى الثالث فهو توضيح معاني النص الحقيقيّة، والمستوى الرابع هو النظر لثقافة النص عبر نظريّة التعالق، أمّا الخامس والأخير فهو كشف النص وفقا لنظريّة النقد..
وكما يقول المفكّر بول ريكور عن "النص وصاحب النص":(إنّ النص ملك للقارئ بمجرّد وصول عينه إليه). إنها المنهجيّة العقلانيّة التي تدرس عقل النص
أوّلا: المستوى الإشكالي:
الذات حرف لا يغيب، رغم النوازل والخطوب؟
هم يملكون دون غيرهم الحرف والعقل الكبير؟
هم يملكون الحقّ في التفسير والتأويل؟
هاجرت عن دارنا كلّ الكفاءات الصفات؟
هم ضيّعوا باسم السلام ديارنا؟
هم شوّهوا باسم السياسة ذاتنا؟
تلد النساء الموت! فأين هي الحياة؟
من يرتدى الخوف جلبابا؟
من يحتمل جلاّده؟
يا ترانا قد نصبنا لهذا العجز مشجبا؟
يا وطني قل لماذا؟
والأسئلة الآنفة الذكر تسبقها بعض الأدوات اللغويّة المنتشرة في النص مثل: كيف؟ ولماذا؟ وأين؟.. وإذا أردنا معرفة خفايا هذه الأسئلة علينا فهم المصطلحات الرئيسية للنص.
ويطرح صاحب النص أسئلة كبيرة وكأنه يؤسّس لنظريّة جديدة في عالم الفكر من خلال ما يلي:
لماذا التاريخ أعمى؟
كيف أضحى الفكر بلا حجب؟
فكيف لنا أن نقرأ أبعاد التكوين؟
لماذا أضحى الفكر للجموع بلا حجب؟
كيف لم يتّسع هذا الكون للحب؟
لماذا الخلق والإبداع لا يأتي؟
كيف أضحى القلب مشنقة الحروف؟
وللإجابة عن هذه الأسئلة نختتم كما أقفل صاحب النص نصّه وذلك بإجابة.. إذن الإجابة بإجابة وليس السؤال بسؤال" ولكناّ نصوغ حياتنا وكما نريد" – نحن نريد حياة كريمة..
وهنا نلاحظ جملة من المفارقات العجيبة تدلّ على أهميّة السؤال، وهذا ممّا يجعل النص أكثر ثراء بالمواقف الفكريّة، وأهم هذه المفارقات:
1- ياترى أيّ ربّ صادر الحرف من الإنسان والفنّان والمطرب!
2- ربّنا الله وتلك الآلهة من صخور تنتصب !
3- حين أضحى القلب مشنقة الحروف!
4- تلد النساء الموت !
5- الله لو يرضى لنا هذا التخلّف والتناحر والخصام لثبّت العينين خلف الرأس، لكنه يعني التقدّم للأمام.
6- العشق أضحى المشنقة!
هذه المفارقات تعدّ نصّا بحدّ ذاتها، ولكن لأنّ النصّ كلّه أسئلة ومفارقات، وضعنا هذه الأخيرة ضمن الإشكاليّات، أمّا الشرح الخاصّ بها فسيكون ضمن المستوى التأويلي.

ثانيا: المستوى الدلائلي:
(1) الذات: الذات في اللغة "ذا" اسم إشارة يدلّ على القريب، ويستخدم أهل النيل"السودان – مصر" هذا الاصطلاح أكثر من غيرهم. أمّا "ت" فهي حرف النفس أو على هو هو تماما مثل قولنا:"هو ذاته" والهاء عائدة على "ذات". والذات في اللغة هي النفس، وهي الشيء نفسه، وهي الشخصيّة، وهي اسم الذات، وتأتي الهويّة في مواجهة الآخر، والآخر هنا هو بقيّة الثقافات، ويقابله اسم المعنى، وللذات أسماء عدّة:
- ذات الصدر/ الفكر
- ذات الصدر/ سريرة الإنسان "نفسه"
- ذات الجنب / إلتهاب في غلاف الرئة
- ذات اليد / ما تملكه
- ذات الشفة / الكلمة
والذات في المصطلح تعني كما يقول صاحب التعريفات:"الذات يطلق على الجسم وغيره
والشخص لا يطلق إلاّ على الجسم" ومعنى ذلك أنّ الذات في اللغة هي ما في المصطلح
فلا فرق بينهما في المعنى. وللذات معان منها:
1- الذات ما يقوم بنفسه.
2- الذات الموضوع ويقابله المحمول.
3- الذات هي الماهيّة.
4- الذات في المنطق مجموعة من المقوّمات تحدّد مفهوم الشيء
5- هناك نوعان من الذوات هما الفرديّة مثل محمد، وعلي، وتدرك من خلال الحس، أما الأخرى فهي النوعيّة مثل الإنسان والجبال وهي تدرك بالعقل.
(2) الحرف: والحرف في المصطلح يعني الكلمة وكذلك اللهجة، وفي لغة الضاد يعني ما هو ليس بفعل أو اسم، يكون الحرف مثل الكاف"ك" الواو"و" و"من" الخ..
(3) الحبّ: يحبّ :حُبّا وحَبّا (أ) ودّه (ب) رغب فيه (ج) أراده.. الحبّ نقيض البغض، وهو الوداد والمحبّة، والميل إلى الشيء السار، والغرض منه إرضاء الحاجات الماديّة أو الروحيّة، وهو مترتّب على تخيّل كمال في الشيء السار أو النافع يفضي انجذاب الإرادة إليه، كمحبّة العاشق لمعشوقه والوالد لولده، والصديق لصديقه. وللحبّ درجات مختلفة أولاها الموافقة وأقصاها العشق. وإذا دلّ الحبّ على معنى مضاد للأنانيّة، كان الغرض منه: إمّا جلب المنفعة للغير كمحبّة الكريم للبائس، الأستاذ للتلميذ.. وإمّ إنكار الذات والتجرّد من المنفعة والانجذاب للقيم المثاليّة، كمحبّة العالم للحقيقة، والشاعر للجمال، والحكيم للعدل،وبذلك فالحبّ في الفلسفة المعاصرة إمّا حب الذات للذات ، أو حب عزّة النفس. فالأوّل يعنى الأنانيّة، والثاني يعني الأنفة والكرامة.
(4) الحريّة: الحرّ، أحرار وحرار: (أ) من يملك حقّ التصرّف بحريّة (ب)الطليق. (ج)من الناس خيرهم، (د) من الشيء الخالص الصافي...الخ.. والحريّة في الاصطلاح هي حالة أو وضع شخص ليس واقعا تحت هيمنة آخر، وهي نقيض العبوديّة. والحريّة وردت في النص بعبارات متنوّعة، منها: أحرارا، وفي ألفاظ مستترة أيضا..
(5) الحقّ: حق : (أ) الصواب (ب) العدل. (ج) اليقين (د) الجدير. (هـ)المال (و) الموت (ز) الثابت الذي لا شكّ فيه. والحقّ ماهو مطالب أو ما هو مباح في جماعة اجتماعيّة، أو ما هو متطابق مع قاعدة أخلاقيّة واجتماعيّة. وللحق أشكال ثلاثة: (1) هو مطابقة القول للواقع (2)هو الموجود حقيقة لا توهما (3) هو التصوّر السالم من التناقض"الممكن في العقل". ويعرّف صاحب التعريفات الحقّ: الحقّ في اصطلاح أهل المعاني"هو الحكم المطابق للواقع، يطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك، ويقابله الباطل. وأمّا الصدق فعدّ في الأقوال خاصّة، ويقابله الكذب، وقد يفرّق بينهما بأنّ المطابقة تعتبر في الحق من جانب الواقع، وفي الصدق من جانب الحكم. فمعنى صدق الحكم مطابقته للواقع،ومعنى حقيّته مطابقة الواقع إيّاه"
(6) الطريق: هو المسلك : (أ) المطروق. (ب) السبيل الواسع يمرّ عليه الناس (ج)مسلك الفرقة من المتصوّفة. والطريق في المصطلح هو الدرب أو السبيل المعروف بالاتساع الذي يمرّ عليه الناس، ولعلّ الكاتب يعني بذكره ضرورة أن يكون الطريق مفتوحا للجميع وواضحا لهم.
(7) الخَلَقَ : يخلق خلقا وخلقه: (أ) الشيء أبدعه على غير مثال سابق (ب) الكذب افتراه واخترعه، في الاصطلاح خلق الله العالم صنعه وأبدعه، ويقال خلق فلان الشيء أبدعه، والخلق هو الإيجاد، والإنسان سيّد الخليقة. وجملة القول أنّ الخلق معنيان:(1) هو إحداث شيء جديد من مواد موجودة سابقا كخلق الأثر الفنّي. (2)الثاني هو الخلق المطلق وهو صفة لله تعالى.
(8) العقل: مصدره عقْل وهو ما يعقِلُ الإنسان عن الخطأ، والعقل جاء القيد أو العقال الذي تربط به الإبل. والعقل هو جوهر مجرّد من المادّة بسيط يدرك حقائق الأشياء الكليّة النظريّة.. وللعقل في فلسفة الإشراقيّين أهميّة بالغة، العقل الفعّال آخر العقول المفارقة، وهو الذي يتصل بعالمنا، ويقوم بعمليّة الفيض أو الخلق، والعقول المفارقة: عقول إلهيّة تفيض من الله. ويقال العقليّ المنسوب للعقل، والعقليّة تعني القائلين بمذهب العقل وحده، وتعني أيضا طريقة تفكير الإنسان، والعقل صفة إنسانيّة يقصد به القيد في الفعل والقول والعمل. والعقل بوجه عام: ما يميّز به الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والعقل السليم الذي قال به ديكارت في مقالة الطريقة، ويقصد بالعقل السليم الاستعداد الفطري لإصابة الحكم، والتمييز بين الحق والباطل، وذهب أرسطو إلى أنّ هناك (1) عقل بالفعل، وهذا فاعل.. (2) عقل بالقوّة، وهذا منفعل، ولا يستغني أحدهما عن الآخر.
(9) سطر: الكتابة – الخط – الكلمات في الكتاب، والسطر مفرد والجمع سطور، أمّا جمع الجمع فهو أساطير، ومنه جاءت الأسطورة، وتحديدا من السُّطُر بمعنى الأقاويل"القول" المنمّقة المزخرفة.
(10) الظلم: صفة شخص أو شيء ظالم، كما يعني كل ما هو ظالم: كراهية حقد.. والظلم يمكن أن يكون قرارا أو حكما أو إجراء مناقضا للعدالة. أما الظالم فهو ما ليس عادلا، ومن يعمل ضد العدالة خاصّة بوعي وإرادة، وبهذا فهو مناقض للعدالة.
(11) الضياع: هو الغربة والاغتراب، ويعرّفه هيغل: بأن يضيّع الإنسان شخصيّته الأولى، ويعرّفه ماركس: بأن يفقد الإنسان حريته وذاته بتأثير اقتصادي ودينيّ واجتماعي. والغربة مرادفة للغيبة، غاب الشيء في الشيء، وهي كذلك مرادفة للاستلاب، غربة النفس استلاب حريّتها.

