الجمعة، 27 نوفمبر 2009

قراءة في بحر العقل
دراسة فكريّة لنص الشاعر
عبدالرؤوف بابكر السيّد(نصوغ حياتنا وكما نريد)
مصباح الغنّاي سالم – جامعة سبها – ليبيا


مقدّمة وإشارة:
يوجد مفهوم يتفق عليه البعض، وهو أنّ فهم الحقيقة يعني المستحيل، بمعنى أنّ الحقيقة شيء مختلف عن الواقع. ويقول الفيلسوف نيتشة في هذا المجال:"الحقيقة خفاء" . ولكن إذا كانت الحقيقة خفاء، وفهمها استحال على البشر، كيف الطريق إليها، ومن هذا المنطلق جاءت هذه القراءة لفهم نصّ أدبيّ في مفرداته، فكريّ في معانيه الكامنة، وهذه الدراسة دراسة فكريّة فحسب، وحتى لا يقال أننا دخلنا من النافذة فعنوان النص لا ينتقد أحدا، ولا حتى يتطاول على بحور الشعر العربيّة المعروفة، بل نجد العنوان من أجل وضع بعض النقاط على بعض الحروف، وبذلك فهو "أي النص" يؤمن باللغة عاملا مهمّا لخلق الإبداع، ومن هنا جاءت دراسة الجانب الفكري دون الجانب الأدبي واللغوي، وعبر هذا الكم يكون الكيف عنوانا محدّدا ألا وهو "قراءة في بحر العقل". وهو بالتأكيد ليس بحرا جديدا، بل الدخول فيه بطريقة قراءة آليات النص، وذلك عبر مستويات خمسة هي:


.
(1) المستوى الإشكالي.. (2) المستوى الدلالي.. (3) المستوى التأويلي..(4) المستوى التناصّى.. (5) المستوى النقدي..
وعبر كل مستوى نسعى لتوضيح مقصديّة النص بمعنى غاية النص، ولعلّ فهم مقصديّة الكاتب"عبدالرؤوف بابكر السيّد" هي الأهم.
فالمستوى الأوّل يدرس الأسئلة المطروحة، وهي تمثّل أسئلة الأفكار.أمّا المستوى الثاني فيمثّل المفاهيم المطروحة، وبالنسبة للمستوى الثالث فهو توضيح معاني النص الحقيقيّة، والمستوى الرابع هو النظر لثقافة النص عبر نظريّة التعالق، أمّا الخامس والأخير فهو كشف النص وفقا لنظريّة النقد..
وكما يقول المفكّر بول ريكور عن "النص وصاحب النص":(إنّ النص ملك للقارئ بمجرّد وصول عينه إليه). إنها المنهجيّة العقلانيّة التي تدرس عقل النص
أوّلا: المستوى الإشكالي:
الذات حرف لا يغيب، رغم النوازل والخطوب؟
هم يملكون دون غيرهم الحرف والعقل الكبير؟
هم يملكون الحقّ في التفسير والتأويل؟
هاجرت عن دارنا كلّ الكفاءات الصفات؟
هم ضيّعوا باسم السلام ديارنا؟
هم شوّهوا باسم السياسة ذاتنا؟
تلد النساء الموت! فأين هي الحياة؟
من يرتدى الخوف جلبابا؟
من يحتمل جلاّده؟
يا ترانا قد نصبنا لهذا العجز مشجبا؟
يا وطني قل لماذا؟
والأسئلة الآنفة الذكر تسبقها بعض الأدوات اللغويّة المنتشرة في النص مثل: كيف؟ ولماذا؟ وأين؟.. وإذا أردنا معرفة خفايا هذه الأسئلة علينا فهم المصطلحات الرئيسية للنص.