ثالثا: المستوى التأويلي: يحدّثنا الفيلسوف كارناب وهو كاتب ومفكر معروف، وخصوصا في الدراسات اللغويّة والمنطقيّة قائلا: "الميتافيزيقيا أقرب ما تكون إلى الشعر والأساطير، وإن كان الفارق بين الميتافيزيقي والشاعر أنّ الأوّل منهما لا يريد أن يعترف بأنّ أقواله وليدة الانفعال والعاطفة في حين أنّ الثاني منهما يسلّم بأنّ شعره أداة فنيّة يعبّر بواسطتها عن شعوره بالحياة". "ومعلّم الشعر هو معلّم الحكمة". كما في الأقوال المأثورة في الثقافة الزنجيّة الأفريقيّة.ويقول أحدهم"الشاعر فيلسوف يتخذ البلاغة والفيلسوف شاعر ينشد المنطق والمثل العليا". ولعلّ ولع الشعراء بالجغرافيا والتاريخ والفلسفة وحتى السياسة وعلوم أخرى تجعل قيمة الشعر عظيمة.. وهذا النص لا يخرج عن المألوف من حيث أنه قطعة موسيقيّة أو لوحة تتناغم فيها المعاني والكلمات القويّة والتي تحرّك العقل بشكل يجعل من القارئ يحسّ بها وكأنها مقالة خفيفة الظل، لذلك نفهم أنّ الدلالة المركزيّة هي تأريخ واقعة "حدث" في تاريخ الإنسانيّة، بالإضافة إلى ذلك فالنصّ يحمل وعدا بالتحرّك صوب الأمل وليس الحلم، ونلخص هذا في ثلاثة تقاسيم لهذا النص وهي:
1- المعنى العام للنص"الإنساني"
2- المعنى النفسي للنص"الخلقي".
3- المعنى السياسي للنص"الاجتماعي"
فإذا كانت المسيحيّة تعترف بأنّ الأقانيم الثلاثة هي العلم والإرادة والقدرة فإن هذا النص يحمل هذه التقاسيم الثلاثة.
1- المعنى الإنساني"المعنى العام للنص":
يدرس النص ويحدّد جملة من الموضوعات، وتحمل بدورها عدّة إشكاليات هامّة في عالمنا اليوم وأهمّها: الديمقراطيّة- الحريّة- المعرفة – القوميّة – الهويّة – العولمة – بل الوجود. ولعلّ هذا النص يمثّل كراسة أكاديميّة لمادّة الفلسفة المعاصرة، ولكن وفق واقع ما هو كائن وما يجب أن يكون، وليس فقط ما يجب أن يكون. إنّ المعنى العام وخلاصة هذا المعنى تكمن في أنّ مقصديّة النص تتبع ثقافة صاحبه، ومن هنا نفهم أنّ القصد فيه بالطبع تفريغ شحنة كبيرة من الهزائم، ولا نعني هنا بالطبع التدمير النفسي، بل نقصد سرد صاحب النص لجملة من الخطوب والمشكلات، وقفت حجر عثرة في طريق حضارة الأمّة، ومع ذلك فالكاتب يعرض مجموعة من الشواهد على الرفض القاطع للظلم ، مؤكدا عزيمة الثورة وإرادة الشجعان بأنّ الظلم لابدّ له أن يذهب بعيدا والحق ظاهر لا ريب ، وبذلك نلاحظ العزيمة والتدمير وكليهما عاملين نفسيّين، وكذلك التأثير والتأثّر، وكلاهما عاملان اجتماعيّن، وبهذا نفهم أنّ المعنى العام للنص جاء يناقش الآتي: (أ) الزمان وأثره علينا (ب) المكان وأثره علينا. (ج) العلاقة بين الزمان والمكان وأثر هذه العلاقة علينا. ونختصر هذه المفاهيم بأنّ الزمان جسم هو مكان الأمّة، والمكان يحمل قلبا هو زمان الانحطاط، والعلاقة بينهما ، وآثارها على واقعنا هي علاقة وطيدة، فالزمان كما قال صاحب النص:
يا وطني قل لماذا؟
أيّ هذا المدّ والمدد..
أيّ هذا الحدّ والعدد..
أيّ هذا الجدّ والجلد..
فكلمة" أيّ هذا" دلالة عامّة تشير للزمان، والمكان فيها واو العطف "الحدّ و العدد".. والمكان يوجد بغزارة داخل النص والزمان كذلك لأنه لاانفصال بين الزمان والمكان ودليل ذلك:
تولد في القصيدة
كراسة الطفل الحزين
بها الألوان خارطة الخصام
بها الأيام والأرقام دائرة بلا إشراق
بها التاريخ أعمى..
وهذا كلّه يقودنا نحو مفهوم واحد الانسجام وارتباط الزمان والمكان في النص موضوع الدراسة، ولعلّ عمق بعض الكلمات هو مقصديّة الكاتب، وهنا نفهم بأنّ النص والمعنى العام له يدور في توافق تام بين أزمنة وأمكنة الإبداع، وهذا واضح من خلال الكلمات العقلانيّة، ويبرز النص أهميّة العلاقة الحميميّة للكاتب مع العقل ومعلوم مدى ارتباط العقل"الإنسان" بالظاهرة "الزمكانيّة".
2- المعنى النفسي "الخلقي": وهذه الدلالة تعرف بالدلالة الاكسولوجيا والتي تعتبر من أهمّ سمات وشروط المنهج العلمي وكذلك العمل الإبداعي المتكامل. ونلاحظ هنا أنّ الكاتب يتحدّث في بداية النص عن الذات وكيفيّة الحب الممتد من كتب التراث والعرق واللغة، وكذلك معاناة الإنسان على يد أخيه الإنسان، وتسلّط صاحب القرار والحكم على المقرور فيه، المحكوم، كما يتحدّث الكاتب عن الظلم الذي يعبث بالقيم، والسلوكيّات والتي هي مصدر الإلهام والتقدّم. وخلاصة القول: إنّ صاحب النص وقع في جملة قضايا تتداخل وتتعالق، فمن الذات الخاصّة به إلى ذات الأمّة إلى ذات الإنسانيّة ضد الآخر.. في مراحله الثلاثة، ومن وصفه التاريخ بفقدان البصر وحتى في قوله: خلق الإله الخلق أحرارا.. وسوف نعالج هذه القضايا وفقا للآتي: (أ)مرحلة العرض (ب) مرحلة الانفعال (ج) مرحلة القدرة... فالذات، عرض.. صقيع الليل ،عرض.. لغة العرب.، عرض وغيرها الكثير.. أما ما نقصد به مرحلة الانفعال فمثل تكرار الجمل: سطر يقرأ، سطر يمحى، سطر ينسى.. سطر يكتب للتدجيل .. وكذلك دلالة الدال في قول صاحب النص: (ياوطنى قل لماذا؟، أيّ هذا المدّ والمدد؟، أيّ هذا الحدّ والمدد؟ أي هذا الجدّ والجلد؟.. أمّا ما نقصد به مرحلة القدرة فهي الشعور الكامل داخل سطور النص بأنه يمثل إيمان الكاتب بأفكار العقل الذي هو أساسا مركز الشعور، ومثال ذلك قوله(فرسمت صمتي في الصخور) وكذلك (نحن الإله له عبيد)(ربنا الله، وتلك الآلهة من صخور الأرض) (نصوغ حياتنا وكما نريد).. ونختم هذا السفر بالقول والتأكيد بأنّ المعنى النفسي الأساسي هو الإيمان بالثورة داخل الإنسان، ثورة الأنا ضد الآخر، وثورة المعرفة ضد الجهل، وثورة الفكر ضد الفكرة الواحدة، وثورة العقل ضد التغييب.
والكاتب كما يقال : ثقافة وبراعة وأخر، والأخر يضم النفس ، والنفس تضمّ الثقافة وتحتل الجانب الأوفر في البراعة.
3- المعنى السياسي"الاجتماعي" وندرس هذا المعنى وفقا لبنيات ثلاثة هي: (1)الوجود (2) التفكير (3)نسبيّة أو مطلق الاختيار.
الوجود: يعبر صاحب النص عن ذاته ثمّ ذاته ثم ذاته وذلك وفقا للتكرار الآتي
- الذات حرف لا يغيب - قالوا لنا - والذات حرف لا يغيب
- بالنسبة للجملة الأولى تعبّر عن ذات شخص غالبا، وذلك بدلالة عجز البيت" عشقي الممتد من بكر وتغلب، لم يغب
- أما الجملة الثانية فتعبر عن الذات الثانية وهي الذات الانسانية جمعاء وذلك من خلال قوله(إن الجنان لمن يلوذ بصمته، من يحتمل جلاّده)
- والجملة الثالثة بها ذات الهويّة القومية من خلال قول صاحب النص"نحن الإله له عبيد ، لكننا في هذه الدنيا نصوغ حياتنا وكما نريد"
وتتقاطع هذه الذوات الثلاثة لتشكّل فضاء النص السياسي والاجتماعي، فالأنا هي الذات الأولى، والذات هي الهويّة وهي الإنسانيّة
أما التفكير فيأتي مرحلة بعد مرحلة الوجود ويعدّ ظاهرة وسمة إنسانيّة خالصة، ولذلك فإنّ المجتمعات الإنسانيّة تدير نفسها بواسطة التفكير والذي هو سمة من سمات العقل، وللتفكير ثلاثة أنواع:
- التفكير الفطري "موجود لدى الحيوانات"
- التفكير الغير سليم"التعصّب للرأي الخاص – سوء التقدير"
- التفكير السليم" سلامة التخمين والحياديّة في الرأي"
ويركّز صاحب النص على التفكير السليم وغير السليم، ويهمل التفكير الفطري بقوله(الله لو يرضىلنا ، مثل القطيع يهشّه الراعي ويحصره الطريق، ما خاطب العقل في آياته حتى نفيق) وبذلك نفهم أن الكاتب يحترم التفكير السليم فحسب ويعترف بالتفكير غير السليم ويهمل التفكير الفطري.. ومن احترام التفكير السليم قوله( نصوغ حياتنا وكما نريد) ونريد هنا تعنى الشورى والتي هي الحل الأمثل لتنظيم الحياة.

نسبيّة أو مطلق الاختيار:
النص وصاحب النص لا يفرض نمطا معيّنا للنهج الاجتماعي والتنظيم السياسي، بل الواضح أنّ هذا النص جملة من النظريّات والأفكار والتي بالطبع هي محل إيمان صاحب النص. والجميل في النص أنّ الكاتب لا يدّعي أنه يملك عصا موسى ليغيّر بها معالم الحياة ولكنه يقدّم اعترافا قويّا بعدم جدوى المطلق، وأنّ الأمور والقضايا التي تكون نسبيّة هي الأقرب للعقل، وكذا الصواب.
ونقرأ قول الشاعر: (كلّ البراءة لم تجب عن لماذا لم يتسع للحبّ هذا الكون)
ومعنى ذلك أنّ كل البراءة لم تقدّم إجابة كافية ووافية لمعضلة(لماذا؟) ولماذا في النص تعني= الظلم، الجبروت، ومرادفات هذه المصطلحات وأحيانا تعني المظلوم والخائف والمغضوب عليه .. إلخ..
كما يقدّم الكاتب اعترافا آخر بقوله: (لم يتسع للحبّ هذا الكون) فهل من الممكن أن يكون الحبّ شعار الناس جميعا؟ بالطبع لا . ولماذا؟ لأنّ الأهواء والأذواق تختلف تماما.
وصاحب النص مؤمن بالنسبيّة كما في (فرسمت صمتي في الصخور وكتبت فيها، الخ) فرغم الصمت المرسوم في الصخر والكتابة والقراءة إلا أنّ الكاتب يعترف بأنّ كل ذلك يعتبر لا شيء، أو بأكثر من أنّ قراءة أبعاد الكون، وسفر الوجود الأوّل مقارنة بثقافة صاحب النص التي لا تعني شيئا أمام أبعاد التكوين، ولعلّ ثقافة صاحب النص الفلسفيّة تحديدا تؤكّد على جودة هذا المسلك العقلاني الذي يؤكد في جلّ أبيات القصيدة على أهميّة احترام الذات للآخر وهو ما يعرف باحترام مشاعر الآخرين، وهو ما يعرف بالعقلنة، ومنها عقلنة الاقتصاد والتي تعني إضافة الطابع الإنساني"الظروف" إلى آليّات البورصة والتبادل.
كما يعترف الكاتب بأهميّة وأصالة العقل لخدمة الإنسان، وبذلك نفهم أنّ التأويل مسألة صعبة بل ومفاجئة في النص المدروس.
4- رابعا: المستوى التناصّي:
عندما نقرأ النص لغاية التحليل ، لابدّ لنا أن نستنتج مواضع وسطور التعالق والتقاطع والالتقاء مع الآخر، فيما يعرف بظاهرة التناص. تقول الباحثة الفرنسيّة جوليا كرستيفا في هذا المجال" إن النص الجيّد ما هو إلاّ مجموعة نصوص وجدت قبله" بمعنى أن النص مجموعة قراءات سابقة، ونقول في هذا المجال بأنّ هناك تقاطعا مع نصوص لم تكن في ثقافة صاحب النص وهو ما يعرف بالالتقاء الفكري، ونفهم حسب معرفتنا بأنّ التناص عنوان جديد لنص أو نصوص بإصرار، وحسب منهجيّة هذه القراءة فإننا ندرك بأن (الشعر + النثر= فن الكلام) وهذا الفن يعتبر الأوسع بين الفنون.. نحن هنا ندرس فقط ظاهرة تعالق (=تناص) النص الشعري(= موضوع القراءة) مع النثر، والنثر يضمّ تحت لوائه الكتابة الفكريّة، نلاحظ بأنّ الكاتب وقع في تناص مع رواد في الكتابة الفكريّة نتناول بعضا من مواضع التناص معهم.. حيث يدخل النص كاتبا في تناص واضح مع أفكار القوميين العرب، وجلّ روّاد وكتّاب الفكر الاشتراكي المعاصر، كما يدخل كذلك مع مفكرين معروفين على المستوى الإنساني، ونختار هنا (الله لو يرضى لنا هذا التخلّف والتناحر والخصام، لثبّت العينين خلف الرأس، لكنه يعني التقدّم للأمام)
1- ونقرأ نصّا للمفكر العربي حسن صعب في كتابه تحديث العقل العربي، يقول صعب :"إنّ لكل مسلم حقّ الاجتهاد، بل إن على كل مسلم واجب الاجتهاد، ويعني هذل أنّ على كلّ مسلم أن يرتفع بالمعرفة والعمل الصالح للمستوى الذي يؤهله لأن يبلغ مرتبة الاجتهاد وقد جاء عن الرسول(ص) :"طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة" ويواصل قائلا: " فالاجتهاد هو طريق التشريع في الإسلام، وبذلك نعود بالتشريع إلى أصله الذي أراده الرسول حين أعلن قبل وفاته أنه لانبيّ ولا وحي بعده. فترك الاجتهاد في كتاب الله بعده للإنسان." ويذهب ابن حزم الأندلسي مذهب صاحب النص، بقوله:" والعامي والعالم في ذلك سواء وعلى كل خطه الذي يقدر عليه من الاجتهاد" وهذا يتقاطع مع قول الشاعر(هم وحدهم من يملكون الحرف والعقل الكبير) ثمّ يقول( والحقّ في التفسير والتأويل).
2- يقول ميشيل فوكو:" إن التصوّر الذي يجعل من الملك أو الحاكم راعيا يرعي الغنم ليس من التصورات الشائعة في الفكر اليوناني والروماني، ومع أنه يوجد بعض النصوص المنسوبة لهوميروس، ولكن الحقيقة تؤكد على أنّ هذه النصوص غائبة تماما من الفكر السياسي اليوناني والروماني" ويقارن في هذا الإطار محمد عابد الجابري الفرق بين "السلطة الرعويّة" في الشرق القديم والفكر السياسي عند اليونان، وتتداخل النتائج وتتعالق الآراء بين النص موضوع الدراسة ونص للجابري.
3- في نقده للعقل العربي يقول الجابري:" ومن هنا اعتماد الاعتقاد على الرمز والتشبيه والمماثلة وليس على المبادئ والاستدلال والمحاكمة العقليّة، والأيديولوجيات كالعقائد، تعتمد"البيان" وقلّما تعتمد البرهان". ونلاحظ أن نصّا فوكو والجابري يتقاطعا مع قول صاحب النص( الله لو يرضى لنا مثل القطيع يهشّه الراعي ويحصره الطريق ، ما خاطب العقل في آياته حتى نفيق) ويقول الجابري أيضا في مهام تجديد الفكر العربي: تحوي العقيدة إلى رأي: فبدلا من التفكير المذهبي المتعصّب الذي يدّعي امتلاك الحقيقة يجب فسح المجال لحريّة التفكير، لحريّة المغايرة والاختلاف، وبالتالي التحرّر من سلطة الجماعة المقفلة. أليس ذلك قريب كل القرب من قول صاحب النص:
(هم وحدهم من يملكون الحرف والعقل الكبير
دار الإذاعة والصحف
وخزائن المولى وجنّته
والحقّ في التأويل والتفسير..)
وبذلك نفهم أنّ مستوى التعالق في النص موضوع الدراسة ثري ، ويرجع ذلك ذلك بسبب عاملين حاسمين هما:
(1)ثقافة صاحب النص الواسعة وحصيلته من القراءات.
(2) الالتقاء الفكري وهو يدخل ضمن الاتفاق مع الآخر بما يمثّل الفطرة الإنسانيّة، وكما تقول القاعدة: "نتّفق ولكننا لانعرف بعضنا بعضا"
ولعلّ قول صاحب النص: (لكنّنا في هذه الدنيا ، نصوغ حياتنا وكما نريد) يتقاطع مع الإعلان الأممي حول "العلم والتنمية" " إنّ الموارد الإنسانيّة التي لم يثمر أكثرها بعد هي أمل الإنسان الحقيقي في المستقبل" ويواصل الإعلان قائلا: "إن للإنسانيّة جمعاء الحق حياة أفضل، وذلك بالاعتماد على العمل الإنساني لخلق واقع أفضل ومن أجل حياة كريمة".
ولعلّنا من خلال هذه الخلاصة وضّحنا مفهومنا للتناص.

- خامسا: المستوى النقدي:
كيف لنا أن نطلق تسمية هذا المستوى بالنقدي دون بقيّة مستويات القراءة! فالقراءة أساسا دراسة نقديّة، وعبر سطور النص نقرأ ونفهم ونلاحظ بأن الكاتب ذو ثقافة تاريخيّة بالدرجة الثانية ، بينما في الدرجة الأولى هو مهتمّ بالأدب والفكر والفلسفة معا، ولعلّ بعض القياسات المنطقيّة تؤكد صحّة ما نزعم: فمثلا:
" حاصروا كلّ القبل، كلّ الأمل،
وكلّ موقع فينا اكتمل
وكلّ عشق أوغزل،
وكلّ صدق في عمل
وكلّ حرف يشتعل..
فرسمت صمتي في الصخور.."
ومعنى ذلك بأنّ الحصار قاد الفعل والعمل والكلام إلى الصمت بل الموت، وجملة القول بأنّ الكاتب(صاحب النص) الشاعر ذو ثقافة فلسفيّة جيّدة، بل ويملك فلسفة رفيعة واتضح ذلك من خلال استلهام التراث وخصوصا في قوله:
" وفات وفات، لنعيش الأيّام شتات
وفات وفات، لاتحمل غير الكلمات،
والبيت فيه حمامات
وصقور غرست نزعات،
والجبّة وقعت في البير
والبئر ابتلع شعارات".
وهذ استلهام وتوظيف لأغنية أطفال تقول:" والثعلب فات وفات" فاستغنى الكاتب عن لفظة الثعلب، وهنا يبرز سؤال في أفق النص: من هو الثعلب، والمعنى في هذه المرّة في عقل الشاعر، ولا يمكن التأويل أو حتى الادعاء، لأنه بالمعنى الفكري، وفيما يخص الأبستمولوجيا المعاصرة فهناك قطيعة، وهذه القطيعة غير مبنيّة على ما هو قبل هذه السطور بل الظاهرة الإبداعيّة والقابليّة الفذّة للنص هي المعنى الحقيقي، ولا يمكن فهم النص بغير ذلك إطلاقا. والواضح أننا هنا أمام نص جديد يدشّن لمفهوم جديد، ولذلك فالقطيعة أمر محسوم، ولا ندري ما هو مفهوم القطيعة بالنسبة للمتلقّي إلاّ أنه كما يقول باشلار: "إنّ الزمان كفيل بتوضيح القطيعة" ونحوّل هذا القول إلى: أنّ النص كفيل بتوضيح ذاته لأنه نص فنّي. كما يحتوي على الجانب الفكري"= موضوع الدراسة" وكذلك الجانب الأدبي" ونأمل أن نرى نقّاد العربيّة وأحبّة لغة الضاد يقبلون على دراسة هذا النمط الفريد في ثقافتنا التي تعتمد البلاغة دون المنطق، ولا نقصد المنطق الفلسفي هنا، بل منطق التأمّل والعقل والحياد ، ومن هنا نؤكد مجدّدا على جودة النص، وندعو مجددا المثقفين لقراءة هذا النص قراءة عقل.. لماذا هذه الدعوة؟ لأنّ النصّ في رأينا نصّا جديدا رغم الموضوعات التي تعتبر موضوعات مطروحة من قبل ، فقد جاء في حلّة ولغة محدّدة وخالية من الأهواء، تحمل روح الفكر الإنساني وكذلك ضميره "= العقل"، ولذلك فالدعوة مفتوحة للجميع لوضع وجهات نظرهم حول نصّ فذّ "= نصوغ حياتنا وكما نريد"
وعلى الرغم من جودة هذا النص إلا أن هناك بعض المآخذ عليه بالنسبة لنا أهمّها (1)الرمزيّة في لغة النص (2) طرح فلسفات يناقض بعضها الآخر (3) الشتات الفكري للنص
أولا: الرمزيّة في لغة النص: يستخدم الكاتب بعض العبارات والرموز وهي في نظرنا تعبّر عن نفسيّة محدّدة أوجزء من نفسيّة الكاتب"= المؤلف" وهنا يعجز المتلقي عن فهم واستيعاب النص ، على سبيل المثال قوله:
"تولد في القصيدة، كراسة الطفل الحزين
بها الألوان خارطة الخصام، بها الأيام والأرقام.. " إلى قول صاحب النص : كلّ البراءة لم تجب عن لماذا.. ونأخذ مثالا آخر، قول الكاتب: " فات وفات... ليعيش الأيام شتات.. فات وفات .. لا يحمل غير الكلمات، والبيت فيه حمامات" إلى قول الكاتب " والبئر ابتلع شعارات.
ومن خلال المثالين السابقين، نقرأ ونفهم بأنّ هذه الكلمات موجهة لنخبة معيّنة وهنا يقع النص وليس الكاتب في تناقض حيث يقول: " والفكر أضحى للجموع بلا حجب".
صحيح أنّ الفكر تفهمه القلّة، ولكن استخدام الكاتب لكلمة"=حرف" نحن وضمير"نا"الجماعة، تجعلنا نصف الكاتب من ضمن كتاب ومثقفي الجموع، ولذلك فإنّ هذا النص لو كتب بلغة خالية من الرمز لكان أوضح للمتلقّي، ولكن لصاحب النص عذره في ذلك لأنّ الرمز سمة الإبداع والأدب والفكر يعتمد الرمز بدلا من العرض المباشر ذي طابع الرتابة، إلا أنّ فك الرمز لا يفهمه إلا القلّة"صفوة المثقّفين" وفي اعتقادنا أنّ هذا النص ملك للجميع وذلك لقول صاحبه في خاتمته: (لكننا في هذه الدنيا، نصوغ حياتنا وكما نريد).
2- ثانيا: طرح فلسفات يناقض بعضها البعض الآخر: يحمل النص مباحث الفلسفة الثلاثة وهي(1) الأنطولوجيا "الوجود" (2) الأبستمولوجيا "المعرفة" (3) الأكسولوجيا "القيم – الأخلاق". ومن هنا جاءت أفكار صاحب النص متفقة مع أفكار فلسفيّة شتى، ولذلك نجد أنّ النص إبداعا أدبيّا بالدرجة الأولى وكذلكنثرا فلسفيّا فكريّا أيضا. وعلى الرغم من الفكرة التقليديّة للنص، فإنّ جودته جعلت من نصّا ذو قيمة فكريّة متجدّدة، فعلى سبيل المثال: نقرأ أن الاتفاق هو اشتراك الأفراد في الرأي والأهداف..الخ.. ولكن النص يعرض لمفهوم الاتفاق بصور متعدّدة ومتباينة، وكذلك يعرض لفلسفة الوجود وفقا للآراء المختلفة، وكذا المعرفة، فهو ينقله من مصادر يختلف بعضها عن البعض الآخر، والشيء الأكثر جدلا هو مفهوم النص للأخلاق أحيانا نجده نسبيّة وأخرى مطلقة، وسنعرض للمباحث الثلاثة بشكل مختصر،
يقول محمد إقبال في تجديد الفكر الديني:" ما طبيعة هذا الكون الذي نعيش فيه وما بناؤه العام؟" سؤال عقائدي بالنسبة للأديان، وجوهري بالنسبة للإنسان، ووجودي بالنسبة للفلسفة. ويطرح الكاتب هذا السؤال ثلاثة مرات وهي:
1- "خلق الإله الخلق أحرارا"
2- " فكيف لنا أن نقرأ أبعاد التكوين."
3- "أيّ هذا الكم من صفر على سفر الوجود".
وكل جملة تعبّر عن فلسفة معيّنة تختلف كمّا وكيفا عن سابقتيها.
ثمّ نقرأ رأي النص في المعرفة، وهو يقول آراء مختلفة وكأنه يريد الجمع بين صنوف المعرفة الفلسفيّة. يقول صاحب النص:
(1) هم وحدهم من يملكون الحرف والعقل الكبير
(2) يا ترى أيّ ربّ صادر الحرف من الإنسان والفنّان والمطرب.
(3) الله لو يرضى لنا ...... لثبّت العينين خلف الرأس، لكنه يعني التقدّم للأمام.
وهذه الجمل تفيد نظريّات علميّة بحتة، فلأولى تعني أنّ الفرديّة والعبقريّة عاجزة أمام السلطة،
والثانية تعني أنّ السلطة تحكم وتتحكّم في الإبداع والخلق.
والثالثة تعني رفض السلطة لمبدأ "المعرفة حقّ لكلّ إنسان" وكذلك رفضها أوامر الخالق عزّ وجل، فكل جملة تعبّر بدورها عن فلسفة معيّنة تخالف الأخرى كمّا وكيفا.

3-ثالثا: الشتات الفكري للنص:
ويطلق مصطلح شتات على رجل يتصف بالمعرفة والعلم الواسع المشتّت والمبدّد فهو يعرف كثيرا، لكنه لا يعرف التنظيم والتنسيق للمعلومات والمعرفة التي بحوزته. ونحن لا نعرّف الشتات بهذا النحو، ولكنّنا نعرّفه بأنه سرد موضوعات عديدة بأسلوب مشوّق واستخدام أساليب المخاطبة المباشرة للعقل، والتنقّل كالنحلة من زهرة قرنفل إلى زهرة ورد، وهذا على الإطلاق لا يضعف العمل الإبداعي ولكنه يجعل المتلقّي في حيرة، فهو لا يكاد يقرأ عن "الأصل والأرض في لغة العرب" ثم ينتقل إلى موضوع الفكر وما بين اللغة والفكر حتى ينتقل إلى موضوعات الحريّة والعقل وآيات الله في الكون وما يجب أن يفعل ...الخ..
والحقيقة القصوى في مفهومنا للشتات هو الانتقال السريع للموضوعات والعرض المختصر لمفردات الموضوعات داخل النص. وكما أسلفنا فإنّ المتلقّي للنص"=القصيدة" يخرج بجملة من المفاهيم وجملة أخرى من الأسئلة وبسبب ذلك يجد نفسه"أي المتلقي" يعود إلى القاموس، وعليه أن يقرأ كثيرا لفهم بعض الأفكار، ولذلك كان من الأجدى عرض هامش لمعاني كلمات القصيدة، ولعله لا يخفى على القارئ تلك الإشكاليّة الكبرى لحرف (ما) بين المعتزلة والأشاعرة لقوله تعالى"من شرّ ما خلق"، وكذلك لا يخفى على قارئنا مشكل تحديد المصطلحات والعبارات.. ولعلّ نصوص أبي حيان التوحيدي، ابن رشد الأندلسي وأحيانا حتى ابن حزم الظاهري وحتى المفكر المعاصر محمود محمد طه جعلت تحديد هوامش المعنى أمرا لا مفرّ منه، وهذا النص جعل القارئ يعود للقاموس ليفهم كلمة "حرف" ولعلنا واجهنا نفس الموقف عند قراءتنا للنص.
وأخيرا يقول المثل الشعبي:"كلّ سفرة تعلّمك حذاقة" بمعن أنه كلما أعدنا قراءة النص وجدنا نصّا جديد، وهذا القول بالذات ينطبق على هذا النص " نصوغ حياتنا وكما نريد"..


.

إقرأ المزيد Entry>>

عبد الرؤوف بابكر السيّد في قصيدته "نصوغ حياتنا وكما نريد".

إقرأ المزيد Entry>>

الخميس، 26 نوفمبر 2009


على ذات القصيدة


في آخر النفق الملبّد بالسواد
رأيت نورا لم يكن أقصى بسرعة ضوئه نحوى،
أكثر من خطو عدوي،
لكنّني أوقفت راحلتي،
وعدت بعد الموت كي أنهي القصيدة..


لقد كتب الملائكة اتهامهم إليّ
بأنّني خالفت أمر الله،
سبحان الإله أعادني للآخرين،
ومزّق في وجوههم العريضة
باتهام ليس فيه من الحقيقة غير أنّي،
لا زلت أحمل للدواة أخطّ أسطر في الورق
. أمدّ يداي أنتشل الحروف من الغرق،
لأبثها بعض الرؤى،
وأعود ثمّ لأتقيه وألتقيه مباشرا مستبشرا،
فيلفني هذا الضياء من العقيدة..

لم ألق بالا للنزيف من الدماء،
فما أخطّ لأجل من أهوى من الإنسان ،
وهو يطلّ يحتضن الحقيقة..
لست متّشحا بغير هواي
والحرف الذي أهوى براءته، وضحكته ،
وطعم قراءة الفردوس من شفة تنغّم ما كتبت ،
وتسبح في محيطات الدلالات البعيدة..

يا أيّها الإنسان إنّك كادح،
فاكدح بحبّ النهر وهو يعرّي الأمواج
من صبح إلى صبح..
ومن شمس إلى شمس جديدة..

وحين يحطّ عصفور على كتفي سأطعمه،
بكفّي اليسرى
وأفلى شعره بأنامل اليمنى،
فمخالب البشر التي بدواخلى هربت
إلى ماض تلاشى،
خجلى بما كسبت وما اكتسبت ،
وعادت تحتمي بدواة محبرتي
لتخطّ أحرفها الجديدة..

من رحم هذا العشق للإنسان تنبعث القصيدة..
لم أسلم لها صفحة الخدّ المسالم
حين تهبّ ريح تنحني كلّ الرؤوس لها،
ولا حرفي الذي أسلمته نغمي
أكرّر فيه مفردتي لمفردتي العنيدة..

سأكتب في صحاريّ القريبة والبعيدة..
أخطّ على مسارات عديدة،
سطور مفردتي الجديدة..
فلا كنز حلمت به ،
ولا لغة رشيدة..
فقط حين ألقاها وتعبث بي
سأخرج للضياء لكي أعيده.
وأكتبها على ذات القصيدة..

.




إقرأ المزيد Entry>>

الثلاثاء، 24 نوفمبر 2009

أدبيّات الفاعليّة (3)


ويظلّ التواصل مع إضاءات الأقلام عبر الكلمة بما يدعم بنية الوعي الخلاّق ، ويؤسّس لأدبيّاتها من أقوال خطّها الإنسان توّاقا لانتشال البشريّة من وعيها القاصر إلى أفق وفضاءات الإنسانيّة الرحبة
• الناس لا يهتمّون بالعواصف والأعاصير التي واجهتك وأنت تسير بقاربك في عرض البحر.. الذي يهمّهم فقط أن تصل بالقارب ومن فيه إلى برّ الأمان............................. البرت بايك
• لا يكفي أن تكون في النور لترى، بل ينبغي أن يكون في النور ما تراه........................ عباس العقّاد.
• إنّ الذي ينتصر على غيره قويّ، والذي ينتصر على نفسه أقوى.................................. مكرم عبيد..
. • إنّ الحياة التي يحياها المرء من أجل الآخرين هي حياة ذات قيمة ............................. البرت أينشتين..
• نحن لا نحبّ القراءة، وبالتالي لا نجيد فنّ الإصغاء، فالقراءة هي إصغاء لفكرة كاتب نتّفق أو نختلف معه.................................................................... أنيس منصور..
• من أنا حتّى أجزم أنّك على خطأ................................................. سارتر..
• السعادة لا تكمن في مجرّد امتلاك المال، إنها تكمن في فرحة الإنجاز، وفي الإثارة للمجهود الخلاّق....................... روزفلت....
• إنّ محاولة جعل الناس نسخا متشابهة يعني انتحار إنسانيّة الإنسان.................... جيفاكو.........
• احفر وابحث في باطنك، ففيه منبع الخير وهو في تدفّق مستمر، ما استمررت أنت في الحفر..
...................الامبراطور الروماني مركس أوريكيوس (ت 161م)
• ما من جسم خلا من علّة، فكيف تخلو العقول؟ ................... د. أحمد زكي.....................
• إذا تمّ العقل نقص الكلام.................................. الإمام علي...........
• إن نفوس الناس معادن، ومن المعادن ما تعلو على كلّ صدأ، ومن المعادن ما يعلو عليها كلّ صدأ ......................................................................................... طه حسين...
• الكتاب هو الجليس الذي لا ينافق، ولا يمل، ولا يعاتبك إذا جفوته، ولا يفشي سرّك.... ابن الطقطقي...
• متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارا...............................عمر بن الخطّاب.............
• الإنسان الذي لا يعمل بعلمه كالشجرة المورقة لا ثمر لها......... أبو حيّان التوحيدي...................
• يهب الله كلّ طائر رزقه، ولكن لا يضعه له في عشّه............... جولاند...............................
• الكلام كالدواء، إن قلّلت منه نفع، وإن أكثرت منه قتل............... عمرو بن العاص...................
• العمل يكون فارغا وبلا ثمر إن لم يقترن بالمحبّة.................... جبران خليل جبران................
• فالتفعل النفس الجميل، لأنه خيّر وأجمل، لا لأجل ثوابها............. المعرّي............................
• حتّى اللصّ عندما يضع المفتاح في ثقب الخزانة ليسرق يقول باسم الله................ فولتير..........
• ألست تحبّ الحياة؟ إذن لا تبدّد الوقت لأنّه المادّة التي صنعت منها الحياة............ فرانكلين..........
.