ويطرح صاحب النص أسئلة كبيرة وكأنه يؤسّس لنظريّة جديدة في عالم الفكر من خلال ما يلي:
لماذا التاريخ أعمى؟
كيف أضحى الفكر بلا حجب؟
فكيف لنا أن نقرأ أبعاد التكوين؟
لماذا أضحى الفكر للجموع بلا حجب؟
كيف لم يتّسع هذا الكون للحب؟
لماذا الخلق والإبداع لا يأتي؟
كيف أضحى القلب مشنقة الحروف؟
وللإجابة عن هذه الأسئلة نختتم كما أقفل صاحب النص نصّه وذلك بإجابة.. إذن الإجابة بإجابة وليس السؤال بسؤال" ولكناّ نصوغ حياتنا وكما نريد" – نحن نريد حياة كريمة..
وهنا نلاحظ جملة من المفارقات العجيبة تدلّ على أهميّة السؤال، وهذا ممّا يجعل النص أكثر ثراء بالمواقف الفكريّة، وأهم هذه المفارقات:
1- ياترى أيّ ربّ صادر الحرف من الإنسان والفنّان والمطرب!
2- ربّنا الله وتلك الآلهة من صخور تنتصب !
3- حين أضحى القلب مشنقة الحروف!
4- تلد النساء الموت !
5- الله لو يرضى لنا هذا التخلّف والتناحر والخصام لثبّت العينين خلف الرأس، لكنه يعني التقدّم للأمام.
6- العشق أضحى المشنقة!
هذه المفارقات تعدّ نصّا بحدّ ذاتها، ولكن لأنّ النصّ كلّه أسئلة ومفارقات، وضعنا هذه الأخيرة ضمن الإشكاليّات، أمّا الشرح الخاصّ بها فسيكون ضمن المستوى التأويلي.

ثانيا: المستوى الدلائلي:
(1) الذات: الذات في اللغة "ذا" اسم إشارة يدلّ على القريب، ويستخدم أهل النيل"السودان – مصر" هذا الاصطلاح أكثر من غيرهم. أمّا "ت" فهي حرف النفس أو على هو هو تماما مثل قولنا:"هو ذاته" والهاء عائدة على "ذات". والذات في اللغة هي النفس، وهي الشيء نفسه، وهي الشخصيّة، وهي اسم الذات، وتأتي الهويّة في مواجهة الآخر، والآخر هنا هو بقيّة الثقافات، ويقابله اسم المعنى، وللذات أسماء عدّة:
- ذات الصدر/ الفكر
- ذات الصدر/ سريرة الإنسان "نفسه"
- ذات الجنب / إلتهاب في غلاف الرئة
- ذات اليد / ما تملكه
- ذات الشفة / الكلمة
والذات في المصطلح تعني كما يقول صاحب التعريفات:"الذات يطلق على الجسم وغيره
والشخص لا يطلق إلاّ على الجسم" ومعنى ذلك أنّ الذات في اللغة هي ما في المصطلح
فلا فرق بينهما في المعنى. وللذات معان منها:
1- الذات ما يقوم بنفسه.
2- الذات الموضوع ويقابله المحمول.
3- الذات هي الماهيّة.
4- الذات في المنطق مجموعة من المقوّمات تحدّد مفهوم الشيء
5- هناك نوعان من الذوات هما الفرديّة مثل محمد، وعلي، وتدرك من خلال الحس، أما الأخرى فهي النوعيّة مثل الإنسان والجبال وهي تدرك بالعقل.
(2) الحرف: والحرف في المصطلح يعني الكلمة وكذلك اللهجة، وفي لغة الضاد يعني ما هو ليس بفعل أو اسم، يكون الحرف مثل الكاف"ك" الواو"و" و"من" الخ..
(3) الحبّ: يحبّ :حُبّا وحَبّا (أ) ودّه (ب) رغب فيه (ج) أراده.. الحبّ نقيض البغض، وهو الوداد والمحبّة، والميل إلى الشيء السار، والغرض منه إرضاء الحاجات الماديّة أو الروحيّة، وهو مترتّب على تخيّل كمال في الشيء السار أو النافع يفضي انجذاب الإرادة إليه، كمحبّة العاشق لمعشوقه والوالد لولده، والصديق لصديقه. وللحبّ درجات مختلفة أولاها الموافقة وأقصاها العشق. وإذا دلّ الحبّ على معنى مضاد للأنانيّة، كان الغرض منه: إمّا جلب المنفعة للغير كمحبّة الكريم للبائس، الأستاذ للتلميذ.. وإمّ إنكار الذات والتجرّد من المنفعة والانجذاب للقيم المثاليّة، كمحبّة العالم للحقيقة، والشاعر للجمال، والحكيم للعدل،وبذلك فالحبّ في الفلسفة المعاصرة إمّا حب الذات للذات ، أو حب عزّة النفس. فالأوّل يعنى الأنانيّة، والثاني يعني الأنفة والكرامة.