إقرأ المزيد Entry>>

الجمعة، 20 نوفمبر 2009

هجرة العقول الأفريقيّة؟
عبد الرؤوف بابكر السيّد..جامعة التحدّي- سرت


مقدّمة:
الطيور المهاجرة.. أو العقول المهاجرة إنما تبحث عن مأمن أو تهرب من جدب أو تبحث عن تحقيق الذات حين تقسو الطبيعة عليها أو يجور الأهل عليها. وكما نعلم في موروثنا فإن (عازف الحيّ لا يطرب ) و (أن لا كرامة لنبيّ بين أهله) إضافة إلى أنّ القرب يُعْمي كما يقولون. فكم من مبدع لم نهتمّ به إلا بعد أن يكتشفه غيرنا؟ .فقد"أنجبت القارّة الأفريقيّة الكثير من العلماء والمفكرين في جميع المجالات، ولكن لم تستفد منهم إلاّ قليلا، بل لقد أصبحوا وبالا عليها، بحيث هاجر ثلثان من هؤلاء المفكرين والأكاديميين إلى بلدان غربية متقدّمة....... فهجرة العقول الأفريقيّة هي عبارة عن إهدار للموارد الشحيحة أصلاً للدول الأفريقيّة،والعائق الرئيس الذي يقف في طريق تنمية هذه الدول، فقد ظلّت الدول تصرف نسبة عالية باستمرار من رأسمالها البشري لصالح الدول الغربية المتقدّمة بصورة تؤثّر على بناء قدراتها اللازمة لإحداث التنمية،لأنّ زيادة الاستثمار لزيادة القدرات يقابله نزيف من القدرات بهجرة العقول الأفريقيّة ذات الكفاءة العلميّة والمهارات العالية"
إحصائيات:
في هذا الاتجاه أورد إدريس جالو (وهو كاتب من بوركينا فاسو مقيم في السودان ) عددا من الإحصائيات نسبها لأصحابها نورد جانبا منها لاكتمال الصورة ، فأفريقيا تفقد " 4 بليون دولار أمريكي سنويّا مقابل من يغادرها من المهنيين للعمل في الدول الغربية، إذ يغادر قارة أفريقيا سنويّا(200000) مئتا ألف من المهنيين" . وتقول كاترين كاوان لو التابعة لمنظمة الهجرة العالميّة O.M) ) " أنّ هناك من العلماء والمهندسين الأفارقة في الولايات المتحدة أكثر مما هو موجود من هذه الكوادر في أفريقيا" ويدعم هذا القول الدكتور أدوكات بروفيسور الاقتصاد المشارك في جامعة ياوندي بالكاميرون بقوله:" معظم المهاجرين من أساتذة الجامعات والمهنيين، يهاجرون إلى أمريكا الشمالية وغرب أوربا" كما جاء تقرير الأمم المتحدة للتنمية يوضح " أن 600 ــ 700 طبيب غاني يعملون في الولايات المتحدة الأمريكيّة خلال عقد الثمانينيات من القرن العشرين، ويمثل هؤلاء حوالي 50% من جملة الأطباء الغانيين. كما تقول منظمة الهجرة العالمية إن إثيوبيا فقدت 74.6% من رأسمالها البشري خلال الفترة 1980 ــ 1990، ومقابل كل بروفيسور في الاقتصاد في إثيوبيا يوجد أكثر من (100) اقتصادي إثيوبي في الولايات المتحدة. وتقول اللجنة الاقتصادية لأفريقيا: خلال الفترة من 1985 ــ 1990م فقدت أفريقيا حوالي (600.000) ستمائة ألف من أطباء وأساتذة جامعات ومهندسين وغيرهم من المتخصصين بسبب الهجرة. كما أورد الدكتور بن باركا في عام 1993م عن أوين قوله :" يوجد في المملكة المتحدة (134.000) أفريقي منهم (14.500( يحملون الدرجة الجامعيّة الأولى في حين أن (4600) يحملون درجات فوق الجامعيّة ". وتشير دراسة أعدّها البنك الدولي في عام 1995م أنّ 30% من العمالة ذات المهارات العالية في أفريقيا هاجرت للدول الصناعيّة خلال 1960 ــ 1978م . وتقول نفس الدراسة" أن حوالي 23.000 أكاديميّا وعدد 50.000 فرداً من ذوي المهارات الوسيطة والعالية من الإداريين يغادرون أفريقيا سنويّا لرواتب أعلى، وظروف عملٍ أفضل".
وقد أرجع إدريس جالو أسباب هجرة العقول الأفريقية إلى عاملين أساسيين : العوامل الطاردة والجاذبة، حيث تتمثل الطاردة في (عدم الحصول على دخل مقنع يمكن من العيش في المجتمع بصورة محترمة تحفظ كرامته وسمعته الحسنة ، وعدم توفر متطلبات العمل الفنية والأجهزة التي تمكن من تفجير الطاقات العلمية والفكرية والبحثيّة الكامنة في العلماء والأكاديميين والمتخصصين.إضافة إلى عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي بسبب الصراعات وما تحدثه من عدم استقرار نفسي على الفرد) أمّا العوامل الجاذبة للعقول الأفريقية في الدول المتقدّمة فتتمثل في ( سعي الدول المتقدمة لإغراء العلماء والمهنيين والمتخصصين من الدول الأفريقية بتقديم كثير من الحوافز التي يفتقدونها في بلادهم ، إضافة إلى توفر متطلبات العمل المهني المتخصص بصورة تمكن العلماء من الإبداع وتفجير الطاقات، كما أن الدول الغربية تشجع هجرة العقول الأفريقية إليها للاستفادة من علمها وقدراتها باعتبارها كفاءات عالية وجاهزة لا يتطلب منها الصرف المالي لإعدادها.) وقد أورد البروفيسور المهدي المنجرة ما أفادت به منظمة ـ OCDE ــ من أنّ هناك أكثر من مليون أفريقي حاملين لشهادات عليا يوجدون بالغرب، كما أنّ إحصائيات برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة تقدر بخصوص البلدان العربية والأفريقية، أنّ 54 في المائة من الأطباء و26% من المهندسين و17% من أصحاب الشهادات العلمية العليا المتخرجين من الجامعات والمعاهد العربية والأفريقية يهاجرون إلى الولايات المتحدة وكندا. وأنّ نصف الطلبة الأفارقة والعرب الذين يتابعون دراساتهم بالخارج لا يعودون إلى بلدانهم. وقد خلص البروفسور المهدي المنجرة إلى القول بأنه اعتبارا لكونه ساير إشكالية هجرة الكفاءات على امتداد 30 سنة خلت، فإنه الآن غيّر من موقفه بخصوص الجامعيين والباحثين المغاربة، وذلك بعد جملة من الاتصالات والمحادثات معهم على امتداد 10 سنوات، وبعد التبادل معهم أكثر من 1000 برقيّة إلكترونية بخصوص إشكالية هجرتهم من المغرب، ولذلك يقول لهم اليوم" أين ما وجدتم شروط التفتح والتألق والظروف المواتية للبحث العلمي والابتكار والخلق، هناك وطنكم" خصوصا وأنه عاين عن قرب كيف كان التعامل مع الذين اختاروا العودة إلى بلدهم وكيف شعروا هم بذلك إذ أن الكثير منهم اضطر إلى العودة من حيث أتى.
في العام 1967 تقدمت كل من البرازيل ومصر وإيرا بقرار رقم 2320 للجمعيّة العامة للأمم المتحدة للمطالبة بإجراء دراسة في موضوع هجرة الكفاءات. فكانت خلاصات الدراسات المنجزة بهذا الصدد قد أجمعت على سببين لهجرة الكفاءات. الأول يتعلق بضعف الإمكانيات والبنيات للتمكن من ممارسة ما تعلّمه المرء ، وقلّة الموارد المالية المخصّصة للبحث العلمي، وهذا واقع يساهم في إهدار المعارف. والسبب الثاني يكمن في التضييق على حرية التعبير وسيادة الخوف الذي لا يسهل الابتكار والإبداع.
هجرة الأدباء والمبدعين:
وننتقل في هذه الورقة إضافة إلى ما سبق إلي الأدباء والمبدعين الأفارقة الذين حقّقوا انتشارا عالميّا لا لأنهم ركنوا داخل أوطانهم بل لأنهم أذاعوا نتاجهم وإبداعاتهم في بلاد المهجر، فوجدوا التكريم والاحتفاء بهذا الإبداع. ونعرض فقط لنموذج الشاعرات الأفريقيات اللائي جمعهن (ستيلا وفرانك شيباسولا) في كتاب شعر المرأة الأفريقية والتي قامت بترجمته غادة الحلواني حيث أورد المحرران شعرا ل(40) شاعرة أفريقية) مع سيرة حياتهم وبعد إحصائهم من حيث بقائهم في أقطارهم أو الهجرة خارجها اتضح لي أنّ(10) فقط هم الباقون في أقطارهم أي ما نسبته 25% و(8) اخترن المنافي داخل أقطار أفريقية أخرى أي ما نسبته 20% أما اللائي هاجرن إلى أمريكا وأوروبا الغربية فيصل عددهم إلى (22) شاعرة أي ما نسبته 55% . وليس من فراغ أن استحدث الأخ القائد يوما للوفاء يكرّم فيه المبدعين وحاملي بنية الوعي الخلاّق، من المفكرين والأدباء والشعراء والفنانين وذوي العطاء من العقول المنفتحة والعامرة بالمحبّة للإنسان والإنسانيّة. فتحيّة لمن تلمّس الأسباب الكامنة وراء الهجرة والاغتراب ، وعالجها فأضحى أبا للأوفياء.
نحن لا نتلمّس لهم العذر بقدر ما نوجّه اللوم لأنفسنا حين لا نقدّر إشكالات عديدة تواجه المبدعين وتضطرّهم إلى الارتحال والهجرة ، تملؤهم الحسرة على فراق أوطانهم وأهليهم.
ومن بين هذه المشكلات التي سنعرض لها والتي خلقت لهم محنة، وجعلتهم مغتربين في أوطانهم ففضّلوا الهجرة على البقاء في أتون الوطن الذي أضحى طاردا لأبنائه، من بين هذه المشكلات:
• اللغة التي يجب استخدامها (أفريقيّة أم أوربيّة؟)
• مشكلة الأمّية في أفريقيا.
• المشكلات الاقتصاديّة (فأسعار الكتب مرتفعة ولا يستطيع شراءها سوى عدد قليل.
• مشكلة نقص منافذ النشر والتوزيع في القارّة.
• والعقاب الذي يتمثّل في الرقابة ـ السجن ــ النفي ــ وما هو أسوأ. (1)
نقول ذلك لأنّ أفريقيا المتشظّية في العالم على حدّ تعبير(ليوبولد سنغور) قد بدأت تلملم جراحها وتحنّ لموطنها منذ أن تأسّست حركة الزنوجة أو الوطنيّة السوداء ، والتي كانت من أبرز الاستجابات للتحدّي الذي واجهه اللون الأسود من البنية البرجوازيّة الماديّة التي تجذّرت في الغرب فاستعبدت واستباحت القارّة بأكملها (أرضا وإنسانا) خلال مراحل استعمارها وحملات الرقيق التي قادتها.
الاستجابة:
حركة الزنوجة، أو الوطنيّة السوداء كانت من أبرز الاستجابات للتحدّي الذي واجهه اللون الأسود من البنية البرجوازيّة التي تجذّرت في الغرب، فقد نظّم كل من هنري سيلفستر ويليامس، وبنيتو سيلفان بمساعدة فيرمان( الجمعيّة الأفريقانيّة)(***) من 1897 إلى 1900 حضّرا لانعقاد المؤتمر الأفريقاني في باريس ولكنه عقد في لندن في 23 إلى 25 يوليو 1900، واتفق على تنظيم مؤتمر أفريقاني كل سنتين 1902 في الولايات المتحدة و 1904 في هايتي35.
ومن أبرز رّاد هذه الحركة هو (مارتن روبنسون ديليني) المولود في 6 .3 .1812 في تشارلز تاون (فرجينيا) . وهناك الكثير ممّن بدأ يكتب حول أفريقيا في إطار العودة أو للانتصاف للون الأسود، وصلت كتاباتهم أحيانا حدّ التطرف، مواجهة لعنصريّة البيض . وأضحت القوميّة السوداء تنادي بأن " أفريقيا هي للعرق الأفريقي وحكمها للسود".
كما برزت دراسات وأبحاث كانت عبارة عن إرهاصات قبل تشكل هذه الجمعيّة، منها مؤلف هوسيا إستون(دراسة في الشخصيّة الفكريّة) ومؤلف روبرت بلويس (النور والحقيقة 1844 ) ونداء دافيد ووكر (إلى المواطنين الملوّنين في العالم ، 1829 ) وكتاب الكسندر كرامل (مستقبل أفريقيا 1862) ودراسة جيمس أفريكان هورتون (بلاد أفريقيا الغربية وشعوبها 1868) وكتاب جورج واشنطن وليامس ( تاريخ العرق الأسود في أمريكا ، 1882 ) وما كتبه وانتينور فيرمان عن ( المساواة بين العروق البشريّة ، الأنثروبولوجيا الإيجابية،) الذي نشر في باريس 1885 . ومارتن بليني الذي نشر رواية قبيل عيد الميلاد سنة 1828 بعنوان ( بلايك : أو أكواخ أمريكا) وألقى محاضرة في النادي القومي عن ( أوضاع العرق الأسود ومطامحه) في 16.7.1860. والذي نقل دوغلاس عنه في التربيون كلماته التي تقول " أتكلم فقط عن العرق الأسود الصافي، الذي لم يفسده الدم القوقازي" وعلق دوغلاس : بأن سماع هذه الكلمات يعطي انطباعا بأن ديليني يشاطر بالنسبة إلى السود ما يراه البيض بحسب نظريّة تفوّق العرق الأبيض36.
كما كتب وليام ويلز براون رواية بعنوان: كلوتيل: أو ابنة الرئيس، نشرت في انجلترا سنة 1853 . وفرانك ويب الذي كتب رواية بعنوان: آل غاري وأصدقاؤهم، والتي ظهرت في إنجلترا سنة 1857 . وكان معظمهم من مؤسسي جمعية الحضارة الأفريقيّة .. وجمعيّة اتحاد الوطن الأم.
وقد اعتبر أورينو دالارا أن إدوارد ويلموت بليدن(1832 ــ 1912) العنصر الحاسم في هجرة الزنوج إلى أفريقيا .. وقيل عنه أنه مؤسس(باك تو آفريكا) أو الزنوجة " الوطنيّة السوداء" ، وهو كاتب أسود وأستاذ ودبلوماسي، فرض وجوده وتأثيره في مونروفيا كما في واشنطن، أو لندن أو باريس(****)
في محاضراته انتقد بليدن المفاهيم التي تقلّل من قيمة الإنسان الأسود أو أفريقيا، مثل " العرق الأدنى" أو "أفريقيا المظلمة" وثار على الصورة المغلوطة التي تنسب إلى السود. هذه الصورة المزرية كانت موجودة في كل مكان. ، في مقالات الصحف، وفي التعليم، وفي الأدب، وفي التاريخ الذي يكتبه الأوربيون. لقد قدّمت صورة مشوّهة عن الإنسان الأسود، والأسوأ أن كل هذا أدّى إلى إساءة احترام الأسود لذاته وإلى عقدة نقص . ودعا بليدن كل زنوج الأمريكتين إلى تصحيح هذه الصورة الزائفة. كما حرص على أن يظهر في كل كتاباته قيمة الإنسان الأسود، وعزّة نفسه ، من خلال تواجده في العالم بأسره، ليس فقط في أفريقيا ، بل أيضا في الكاريبي والولايات المتحدة، وشبه الجزيرة العربية، وبلاد فارس والهند وحتى الصين، في اثنين من مقالاته " صوت من أفريقيا النازفة" و " مدافعة عن الشعب الأسود"37
أدان بليدن 1882 في خطاب ألقاه في الولايات المتحدة التزوير الذي أحدثه الأوربيون في التاريخ الأفريقي، ولجمع الشمل طلب من صديقه كوبنغر استبدال كلمة"أسود" بكلمة "زنجي" في المادة الثانية من النظام الأساسي للجمعية الأمريكيّة للاستيطان. وكان قد أطلق على جريدته التي أراد لها أن تكون لسان حال كل الزنوج"الزنجي" شارحا سبب اختياره بأن دورها هو أن تمثل وأن تدافع عن مصالح هذا الصنف المميّز من البشريّة المعروف باسم الزنوج في العالم أجمع، وطموحها يسعى لتأكيد الأخوّة بين أبناء هذا العرق وتقويتها. كما كان يشعر بحقد عميق تجاه الذين أسماهم" الخلاسيين " وذوى الدم الممزوج، والمهجّن ، مقابلا إياهم مع " الزنوج الأنقياء " ولم يطالب من كل الملونين أن يغادروا الولايات المتحدة إلى أفريقيا، إلاّ في حالة الزنوج أي أبناء أفريقيا، الذين يؤمنون بغرائز العرق، وبواجبهم تجاه موطنهم الأصلي. كما شجّع الزنوج الأنقياء للزواج في ما بينهم من أجل الحفاظ على العرق ، فهو يؤمن بمستقبل امبراطوريّة زنجيّة في أفريقيا.
هذا التوجه العنصري لدى بليدن لم يحل بينه وبين إعجابه بدعوة المسلمين في أفريقيا، وبطريقة تقرّبهم من السكان الأصليين التي أسماها "التأثير المستوعب"، وكان يعرف تماما الأصول المشتركة للشعبين الأفريقي والعربي مستندا إلى هيرودوتس الذي ذكر أنه قبل عصر محمد كان السود يشاركون في تراث شبه الجزيرة العربية العلمي وسياستها حيث اكتشف العلاقات الوثيقة بين هذين الشعبين، ويتكلم عنهما كأنهما من عرق كبير واحد. في نفس الوقت أحبّ مسيحيّة المسيح لكنه لم يكن أيّ احترام لممثليه الدنيويين الأوربيين، وأحبّ منهج المسيحيّة لكنه كره طرق الذين يبثّونها في أفريقيا.. لأنه حسب رأيه أن المسيحيّة بطرقها هذه لم تعط قط السلطة للزنجي ، وليست مستعدّة لإعطائه إيّاها.38
هذه العنصريّة تجاه العرق الزنجي هي رد فعل طبيعي على عنصريّة العرق الأبيض، فكل منهما ينتمي لبنية مختلفة. الأبيض لبنية الوعي المادّي هدفه السيطرة ووسيلته النبذ والإقصاء لكل من يقف في طريق جمعه للثروات المادّية، فتدرّج من الاتجار بالرق إلى العنصريّة المبرّرة للاستعباد أيام البرجوازيّة، ثم الاستعمار والهيمنة أيام الرأسماليّة. والزنجي أو الأسود لبنية وعي تناسلي يسعى لإثبات وجوده والثأر لهذا الاحتقار وهذه الهيمنة وذاك الاسترقاق، وذلك بالبحث عن أصوله وجذوره وعن ماضيه لمجابة التحدّي التاريخي، ويصبح الحلم بناء امبراطوريّة السود أو امبراطوريّة الزنوج في أفريقيا .
في مجال الأدب ذهب عدد من الدارسين ،إلى أن هذه العنصريّة برزت لدى الأفارقة لتكون الرد الثقافي المطلوب على المزاعم الغربيّة الاستعماريّة خاصة الدول التي كانت ترزح تحت الاستعمار الفرنسي الذي أثقل البيئة الثقافيّة في أفريقيا بتأثيره، حيث طغى أدب حركة الزنوجة التي ذهبت إلى أن لأفريقيا أسلوب متفرّد ومتميّز في التعبير الفنّي والإبداعي، وله دور منوط به في العالم. لقد كان الأدب الأفريقي الشفاهي والمكتوب بالحروف الأعجميّة يسخر ممّن يحاكون الرجل الأبيض وممّن يتحدّثون لغة الرجل الأبيض دون أن يفهموها. فتفجّر بين أبناء أفريقيا لون آخر من ألوان الوطنيّة الثقافيّة في باريس في الثلاثينيات من القرن العشرين، إذ قام الأفريقيّون الناطقون بالفرنسيّة في باريس بإعلان التمرّد على استعمار العقل الأفريقي، وإن كان ذلك في إطار مرجعي أوربي .. ذلك أن سياسة الاستيعاب الثقافي التي اتبعتها الإمبريالية الفرنسيّة أحدثت ردّة فعل أفريقي يتمثل في الاعتزاز بالزنجيّة، وكانت كما اتضح فيما بعد، تجربة أفريقية جامعة ذات أهمّية فريدة، فقد تحالف كتاب أفريقيا والبحر الكاريبي في نظم الشعر الذي ينعى فصم العرى التي تربطهم بأسلافهم، وتأكيد صحة التقاليد والأصالة الأفريقيّة . وكان التحالف بين إيميه سيزير ، وهو من المارتنيك وليوبولد سيدار سنغور من الأسس البالغة الأهمّية للحركة الأدبيّة الزنجيّة. بل إن تعبير الزنجيّة [ في الشعر] كان من ابتكار سيزير فكانت استجابته هي التحيّة والترحيب بالأبيات التالية:
من لم يخترعوا البارود ولا البوصلة
من لم يرو ضوء الغاز ولا الكهرباء
من لم يكتشفوا البحار ولا السموات
إنّ زنجيّتي ليست صخرة، يلقى بصممها في وجه صخب العصر
زنجيّتي ليست كائنا من الماء الميّت على العين الميّتة للأرض
زنجيّتي ليست برجا أو كاتدرائيّة
إنها مغروسة في لحم الأرض الأحمر.39
وفي كراسة عودة إلى الوطن، يعلن كرهه للمنطق ، ويمجد قوى اللاوعي باعتبار أن ذلك يمثل رؤية للكون زنجيّة تماما:
لأننا نكرهكم أنتم وعقلكم،
ونطالب بالجنون المبكّر وبالجنون المتفجّر،
وبالآدميّة المتأصلة فينا..
طوبى لمن لم يخترعوا شيئا أبدا
لمن لم يكتشفوا شيئا أبدا،
لمن لم يخضّعوا شيئا أبدا،
لكنهم يتخلون مشدودين إلى جوهر كل الأشياء
غير عابئين بالأشكال، تتملكهم حركة الأشياء40
أما ليوبولد سيدار سنغور فيقول في " توسلات إلى الأقنعة" متغنيا بالليل الأفريقي و"الغموض في أعماق النفس السوداء الوضّاءة":
أيّها الليل الذي يذيب كل تناقضي وكل التناقضات،
في وحدة زنجيّتك الأصليّة،
فلتقبل الطفل الذي ظلّ ولم يشخ
بعد اثنتي عشرة سنة من الضياع.41
وهذا هو ثالثهم ليون جورج داماس وأصله ممّا يعرف بغويانا الفرنسيّة ، ويعدّ أحد مؤسسي حركة الزنوجة يعبّر في ديوانه (خضاب Pigments ) عن عدم رضاه عن نفسه بعد أن تشبّه بالرجل الأوربي في كل شيء وفقد بذلك هويّته الأفريقيّة :
لديّ إحساس بأنني سخيف
وأنا ألبس حذاءهم،
وأنا ألبس بدلتهم،
وأنا ألبس ياقتهم المزيّفة،
وأنا ألبس نظارتهم.
لديّ إحساس بأنني سخيف،
برقبتي التي تشبه مدخنة مصنع
بآلام رأسي التي تتوقف،
كلّما حيّيت أحدهم .
لديّ إحساس بأنني سخيف ،
في صالوناتهم،
في مجاملاتهم،
في انحناءاتهم،
في حاجتهم المتعدّدة إلى التقريد .42
إلاّ أن عددا من الإشكالات والمعاناة والهموم التي أثقلت كاهل الكاتب والمبدع الأفريقي دفعت به إلى الهجرة من جديد، فالحلم لم يتحقّق.
أولى هذه المشكلات هي:
اللغة:
فالغربة داخل اللغة نتيجة لاضطرار الكاتب إلى التفكير بلغة أمّه والكتابة بلغة المستعمر 26 شلش .......... فمشكلة التعبير باللغة الأجنبيّة الوافدة ، أن يفكّر كأفريقي ويكتب كأوروبي، إشكالية ومعاناة.
أن يشعر بالقلق لضآلة جمهوره إذا كان يكتب بلغة أفريقيّة مدوّنة. إشكاليّة ومعاناة لأنه في كلتا الحالتين يعاني من ضيق رقعة القرّاء الناتجة عن ارتفاع نسبة الأمّيّة..
لقد سعى رغم ذلك الأفريقيّون إلى أن يطوّعوا اللغات الأوربية للوفاء بأغراضهم كما أشار إلى ذلك أتشيبي في قوله ( إنّ اللغة الإنجليزيّة ستقدر على حمل ثقل تجربتي الأفريقيّة، ولكنها لا بدّ أن تكون انجليزيّة جديدة، بحيث تظلّ على صلة مستمرّة بموطن أسلافها، وتتغيّر بحيث تناسب البيئة الأفريقيّة الجديدة ) ص 29 شلش نقلا عن Jan. op. cit,p.66
وتظلّ القضيّة لدى الباحثين الأفارقة أنفسهم مطروحة بشكل آخر: كم من القرّاء يقرؤون روايات أتشيبي الانجليزيّة؟ كما يطرح داثورني قضيّة أكثر أهميّة في ذلك حين يتساءل هل هو أدب للتصدير ذلك الذي يكتب باللغات الأوربيّة.
الأفريقيّون الذين كتبوا بلغات أوربيّة لم يختاروا ذلك على الإطلاق ، وإنما فرض عليهم الأمر فرضا، إمّا بسبب عدم وجود لغة أفريقيّة مكتوبة في متناول أيديهم. وإمّا بسبب عمليّة التعليم التي لم تكن متاحة بغير اللغات الأوربيّة، لذلك قال سنغور إنّ اللغة الفرنسيّة هي التي اختارته ولم يقم هو باختيارها.
كتب تشارلز ر. لارسون في محنة الكاتب الأفريقي يقول: "إنّك لكي تكون كاتباً في أفريقيا ، فإنّ ذلك يتضمّن التغلّب على تحديّات كثيرة والتحايل على عقبات نادراً ما يصادفها الكتّاب في الغرب، وبالتالي فإنّ كتّاب الغرب لا يعرفون شيئا عن مكابدات كتّاب أفريقيا وكثير من دول العالم الثالث". ص 8-9
ويضيف بعد أن درس (آموس تيوتولا) الروائيّ النيجيريّ الذي يعتبره اليوم الكثير من النقّاد واحداً من الآباء المؤسّسين للواقعيّة السحريّة، والذي عاش حياة مملوءة بالإحباط والإهمال، وعندما مات 1997 كانوا يجمعون التبرعات لتسديد نفقات دفنه، يقول عنه لارسون الذي كتب عنه رسالة دكتوراه حول روايته " شرّيب نبيذ النخيل" إنّ (العمل الذي كان يقوم به آموس تيوتولا ونشر روايته "شرّيب نبيذ النخيل" يقدمان لنا مثالاً صارخاً على وضع كاتب يحظى بشهرة وتقدير في الغرب، ويتمّ تجاهله في وطنه إلى حدٍّ بعيد ، وهو وضع مألوف بالنسبة لكثير من الكتّاب الذين جاءوا بعده). ص 9
وحتى بعد أن نجح تيوتولا بروايته، سرعان ما بدأ الجدال وانقسم النقّاد إلى فريقين. كان النقّاد الانجليز والأمريكيّون مفتونين بقصّة " تيوتولا " وبأسلوبه في الكتابة بينما كان النقّاد الأفارقة يخشون أن يتصوّر الغربيون أنّ " تيوتولا" هو النموذج الأفريقي المتعلّم بشكل عام..ص 23 لا لشيء سوى أنّ تعليمه متوسّط وأنّه يعمل ساعٍ ، وكأنّما الإبداع مربوط بالتعليم العالي.
لقد أصبح على الكاتب الأفريقي اليوم واجبات ومهام عديدة وثقيلة،
فمثلاً عليه أن يحارب الفرديّة التي تفشّت مع السيطرة الاستعماريّة والغربة التي يحسّها كثيرون من مواطنيه. أو يحسّها هو نفسه نتيجة المتغيّرات المستمرّة في بلده .
عليه أن يحارب مظاهر القيم الغربية التي تجتاح كثيرا من الدول الجديدة في قارته..
أن يحارب الصراع الحالي بين السياسة والأدب، وهو صراع جعل الأدب تابعا للسياسة والساسة. وجعل الأديب يتجاهل الواقع الخصب ، ويتنازل عنه مرغما لصاحب الرؤى الجديدة أي السياسي كما أشار وولي شوينكا ذات مرّة. ص 28 شلش.
ويجد الإنسان نفسه وهو يعرض لهذه القضيّة التي تشكّل أهمّ التحديات التي تواجهها المجتمعات الأفريقيّة ، يجد نفسه وبصورة موضوعيّة مدفوعا للحديث عن الصراع الأزلي بين سلطة الكلمة وكلمة السلطة. فالأنظمة السياسيّة في أفريقيا كغيرها من دول العالم الثالث ، مرّت بتحوّلات وصراعات سياسيّة وقبليّة أدمت ضمير العالم. وما من انقلاب عسكريّ إلا وسيطر أوّل ما سيطر على منابر الكلمة، ليحدّ منها مصطفياً بعد ذلك من يبرّر كلمته، عاصفا بمن يعارضه، أو يمتنع عن توظيف فكره وإبداعه لصالح السلطة.. والأمثلة عبر التاريخ كثيرة لا حصر لها.
إلا أنّ الحسرة التي تدمي قلب المبدع الأفريقي وتلقي به في أتون محنة حارقة هي أنه أحبّ أن يعود من الشتات وعمل على ذلك وتغنّى بأفريقيا الأم أكثر من تغنيه بأقطارها الصغيرة.. لقد ناضل من أجل العودة إلى دياره وأهله فإذا به يجد نفسه بين جحيم السلطة وإهمال وتهميش إعلامها له.. الأديب الأفريقي يسائل نفسه : لمن يكتب..؟؟؟
الجماهير الغفيرة من الأفارقة تتفشى الأمية بينهم ، والعزوف عن القراءة ضارب أطنابه ، والسعي وراء لقمة العيش لا تفسح المجال للقراءة والاطلاع.. والرقابة تحاصر الأقلام .. وإذا كتب الكاتب فلنخبة هي نفسها في صراع لا ينتهي تغذّيه السلطة سياسيّة أو قبليّة..
والمبدع أهمّ عنصر يدفعه للإبداع هو الصدق الفنّى وصدق التجربة والالتزام بما يحمله في دواخله، ورؤيته لمجتمعه وفضائه وللعالم.. وإذا ما وجد نفسه منفصما يكتب ما لا يؤمن به مرغما أو وجد نفسه مزدوجا متصارعا غير متصالح بين الأنا الداخل والأنا الخارج الذي يفرض نفسه عليه ، هجر القلم واغترب داخل وطنه ، أو هجر بلاده رغما عنه ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) تشارلز . ر . لارسون، محنة الكاتب الأفريقي ، ص9.
(2) 31) نايت، الشتات الأفريقي، تاريخ أفريقيا العام، المجلد السادس، ص848 ، نقلا عن سى . هورغرونجي C.S. Hurgronje 1970 ص 11 ــ20 .
(3) (32) الشنتناوي[ ماسينيون L. Massignon] موجز دائرة المعارف الإسلاميّة، مركز الشارقة للإبداع،ج 17. ط1، 1998، مادة الزنج ،ص5334 ـ 5335 .
(4) (33) سعيد بن سعيد آل عمر ، تجارة الرق عند الأوربيين، مجلة آداب ص102 .
(5) (34) المرجع السابق ص 103 . وانظر عبد اللطيف أحمد علي، التاريخ الروماني عصر الثورة، دار النهضة العربية، بيروت ، ص 115 ـ117 . وكذا عمر عودة الخطيب، نظرات إسلاميّة في مشكلة التمييز العنصري، ص45 ـ46 . وكذا The New Encyc Lopaedia Britannica 16 :857 .
(6) [***] هنري سلفستر(1869 ــ 1911) وبينيتو سيلفان(1868 ــ 1916) وأنتيفور فيرمان (1850 ــ 1911) وهو صحافي ومحام ودبلوماسي ووزير ومرشح للرئاسة وشخصيّة بارزة في هاييتي، ومؤلف كتاب المساواة بين العروق البشريّة (الأنثروبولوجيا الإيجابيّة) نشر في باريس 1885 . أورينو دالارا ، نشأة التيار الأفريقاني، ص 18 .
(7) (35) المرجع السابق ص 18 .
(8) (36) المرجع السابق، ص 120 .
(9) [****] كتب سيرته هـ . ر . لينش ، إدوارد ويلموت بليدن 1832 ــ 1912، المواطن الأفريقاني، لندن ، منشورات جامعة اكسفورد، 1967 ،(أورينو دالارا، نشأة التيار الأفريقاني ، ص 16 .
(10) (37) أورينو دالارا ، نشأة التيّار الأفريقاني، ص 195 ــ 196 . نقلا عن بليدن، أصداء من أفريقيا ص 138، والاستعمار الأفريقي ص 352، وأثيوبيا تمد ذراعيها إلى الله ، ص 120 .
(11) (38) المرجع السابق ص 198 ــ 213 .
(12) (39) تاريخ أفريقيا العام ، ص 601 ـ 602 ، والنص عن الترجمة الإنجليزيّة الواردة في ترجمة س .و . والن S.w. Allen لجان بول سارتر J.P.Sarter 1963 ، ص 41 ـ 43 . وقد وردت ترجمتها في دراسة للدكتور أحمد منوّر :
(13) زنوجتى ليست حجرا ،
(14) صممها زاحف ضدّ صخب النهار.
(15) زنوجتى ليست قرنيّة ماء ميّتة على عين الأرض الميّتة
(16) زنوجتي ليست حصنا ولا قلعة،
(17) إنها تغوص في لحم التربة الحمراء،
(18) إنها تغوص في لحم السماء المضطرمة،
(19) إنها تثقب الإرهاق السميك لصبرها القويم . [ د. أحمد منوّر، الأدب الأفريقي بين مفهوم الزنوجة والشخصيّة الأفريقيّة، الفصول الأربعة ، العدد 107 ، الفاتح(سبتمبر) 2005 ص 66 .
(20) (40) خالد عبد المجيد مرسي، الأدب الأفريقي الحديث، أعمال مؤتمر التعليم من أجل التحرير في أفريقيا، مركز البحوث والدراسات الأفريقية، سبها1988، ص 519. نقلا عن Cesaire,Aime :'' Chaierd,un retour au pays natal" Paris,Presence Africaine, 1956,P.P.48 -73 . وقد ترجم العنوان د. أحمد منور باسم " دفتر العودة إلى مسقط الرأس " Cahier d un retour au pays natal .[ الأدب الأفريقي بين مفهوم الزنوجة والشخصية الأفريقية، الفصول الأربعة، العدد 107 ،سبتمبر 2005 ، ص 66 .]
(21)
(22) (41) المرجع السابق،ص 520. نقلا عن Senghor,L,S,: " Que m,accompagnet Koras et balafong" ibid,P,35.
(23) (42) أحمد منوّر، الأدب الأفريقي بين مفهوم الزنوجة والشخصية الأفريقيّة، الفصول الأربعة، العدد 107 ، سبتمبر 2005 ،ص 67 .

.

إقرأ المزيد Entry>>

الخميس، 19 نوفمبر 2009



مقابلة شخصيّة 
مع الشاعر العربي السوداني:
عبد الرؤوف بابكر السيّد
أجرتها : أ. هدى رجب محمد

الصيف (يونيو) 2008

• 




بعد التحيّة لك إنسانا وشاعرا ومعلّما وباحثا  اسمح لنا أن نتساءل متى ولدت؟ وأين؟
• في قرية هادئة وادعة على ضفاف النيل شمال العاصمة الخرطوم، تدعى[المتمّة] ولدت في فجر الاثنين 21ــ 6 ـ 1944 ، لأسرة كبيرة تتكون من أب وأم وخمسة عشر من الأبناء والبنات(6 من الذكور و9 من الإناث). كنت ثالث هذه الذرّيّة.. وهذه الأسرة تنتمي لأسرة ممتدّة تتشكل من 15 من الأعمام والعمّات، إضافة إلى الأخوال والخالات من جهة الأم..
أين تلقيت تعليمك الأوّل ومن ثم المدارس الثانويّة فالجامعة وما صاحب تلك الفترة من تمرّد ونضال؟
• ربما طالت الإجابة عن هذا السؤال...         لقد كان والدي مزارعا أول الأمر بهذه القرية وأعمامي كذلك، وكان الجراد الذي ظلّلهم كالسحابة وهم في اتجاه حصاد زرعهم ، هو السبب الرئيس الذي دفعهم للهجرة إلى العاصمة أم درمان ، حيث قفلوا عائدين إلى منازلهم دون أن يكملوا المشوار، لإدراكهم أن لا قبل لهم بمكافحته، وأن لا سبيل لإنقاذ حصاد زرعهم. تلك كانت أولى الرحلات التي وعيتها في صغري، وأنا أقف على محطة القطار مع كامل أسرتي ، وأعمامي في انتظار القطار القادم من الشمال لمدينة شندي( بالجهة الشرقية لنهر النيل المقابلة لقرية المتمّة).. باتجاه الخرطوم. والمتمّة كانت تاريخيّا عاصمة قبيلة الجعليين، ومستقر شيخهم المك نمر.. وتلك قصّة تاريخيّة حكاها لنا كبارنا وتلقيناها قراءة من تاريخ السودان.
كان أول همّ والدي متجها نحو التعليم، فبمجرّد الاستقرار في منزل بالإيجار بأحد أحياء أمدرمان القديمة.. توجه مباشرة بنا إلى المدرسة الأوّليّة (مدرسة الهدى الأوّليّة) لأدرس بها أنا وأخي الأكبر وأخي الأصغر.. كانت المدرسة خاصة برسوم دراسة قدرها(15 قرشا) في الشهر للطالب، وذلك في العام 52 ــ1953 والسودان مازال تحت الاحتلال البريطاني.. كنّا قبلها قد تلقينا حفظ جزء ليس باليسير من القرآن بإحدى الخلاوي بالمتمّة.. تمّ إجراء امتحان قبول تأسّس بموجبه تنسيب أخي الأصغر في السنة الأولى، ونسّبت أنا بالسنة الثانية وأخي الأكبر تمّ قبوله بالصف الثالث.. في العام التالي وعند إكمالي السنة الثالثة كان هاجسي أن أمتحن الشهادة للمرحلة الوسطى (الإعدادي) مع أخي الأكبر الذي أكمل السنة الرابعة، فجلسنا سويا واجتزنا الامتحان (54 ــ 1955) فكان نصيبي من دراسة الأوّلية السنة الثانية والثالثة فقط.. التحقت بمعهد أم درمان العلمي لدراسة المرحلة الوسطى (4 سنوات) والمرحلة الثانوية(4 سنوات) من 55 وحتى1963. ثم واصلت دراستي بجامعة القاهرة فرع الخرطوم كلية الآداب ، قسم اللغة العربية ، حيث تخرّجت فيها عام66 ـ 1967.
التحقت بعدها بالتعليم العام معلّما .. ومواصلا دراستي فوق الجامعيّة في الوقت ذاته ، فلم تشأ وزارة التعليم وقتها منحي فرصة التفرّغ للدراسة. اجتزت في 68 ـ 1969 السنة التمهيديّة بنجاح ، ثم كان اختيار موضوع الرسالة( المدارس العروضيّة في الشعر العربي) حيث كانت أوّل رسالة علميّة عن عروض الشعر العربي.. قمت لأجل إنجازها بعدّة رحلات إلى القاهرة للاستفادة من معهد إحياء المخطوطات العربية التابع لجامعة الدول العربية.. وقد أنجزتها وقمت بمناقشتها في يناير 1972. حيث كان المشرف د. عبد المجيد عابدين.. والممتحن الداخلي د. شكري عيّاد والممتحن الخارجي د. عبد الله الطيب..
خلال هذه الرحلة العلمية، والمؤسسة على الجانب الديني، سواء بتلقي حفظ القرآن الكريم بالخلوة أو بالمعهد الديني.. كانت هناك العديد من الأسئلة المتشابكة التي لا تجد حلا في دائرة الفكر الديني، ولم يكن لي من سبيل لمناقشة أفكاري وطرح تساؤلاتي وأنا في مرحلة الثانوية إلا مع أقرب أصدقائي.. وفي المرحلة الجامعيّة كان الصراع محتدما بين الاتجاه الإسلامي والشيوعيين داخل الجامعة، مما يعني طرحها انحيازا لفريق ضد آخر، ولم أكن في الوقت ذاته أنتمي لأحدهما..
وما أحمده لوالدي(يرحمه الله) الذي كان متديّنا واعيا، تلك اللفتة البارعة منه في تربيتي، حيث نمّا فيّ روح الحوار وأدب النقاش.. كان يستدعيني لأجلس بالقرب منه على حافة سريره، وهو متمدّد على فراشه، ليطرح لي موضوعا يطلب رأيي فيه، كنت بلا تردّد أطرح ما أراه، فيأخذ هو الاتجاه المعاكس حتى لو كان متفقا معي.. ليستمر الحوار حتى وقت متأخر من الليل.. كان يتقبّل منّي ما أطرحه من رفض وتمرّد على العادات والتقاليد والأعراف السائدة، وعندما يصل الأمر إلى البنية الدينيّة والإشكالات المستعصية لدي.. كان عندها يطلب مني بهدوء التوقف عن تناول مثل هذه القضايا لما فيها من مهالك كما يقول.. وفي ذات الوقت كنت أحسّ بسعادته لما أطرحه، فيشعر بأني بالفعل ألقي بحجارة في الماء الراكد..
إضافة إلى ما منحتني إياه خصوبة المرحلة الجامعيّة التي كانت مليئة بالحوارات وغنيّة بالقراءات وبممارسة الكتابة في مجال النقد ونشر الشعر بمجلة الإذاعة وغيرها من الصحف إضافة إلى الصحف الحائطية بالجامعة والندوات والمحاضرات والملتقيات.. كل ذلك جعل خصوبة هذه المرحلة تعدّنا بالفعل لأداء دورنا في الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية..
أذكر أننا شاركنا وبفعالية وقد كنا طلابا في المرحلة الثانويّة في مظاهرات ضخمة وعنيفة جبنا فيها شوارع أم درمان والخرطوم حين تمّ اغتيال المناضل الأفريقي (باتريس لوممبا) الثائر الأفريقي في الكونغو، من قبل وكالة الاستخبارات الأمريكية.. وأسهمنا بفاعليّة أكبر في مظاهرات ثورة أكتوبر الشعبية1964 ونحن طلابا في الجامعة حينها، حتى تم إسقاط الحاكم العسكري الفريق إبراهيم عبّود.. وتجاوبنا بصدق مع مصر عبد الناصر حين وقع العدوان الثلاثي 56 وعندما وقعت الهزيمة عام1967.. لم نصدّق وقتها .. وعشنا مرحلة ذهول، لكننا مع ذلك قمنا باستقبال جمال عبد الناصر في قمة الخرطوم، استقبال الأبطال مشكلين عمقا له، مما منحه العزم ودفع به إلى استعادة الثقة بأمته التي لن تكسرها الهزائم..
ما أهم المحطات الثقافية في حياة الشاعر؟
• من أهم المحطات الثقافية التي استوقفتني وأنا طالب بالمرحلة الإعدادية ، أن والدي(رحمه الله) كان يصطحبني لحضور الأمسيات والليالي السياسية التي كانت تقام بنادي الخرّيجين بأم درمان، حيث يلقي كبار ساسة الأحزاب في تلك الفترة خطبهم السياسية، فاستمعت للخطاب السياسي وخاصة لسياسيّي الحزب الوطني الاتحادي ( الاتحادي الديمقراطي لا حقا) فقد كان والدي منتميا في تلك الفترة لهذا الحزب، قبل أن يتخلّى عنه ويعانق أنصار السنة المحمّدية.... أذكر وأنا صغير أرافق والدي إلى هذه الليالي السياسية.. أن سلّم عليّ أحد أصحابه وسألني عن اسمي فأجبته. وعن جنسيّتي ؟ فقلت له: (جعلي) مستندا إلى قبيلتي.. عند عودتي إلى المنزل وجّهني والدي بأنه إذا سألك أحد عن جنسيّتك فقل له: سوداني.. وإذا ما سألك بعد ذلك من أين في السودان فيمكنك حينها أن تقول: من دار جعل.. أحسست في هذه المحطة الثقافية الكبرى بأن السودان بأكمله وعلى امتداده قد أصبح هو قبيلتي .. وعندما كبرت وازدادت معارفي لم أجد بداخلي خارطة للوطن العربي ولا حدودا سياسية أو جغرافية بل أحسست بأن الوطن العربي الكبير هو وطني وداري وأن العرب هم قبيلتي.. وتدرج بي الأمر فأحس الآن بإنسانيّتي في الرؤية والتفكير والإحساس.. الأمر الذي غرسته بأبنائي..
ومن أهم المحطات التي منحتني وعيا بإمكاناتي وقدراتي إحرازي الترتيب الأوّل في الإلقاء بمسابقة طلابية وأنا في الثانوية.. حيث أجريت على مستوى المعهد العلمي بجميع مستوياته الإعدادي والثانوي والعالي.. وأذكر أن الجائزة كانت مجموعة من دواوين الشعر، من بينها ديوان الشاعر معروف الرصافي..
كما أحرزت الترتيب الأوّل في كتابة الشعر بالجامعة، كان أعضاء هيئة التدريس حكامها ومنهم أمين القسم وقتها الدكتور محمد زغلول سلاّم.. خرجت في تلك القصيدة على عمود الشعر التقليدي، وكانت المرة الأولى التي أكتب فيها بهذا الشكل معلنا انحيازي التام له.. ومنحتها معان بسيطة في مفرداتها ذات أبعاد في دلالاتها أذكر أن مقاطعها كانت تقول:

تعب مرهق
المفصل منّي يتوجّع
والرأس تهشّم وتصدّع
والقلب ينادي
الصدر يضيق
وبذهني أغفو وأفيق
والعرق مع الآخر ينبض يتقطّع..

يارب أنا في الكون وحيد.
أنا لست بلغز..
لكنّ الحيرة نار
لا تعرف للنفس قصيد..
أنا في حيرة
أنا في هذا الجو الصحو مريض

السلسلة الفقريّة والعضلات..
والمفصل منّي والإصبع
الزمن القاهر في النفس تربّع
المرض المزمن ..
والجهل الممهن..
والفقر على الجوّ تسكّع..

لا أدري اليوم أم الساعة
هل تغرب شمسي وتغيب
وأكفّن في ثوب أبيض..
وعلى الصحراء يسبر رمسي
وأوارى أقبر في صمت
ويشاع الخبر المحزن..
أو يكتم...

وهناك صحابي أحبابي
النفس لديهم قد تركع
بحديث حولي يتقطّع
روحي معهم
وعيوني بخلت أن تدمع
لكني أحاول أن أسمع
لأجيب..
فيخون لساني..
ويطير جناني..
والصرخة تدوي كالمدفع
وإذا بغيوم حولي تتدفّق
ورزاز يطل أو "نقنق"
وزهور تزهو..
وخضار يورق
وتعود البسمة من أخرى
بشفاهي ترتع..

ما أهم النشاطات التي قام بها الشاعر أثناء دراسته ، مع تصوير للواقع السائد آنذاك..
• من أهم النشاطات التي قمت بها وأنا طالب في الثانويّة سوى إسهاماتي في الجمعية الأدبية والمهرجانات السنويّة، وخاصة لعب دور في مسرحيّة باللغة الإنجليزيّة.. أذكر أن مرحلة الجامعة كانت ثرّة ومتميّزة وغنيّة، ذلك أن جمعية اللغة العربية التي كنت أترأسها قد أسهمت بشكل كبير في إقامة عدد من الندوات والمؤتمرات والمحاضرات العامّة التي كنّا نستضيف فيها كبار أساتذتنا بجامعتي الخرطوم والقاهرة.. إضافة إلى تأسيسي لجماعة الطلاب الأحرار حين تعرّت أمامي الأحزاب الطلاّبية المنتمية إلى أحزاب رئيسية تعكس داخل الجامعة ما تقرّره تلك الأحزاب في الشؤون السياسية والرؤى الاقتصادية.. وكان المفترض أن لا تكون تابعة وأن تتمتع باستقلالية ولو نسبية لرأي الطلاب الجامعيين الذين يعوّل المجتمع عليهم كثيرا.. وحتى لا يكونوا أبواقا لرؤساء الأحزاب وتكرارا لبياناتهم.. كنت أنادي حينها بأن يكون رأي الطلاّب حرّا نابعاً منهم، تتدارسه الأحزاب بعد ذلك أو يضيء الفكرة لجماهير شعبنا.
أمّا عن الوضع السائد حينها فقد كان مشحونا بالوطنيّة والقوميّة مع التداخل والتواصل الرائع في النضال مع القارة الأفريقية.. بمجمله كان متفتّحا طموحا ، متنوّعا ، ثريّا.. وكان السودانيوّن متسامحين إلى حدّ كبير، يتمتّعون بوعي جعلت هناك حريّة للرأي ومساحة للمعتقد أيّا كان ، فتجدين الإخوة الذين ينتمون لاتجاهات فكريّة متباعدة ومتنافرة يجلسون على مائدة واحدة، ويفصلون بين الاختلاف في الرأي أو المعتقد وبين الود والمحبّة والاحترام الرابط بينهم باعتبار أنّ هذا الاختلاف والتعدّد في الرؤى يثري الحياة ويجعلها أكثر خصوبة..
متى بدأت قريحتك الشعريّة تبدأ بطرح ما فاضت به نفسك؟ وما هي أولى محاولاتك الشعريّة وما مضامينها؟ مع ذكرها لو تكرّمت؟
• أعتقد أنّني بنهاية المرحلة الثانويّة وأنا على أعتاب الجامعة بدأت أمارس كتابة الشعر وقد كان منها الوطني والعاطفي، والذي كنت ألقيه على أصدقائي أو أنشره ببعض المجلاّت والصحف آنذاك.. لا تستحضر ذاكرتي ما كتبت تلك الفترة وربما وجد بعضها في قصاصات بمكتبتي بالسودان.. لكن الذي أذكره أنّ أوّل بيتين كتبتهما وأنا في المرحلة الثانويّة تقولان:

قضيت العمر لا أشكو سوى حظّي يميت بمـــهــــده أمـــــلي ويفـــــنــــيني
فلا أدري أأبكي الحظّ في صمــتي أم الحظ الذي أشكو سيبكيني

ما هي الحكومات أو الأحزاب التي عاصرها وعاش في ظلّها الشاعر؟ وما مدى رضاه عنها؟ وهل كان شعره في الرفض والتمرّد ناجم عن عدم رضا بكل الحكومات التي عاصرها؟ وإلا فما البديل الذي يقترحه؟
• لقد أجبت عن هذا السؤال في كتابي" السودان الثورة من النفق إلى الأفق" حيث أوضحت تعدّد وتعاقب الحكومات في السودان بدءا من الاستقلال عام1956 والحكومة الحزبية الأولى بقيادة إسماعيل الأزهري، ثمّ عبدالله خليل ثم الانقلاب العسكري للفريق إبراهيم عبّود في 17 نوفمبر 1958 وحتى أكتوبر 1964 حيث تفجرت في الحادي والعشرين منه ثورة أكتوبر الشعبية..بعدها جاءت حكومة انتقالية كان رئيس وزرائها " سر الختم الخليفة" ثم جاءت الحكومة الحزبية عبر الانتخابات وتسلم محمد أحمد محجوب عن حزب الأمّة ثم الصادق المهدي ، إلى أن استولى على الحكم جعفر محمد نميري في 25 . مايو . 1969 .عبر انقلاب عسكري.. استمرّ حكمه إلى أن تمّ إسقاطه في 1985 تولّى الحكم بعده الفريق سوار الذهب والذي وعد أن تكون فترة حكمه لمدّة عام انتقالي، ولم يمض العام حتى أجريت الانتخابات، وجاءت الأحزاب مرّة أخرى لتستأنف حكمها.. وكان الصادق المهدي رئيسا للوزراء بتحالفه مع الجبهة الإسلاميّة(حسن الترابي) ثم فك الائتلاف والتحالف مع الاتحادي الديمقراطي.. ولم يصل 30 يونيو 1989 حتى استولى على الحكم الفريق عمر أحمد البشير وفق توجه إسلامي سانده في البدء (حسن الترابي) ثم انفصل عنه.. ولا يزال عمر البشير رئيسا للسودان.
تلاحظين أزمة الحكم التي تعاقبت من خلالها أكثر من ثمان أنظمة سوى الانقلابات التي تمّ إجهاضها أو كشفها ومحاكمة القائمين بها.. أين السودان من كل ذلك.. إنها السلطة والصراع عليها.. يمكن أن تكون كتاباتي ومقالاتي أكثر تعبيرا عن رفضي لعدم الاستقرار السياسي سواء في صحيفة الثورة الشعبية أو من خلال المجلّة التي قمت بإصدارها " مجلة العقل الجماعي " والتي تنبأت فيها بوصول العسكر مرّة أخرى إلى السلطة من خلال الممارسات الحزبية ولعبة السياسيين بمقدّرات البلاد.. ولقد أشرت إلى ذلك في بعض قصائدي ، ولكن الرفض الذي تتسم به أعمالي أحسّ بأنه أكبر من ساحة السودان، حيث تجذّرت فييّ الروح القوميّ منذ زمن، وأضحى الرفض للتجزئة والتشرذم والدويلات القزمية والحدود أكبر مساحة في أعمالي.. وقد أشرت إلى أزمة الحكم في السودان في قصيدة " أمام عدالة الوطن" بديوان " الدموع المحال" فذكرت في "اللّوحة" :

كان التاريخ يسطّر آخر حرف.
كان سيكتب ....
كان سيكتب...
كان سيكتب..
كان المشهد لمّــا..
كان سيكتب
كان المشهد لمّـا..
الحزب تحزّب
فيك تعصّب
لمّــا العسكر فيك تنصّب..
لمّـا الطفل تعذّب...
لمّــا صرت اللعبة بالحزبيّة "أو لب لب" .
لمـا صرت الّلعبة
بين العسكر والحزبيّة
"أو لب لب"
لما صرت اللعبة
بين المجلس والجمعيّة
"أو لب لب"
لمّا صرت اللعبة
كلّ صباح " شد واركب"
كان التاريخ يسطّر آخر حرف
كان سيكتب..
كان سيكتب
كان المشهد لما كان سيكتب
كان المشهد فيك نذيري.. .

هل كانت العائلة الأولى مؤثرة بشكل أو بآخر في شخصيّة الشاعر؟ ومن هو أهم شخص كان له الأثر الكبير في ذلك؟ .
• لقد نشأت في عائلة كبيرة بها الكثير من الود والحب، واحترام أعضائها، لا أذكر مطلقا أن نشأت مشادّة أو شجار بين الإخوة والأخوات ولا علا صوت أحدهم على الآخر.. هذا المناخ المليء بالمشاعر والعطف والمحبّة والحنان، هو الذي نشأت فيه فكان مؤثرا فيّ بشكل كبير.. حيث لا أذكر مطلقا منذ طفولتي وحتى الآن أن امتدّت يدى على أحد ولا امتدّت يد أحد عليّ ( اللهمّ إلاّ ما واجهته داخل المعتقل في العام 1992) ولقد وعيت لأسلوب انتقاء الأقران منذ الصغر.... تأثرت كثيرا بشخصيّة والدي وحكمته (رحمه الله) وكنت ولا أزال معجبا بها، شاكرا لها أسلوبها في التربية.. والجميع يشهد بذلك.. أذكر أنه كان يصطحبني إلى دور العرض(السينما) لحضور بعض الأفلام التي غالبا ما يكون قد شاهدها في اليوم السابق.. ووجد فيها العظة والعبرة والفائدة التي يمكن أن أحصل عليها.. إضافة إلى أنه لم يكن قاسيا، بل كان مشجّعا لي على الدوام .. مستمعا لي ومحاورا كما أسلفت..
ما هي الدواوين التي شغف بها الشاعر وكان مداوما على قراءتها..؟
• كل الشعراء كانوا أهلي وأسرتي وقبيلتي .. منذ مرحلة الثانويّة وحتى الآن بدءا من شوقي وحافظ والبارودي والرصافي والجواهري وحتى درويش وسميح القاسم وأدونيس والفيتوري وعبد الصبور والبيّاتي ونزار(قائد الثورة الاجتماعيّة قبل67 والسياسيّة بعدها) ومظفّر النواب وأمل وغيرهم. كل حديقة الشعر كنت أتجوّل فيها على الدوام وأختار كلّ يوم ركنا قصيّا فيها مع أحدهم..
ما هي أهم الكتب التي كان يحرص الشاعر على قراءتها واقتنائها؟ وهل كانت له القدرة على توفير كل الكتب التي يرغب فيها( الحالة الاجتماعيّة في ذلك الوقت)..
• لقد كانت الكتب هي طعامي وشرابي، وكنت وحتى الآن أحرص على أن يكون مخزوني منها كبيرا، تعلّقت بالكتاب منذ طفولتي، وأسّست مكتبتي الخاصّة منذ وعيت القراءة في المرحلة الأوّلية(الابتدائيّة) وأذكر أولى القصص التي تعلّمت القراءة فيها قصّة بعنوان (غابة الشياطين) .. استهوتني القراءة واقتناء الكتب بشكل أكبر بعد أن تمّ تشجيعي عند الفوز في كل مسابقة بمجموعة من الكتب ودواوين الشعر خاصّة.. حرصت على مكتبتي التي فاقت عند تخرّجي من الجامعة الخمسة آلاف عنوان .. لم يكن في زمننا آلات تصوير .. أذكر أنّ كتابا هامّا كنت بحاجة إليه وكان نسخة وحيدة لدى أستاذي في الجامعة وكان مسافرا اليوم التالي.. أذكر أنني استعرته ليوم واحد وعكفت على نسخه بخط اليد دون أن يعتريني النعاس ولو للحظة حتى أتمكن من إعادته لأستاذي في اليوم التالي.. أضيفي إلى ذلك أن الكتب في تلك الفترة كانت زهيدة الثمن.. ووظفت كل رحلاتي إلى القاهرة لشراء أكبر عدد من مكتباته وخاصة سوق الأزبكيّة المشهور.. الحالة الاجتماعيّة من حيث الناحية الاجتماعيّة كانت متوسطة كبقيّة أفراد الشعب السوداني.. حيث لم تكن هناك طبقيّة بين الثراء والفقر.. الجميع كان وسطا.. لذلك دائما ما أعزو إلى ذلك هذه الروح الطيّبة الإيجابية لدي السودانيين..
من هم أهم الشعراء الذين تأثّرت بشعرهم وسار على منوالهم؟
• جميعهم.. لم أتخيّر نمطا معيّنا لدى شاعر لأقتفيه أو أسير على منواله ، هذا دوركم كدارسين على تبصيري بذلك، ولكنّي وجدت نفسي أكتب بهذا الّلون من الكتابة ، ربّما تأثرت ولكنني لا أعرف حقيقة بمن، لقد كانت حديقة الشعر بالنسبة لي من أجمل المنتزهات التي أقضي فيها معظم وقتي.. فأنا لم أمارس الّلعب مع الأقران، ولا أذكر مطلقا أنّني لعبت حتى كرة القدم، التي تستهوي الجميع، مستعيضا عنها برياضة المشي.
هل كان للبنية السائدة تأثير على الشاعر؟ أم أنه متمرّد على البنية وعلى ما هو سائد.. وهل تعترف بالحدود الجغرافية التي تحول بين أبناء الأمّة الواحدة ذات الدين واللغة والعرق الواحد..؟
• كنت منذ نشأتي متأملا في عالم البشر رافضا متمرّدا لكثير من أوجه الحياة، معبّرا حينها عن رفضي بعدم التزامي بالهندام أو المظهر الخارجي الذي يقاس به مدى وعي أو تحضّر المرء من عدمه، حيث ما كان الشكل يشكّل عندي مقياسا قدر اهتمامي بالجوهر وما يحمله المرء من فكر وقيم.. وكنت قبل أن ألتقط أداة التعبير باللغة أمارس الرفض بإطالة الشعر وعدم حلاقته(حيث كنت أحلق شعر رأسي مرّتين في العام) رافضا تسليم رأسي طواعية لحلاّق يعبث به كما يشاء وأطيعه في الاتجاهات التي يريد.. كما كنت أرتدي من الملابس ما يتوافق معي لا ما تقرّه الموضة أو ما توفّره الأسواق.. وفوق ذلك كان الحوار مستمرّا مع أصدقائي المقرّبين ومع والدي حول العديد من العادات والأعراف والتقاليد التي بليت ولا أرى مبرّرا لالتزامها، حيث لم يعد العصر عصرها كما أرى .. من ذلك ختان البنات (من أجل المحافظة على الشرف) وهي عادة وردت إلينا من مصر (الختان الفرعوني) ومن ثم يتم حرمان البنت من أبسط حقوقها.. كما دافعت عن حريّة المرأة كثيرا..وأوضحت لهم أن الشرف لا يقاس ولا يستجلب بحبس البنت في المنزل بل يقاس عندما يسمح لها بالاختلاط وممارسة الحياة العصريّة بمدى محافظتها على نفسها.. أمّا السجينة فلا يمكن قياس شرفها بحبسها.. إلى جانب الكثير من القضايا كالمجاملات الاجتماعيّة والتي تخلو من المشاركة الوجدانية، حيث يشوبها الكثير من النفاق الاجتماعي.. وهكذا..
وفي الجانب الديني استفزّني كثيرا الجانب الشكلي للدين وممارسة هذه الطقوس والشعائر دون أن يكون مردودها عمليّا في الممارسة والمعاملة(فالدين المعاملة) فكون الناس يهتمون بالعبادات دون أن تؤثر في المعاملات، ذلك يعني أن هذا الجانب غير نابع عن إيمان عميق، وأنه مجرد أداء واجب بالحركات التي كان ينبغي أن تقود إلى السماحة في المعاملات من صدق وأمانة ومعاملة طيّبة وابتسامة في وجه الآخر، بل وحب الآخر كما يحب الإنسان نفسه.. أما عن الجانب السياسي فقد تطرقت لذلك في سؤال سابق ، أضيف هنا أنه لم يستهوني حزب من الأحزاب، ولا كان مقنعا بالنسبة لي هذا التمزّق والشتات في الصراع على السلطة، علما بأن الأحزاب الكبيرة كانت متكئة على البيوت الطائفيّة (بيت المهدي) و (بيت الميرغني).
وعن الهم القومي فقد كنت أحمله مع كثير من القوميين منذ تفجر الثورة الناصريّة داعيا لوحدة السودان ولوحدة الأمّة العربية، فالفرقة والشتات ما هي إلاّ وسيلة من وسائل الضعف الذي يستهدفها المستعمر للنيل من أصالة الأمم والشعوب.. وكانت هزيمة 67 إحدى أهم المحطات التي استوقفتني وهزّتني من الأعماق كغيري من شباب الأمّة العربيّة.. وقبلها كان مقتل لوممبا وقبله كان العدوان الثلاثي على مصر في56..
كما كانت لقاءاتنا ومنتدياتنا والمقاهي التي نرتادها بأمدرمان هي خبزنا اليومي( بمقهى يوسف الفكي) أو مقهى (جورج مشرقي) بأم درمان أو مقهى المحطة الوسطى بالخرطوم. كل ذلك لم يحل دون تحصيلي العلمي، بل كان جزءا أساسيا من التساؤلات والمحاكمات التي تقفز داعمة لرفضي لأسلوب مجتمع تقيّده الطائفية وتحاصره الأمّية، وتلتف حول عنقه الأعراف والتقاليد والعادات.. صحيح أن به الكثير من القيم الرائعة ولكن الجانب الشكلي للتعامل كان يثير فيّ امتعاضا ورفضا داعيا إلى التعامل بصدق مع الذات ومع الآخر.. وحين امتلكت أداة التعبير هالني أن أجد فروقا جوهريّة كبيرة بين المفردة ودلالاتها العميقة ، واستخدامها السطحي، وجدت أن العمق في المفردة لا يتناسب وضحالة المعنى المستخدم، بل في كثير من الأحايين كنت أجد المفردة وقد تآكلت من كثرة الاستخدام غير الصادق لها فأبحث عن البديل.. ورغم أن رسالة الماجستير كانت حول المدارس العروضيّة في الشعر العربي ودراسة بحور الشعر العربي ، إلاّ أنني لم أجد نفسي أو إيقاعي الداخلي منسجما مع هذه الإيقاعات، فإذا بي ألوذ بشعر التفعيلة وأحيانا بحرية أكبر ليمنحني مساحة لنفَسِي الداخلي وإيقاع العصر..
شخصيتك الداخليةّ التي لا يعرفها أحد، من تكون؟
• شخصيّة طبيعيّة، لها نهجها في الحياة، وأسلوبها وفلسفتها.. كثيرون يعرفونني كل من جانب محدّد.... لقد مارست التعليم منذ العام1967 بعد تخرّجي من الجامعة، سواء في السودان أو في ليبيا بمختلف مراحله.. فهناك أجيال على مدى الأربعين عاما الماضية يعرفونني معلما.. كما مارست دوري عبر الإعلام المسموع والمكتوب، فهناك الكثير ممّن يعرفني إعلاميا.. وشاركت في العديد من الندوات والمؤتمرات العلميّة فتعرّفوا عليّ باحثا.. وهناك من اضطلع على كتبي فتعرّف عليّ كاتبا.. وهناك من قرأ لي أو استمع للنصوص الشعريّة من خلال المطبوع أو الأمسيات والأصبوحات الشعريّة .. فتعرّف عليّ شاعرا.. إضافة إلى أنّ هناك من تعرّف عليّ عن قرب من الأصدقاء والإخوة فعرفني إنسانا من خلال تعاملي معه ومع الآخرين. لكن الإنسان بداخلي، فقد ابتنيت له عوالم، حمل جزءا كبيرا منها النص الشعري.. فهي:

عوالمي التي ابتنيتها بداخلي
عوالم لا دار فيها.. لا أبواب .. لا خفر..
مساحة للعطر والمطر..
وساحة للحب لا خداع لا كدر..
وبسمة كالشمس في إشراقها
ونسمة ونغمة بلا وتر
عوالمي.. هي جنّتي الصغرى التي خلقتها..
ابتنيتها
المعاصي روضتي..
والضلال بحبره السرّي صفحتي..
يحميني.. ينشرني.. ويطويني.. ويكفيني..
ويمنحني هدوء السطح للبحر..
وأعماقي تعجّ تصطخب..
بما يجري أمام العين..
من عالم بلا نجوم، بلا قمر..
عالم أشجاره بلا ثمر..
عالم البشر
عالم النميمة الحمقاء والأحقاد والنفاق..
والهموم والسموم .. والكدر..
عالم البشر أشجاره بلا ثمر..

هل تحرّرت من القيود ، وانسلخت من التقاليد وتمرّدت بالشكل الذي تريد؟ أم أنّ هناك ما يحول دونك وتحقيق ذلك؟ بمعنى هل أنت راض عن هذا الشكل الواضح في شعرك أم أن ما خفي كان أعظم؟
• الشاعر أو المبدع عموما هو شخص تيسّر له تجاوز البنية السائدة، والتمرّد عليها إمّا بحكم رتابتها أو تدنّي فاعليتها أو لاستشرافه لأبعاد يحس بضيق المساحة التي تحكمه وتتحكّم فيه وبه فيما هو سائد وواقع ، ومن ثم أمكن تفعيل بنية وعي أخرى لديه..أمّا عن القيود والانسلاخ من التقاليد فأحب أن أوضّح أن الانسلاخ من التقاليد البالية وليست أيّ تقاليد.. التقاليد التي لا تنسجم وروح العصر.. فالتمرّد عليها يصبح قضيّة وجوديّة لإثبات الذات..

أمّا القيود فما أقساها حين تتعلّق بقيم إنسانية من صدق وحب وشفافية وأمانة وتوحّد مع الذات... الغالبية يتفقون معها لكن البنية المتحكّمة في هذه الغالبية تحول بينهم والالتزام بها ولا تسمح لهم بالتواؤم معها ولا بتطبيقها.. لكنني لا أودّ الهروب من واقع، وإن كان يجرح العين، إلاّ أنني في الوقت ذاته لن يفرض عليّ مسايرته بالكامل.. أحسّ بالغربة بين الناس.. ولكن كما قلت سابقا أخلق عالمي الخاص وأحتمي به، وأعبّر عن معاناتي وعن غربتي عبر الحرف أيضا في حدود لا أجرح فيها الآخر ولا أفرض عليه رؤيتي وأفكاري في ذات الوقت.. ما أكتبه إلى حد مّا أحسّ بأنّ فيه ما يمكن أن تسمح به البنية ، وبه ما تجرّمه وتدينه.. أمّا أبعد من ذلك فلن يستطيع أيّ فرد إلاّ إذا هاجر عن مجتمعه وهجره بكامله.. ومع ذلك أفضّل أن أكون مغتربا في وطني متحمّلا آلام (القولون).. عن أن أكون غريبا عنه بعيدا عن هوائه وأجوائه.
هل تعتبر الشعر المتنفّس الوحيد الذي تستطيع من خلاله أن تعبّر عن رفضك ، وتمرّدك تجاه ما تؤمن به البنية السائدة؟.
• بالتأكيد لا .. ولكنه الأقرب إلى نفسي كأداة أودعها روحي وفكري ورؤيتي حتى لو جرت على جسدي من خلال تكثيف المعاني.. فهناك الحوار.. وهناك المقالات.. وهناك الدراسات والأوراق البحثية وأساليب تحليل النصوص.. وهناك ما هو أبعد من ذلك وهو الممارسة الفعليّة للحياة.. فكثيرون يشيدون بنهجي وأسلوبي وكيفيّة تعاملي مع الآخرين.. وهذا السلوك هو رسالة أقوى تأثيرا لكنها في إطار المحيط الذي أنت فيه.. أمّا النص الشعري فهو رسالة أعم لأنها ترتحل عبر الطابعة والكتاب إلى مساحات أخرى بل وأزمنة أخرى كذلك..
ما هو سبب خروجك من وطنك الأم السودان ؟ إلى وطنك الأم ليبيا.. واختيارك لها موطنا ومقرّا دائما..
• ما أكثر ما يد فع أبنا الوطن للهجرة .. وخاصة حين تمارس البنية السياسية العسف والجور والظلم.. تلك كانت فترة (الجنرال جعفر النميري) الذي لم يستقر طيلة فترة حكمه على مبدأ، والذي رهن السودان للولايات المتحدة الأمريكيّة.. والذي قام بترحيل الفلاشا من أثيوبيا إلى الكيان الصهيوني.. في وقت بدأ حياته في السلطة اشتراكيا.. وعروبيا.. ثمّ أمريكيّا وأخيرا إسلاميا حينما لم يجد من سبيل للبقاء في السلطة إلاّ أن يتخذ الإسلام عباءة له.. ومثل هذا التنقّل يهزّ كيان المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.. ولا يمنح الدولة الاستقرار السياسي اللازم لتعزيز ثقة العالم به..
حين خرجت إلى ليبيا أوّل الأمر أعانني بعض الإخوة ليكون خروجي إليها طبيعيّا(منتدبا من وزارة التربية والتعليم) للتدريس بها.. ولم يمض عام واحد حتى ساءت العلاقات بين النميري وبين ليبيا .. فطلب منّا طلبا أعتقد أنه كان طفوليا، ولا ينسجم مع أخلاقياتنا.. طلب من جميع المدرّسين في ليبيا قطع انتدابهم والعودة فورا إلى السودان، وكان الطلب مصحوبا بالتهديد من عرضة للمساءلة أو غير ذلك.. كان الأمر مضحكا .. فأنا ملتزم بتدريس طلاّب وفي أثناء العام الدراسي، حيث لا يعقل مطلقا أن أقطع تدريسي وأعود إلى السودان نتيجة موقفه السياسي.. رفضت العودة ، فكان نتيجة ذلك أن أصبح اسمي ضمن قائمة صدر عليها قرار جمهوري (ولا يسمح لذويهم اللحاق بهم) ثمّ هدّد بسحب الجنسيّة.. فلم أستجب.. حتى عندما قرّرت الارتباط بقرينة، تمت المراسيم بالسودان، ومنعت الزوجة من السفر للّحاق بي، مما اضطرها للسفر كطالبة إلى أثينا (حيث كان شقيقي يدرس هناك) ومن أثينا التحقت بي عام1977 .. وظلّت وفيّة معي صابرة على بعدها عن الأهل في السودان حتى سقوط نظام جعفر نميري في1985 ..
وكان موطني الأم ليبيا حقيقة حيث أصبح أهلها أهلي وشعبها شعبي وأصدقائي وأحبّتي وطلاّبي ..جزءا أساسيا في حياتي .. لم أشعر بغربة مطلقا ولم تتجسد بدواخلي الحدود والفواصل.. اللهم إلاّ حين يتعامل معك من بداخله هذه الحدود وتلك الفواصل.. عندها فقط أتذكّر أنّ مسقط رأسي السودان وأنني فعلا قادم منه.. والحمد لله لم أصادف مثل هؤلاء كثيرا، وإن كانوا موجودين.. لذلك أضحت ليبيا موطنا ومقرّا وبلدا لا أقول ثانيا.. فقد عشت بها من السنوات كما عشت في السودان، وإذا كانت أيام الطفولة وذكريات الصبا وتلقّي العلم والمعرفة في السودان ، فقد كان وجودي بالجماهيرية يشكل مرحلة العطاء والعمل الصادق الدؤوب ، بكل ما تعني كلمة الصدق من معنى، وما تحمل من دلالة.. سواء في مجال التعليم العام.. أو في مجال الإعلام.. أو في مجال التعليم العالي..

ما تأثير وسام الفاتح العظيم للإبداع من الدرجة الأولى الذي منحك إيّاه الأخ قائد الثورة في العام 1989 (العيد العشرين لثورة الفاتح العظيم) تقديرا لما بذلته بصدق وعطائك اللامحدود.. وإبداعك الذي لا يعترف بالتجزئة؟.
• حين تمّ منحي وسام الفاتح العظيم .. كنت في السودان محظورا عن السفر خارج السودان، رغم الدعوة التي قدّمت لي لحضور احتفالات العيد العشرين لثورة الفاتح العظيم .. كان ذلك بعد استلام العسكر مرة أخرى السلطة في السودان ببضعة أشهر.. تم في العيد العشرين لثورة الفاتح العظيم إعلاني ضمن المكرّمين في الوقت الذي عملت فيه بعد إغلاق مجلّتي (العقل الجماعي) والتي كنت رئيس تحريرها وصاحب امتيازها..عملت (سائق سيّارة أجرة) لمدة عامين استطعت أن أقرأ الشارع السوداني بعمق..
وعندما تمّ إبلاغي بأنّني مدعوّ بقاعة الصداقة بالخرطوم من قبل المكتب الشعبي لتوسيمي بوسام الفاتح العظيم.. ذهبت معتدّا وفخورا بهذا الاحتفاء، وهذا الوفاء والتقدير.. وأمام بعض من أعضاء مجلس قيادة الثورة الجديدة، وبعض الوزراء وحشد كبير من الضيوف تمّ توسيمي وكان رسول الأخ القائد (جمعة الفزّاني) الأمين السابق للمكتب الشعبي بالخرطوم حيث قام بتوسيمي بنفسه.. ألقيت وقتها قصيدتي (أمام عدالة الوطن) معلنا انحياز الحرف للجماهير، . حفر هذا التكريم في نفسي عميقا حين أدركت أنّ في هذه الأمّة من الأوفياء من يرعى المبدعين ويكرّم عشّاق الحرف.. كما أسعد هذا التكريم الكثير من جماهير الشعب السوداني معتزّين فخورين وخاصّة الأهل والأسرة الممتدّة والأصدقاء والأحباب الكثر.... لقد كان التكريم مصداقا لما أنادي به من دعوة للتوحّد ومحو لخارطة التجزئة والحدود المرسومة في دواخلنا..

ما مدى تغنّي الشاعر بالحب والحرّية والطبيعة ، وهيامه بالمناظر الجميلة .. المتحرّكة منها والثابتة؟
• ما من شاعر أو مبدع إلاّ وعشق الحريّة وأحبّ محبّة مطلقة للأرض وساكنيها.. فقد كانت مساحة التأمّل للطبيعة كبيرة وملهمة .. من ماء النيل .. وملتقى النيلين.. وشلالات النيل.. وأراض خصبة خضراء على مد البصر.. من بحر أحمر إلى جبال التاكا.. إلى بحر أبيض.. ومن صحراء تعانق الأفق.. وجبال تعانق السماء.. إلى بشر يملؤون الأرض حيويّة ويعمّرونها بفاعليّة.. وحين تختزن هذه الطبيعة تصبح زادا للشاعر يستدعيها متى شاء وأين كان.. ويعايشها بمشاعره وتشكل نسيج الجمال في وعيه الثقافي فيصبح أكثر خصوبة من الأرض.. ولكن الهجير الذي يلتقيه خلال مسار حياته لا مهرب له منه إلاّ باستدعاء غيمة تظلّله أو من يقوم مقامها.. أو أن يجد واحة يركن إليها أو من يقوم مقامها كذلك.. هذا إضافة إلى مخزون الذكريات من طفولة وصبا وشباب ومراحل تعليميّة ومرحلة عمليّة وتنقل وسفر إلى غير ذلك مما يشكل معرفة له ممتدة عبر الوجود..

• ما هي اهتماماتك ونظرتك للفن والجمال والحب .. المرأة ، الروح، المادة، عيوب الفن، الكتاب ، الإبداع ، الاغتراب..؟
• يحتاج الإنسان ليتحدّث طويلا حول هذه الموضوعات، وأحسب أنه لا يتسع المجال لذلك، ولكن بإيجاز آمل أن لا يكون مخلاً أقول: الفن لوحة مشرقة من الوجود وروح تتسلّل عبر مسام هذه الحياة لنحيا بها، إنه الواحة التي يحتمي بها الإنسان من قيظ الهاجرة، والغيمة التي تتبعه فتظلّله من هجير الحياة الحارق. إن الإنسان يبدع الفن ليحيا به.. أما الجمال فهو انعكاس الرحمة الإلهيّة نثرها في الكون، والحاسة الجمالية الكامنة في الإنسان يتلمس بها هذه الرحمة لتشكل له راحة نفسية يعيش بها ولها ومن أجلها.. .. أمّا الحب فهو انتصار الحياة على الموت.. الحركة علي السكون.
وهنا يستحضرني قول أحدهم:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى
فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا
والمرأة هي هذا الكائن الذي يعادل الغيمة .. والنسمة .. والبسمة.. أحبّها وأشفق عليها لما تعانيه في مجتمعاتنا، وأعطف عليها من ظلم وقع عليها دهورا، في ظل الصراع المستمر للبشريّة حول السلطة والقوامة.. ودائما ما تجدينني أحرّضها لتكون قويّة رغم رقّتها وشجاعة رغم أنوثتها، وحرّة رغم طغيان الرجل عليها وإنسانة قبل أن تكون أنثى..

شكرا لك على هذه المساحة التي سمحت لنا فيها أن نتجوّل عبر فضاءاتك الداخليّة ، وأرائك ومساحاتك الحياتيّة التي يعدّ الحرف الصادر عنك أحد نتاجاتها .. لك التحيّة في الختام..


.

إقرأ المزيد Entry>>