(4) الحريّة: الحرّ، أحرار وحرار: (أ) من يملك حقّ التصرّف بحريّة (ب)الطليق. (ج)من الناس خيرهم، (د) من الشيء الخالص الصافي...الخ.. والحريّة في الاصطلاح هي حالة أو وضع شخص ليس واقعا تحت هيمنة آخر، وهي نقيض العبوديّة. والحريّة وردت في النص بعبارات متنوّعة، منها: أحرارا، وفي ألفاظ مستترة أيضا..
(5) الحقّ: حق : (أ) الصواب (ب) العدل. (ج) اليقين (د) الجدير. (هـ)المال (و) الموت (ز) الثابت الذي لا شكّ فيه. والحقّ ماهو مطالب أو ما هو مباح في جماعة اجتماعيّة، أو ما هو متطابق مع قاعدة أخلاقيّة واجتماعيّة. وللحق أشكال ثلاثة: (1) هو مطابقة القول للواقع (2)هو الموجود حقيقة لا توهما (3) هو التصوّر السالم من التناقض"الممكن في العقل". ويعرّف صاحب التعريفات الحقّ: الحقّ في اصطلاح أهل المعاني"هو الحكم المطابق للواقع، يطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك، ويقابله الباطل. وأمّا الصدق فعدّ في الأقوال خاصّة، ويقابله الكذب، وقد يفرّق بينهما بأنّ المطابقة تعتبر في الحق من جانب الواقع، وفي الصدق من جانب الحكم. فمعنى صدق الحكم مطابقته للواقع،ومعنى حقيّته مطابقة الواقع إيّاه"
(6) الطريق: هو المسلك : (أ) المطروق. (ب) السبيل الواسع يمرّ عليه الناس (ج)مسلك الفرقة من المتصوّفة. والطريق في المصطلح هو الدرب أو السبيل المعروف بالاتساع الذي يمرّ عليه الناس، ولعلّ الكاتب يعني بذكره ضرورة أن يكون الطريق مفتوحا للجميع وواضحا لهم.
(7) الخَلَقَ : يخلق خلقا وخلقه: (أ) الشيء أبدعه على غير مثال سابق (ب) الكذب افتراه واخترعه، في الاصطلاح خلق الله العالم صنعه وأبدعه، ويقال خلق فلان الشيء أبدعه، والخلق هو الإيجاد، والإنسان سيّد الخليقة. وجملة القول أنّ الخلق معنيان:(1) هو إحداث شيء جديد من مواد موجودة سابقا كخلق الأثر الفنّي. (2)الثاني هو الخلق المطلق وهو صفة لله تعالى.
(8) العقل: مصدره عقْل وهو ما يعقِلُ الإنسان عن الخطأ، والعقل جاء القيد أو العقال الذي تربط به الإبل. والعقل هو جوهر مجرّد من المادّة بسيط يدرك حقائق الأشياء الكليّة النظريّة.. وللعقل في فلسفة الإشراقيّين أهميّة بالغة، العقل الفعّال آخر العقول المفارقة، وهو الذي يتصل بعالمنا، ويقوم بعمليّة الفيض أو الخلق، والعقول المفارقة: عقول إلهيّة تفيض من الله. ويقال العقليّ المنسوب للعقل، والعقليّة تعني القائلين بمذهب العقل وحده، وتعني أيضا طريقة تفكير الإنسان، والعقل صفة إنسانيّة يقصد به القيد في الفعل والقول والعمل. والعقل بوجه عام: ما يميّز به الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والعقل السليم الذي قال به ديكارت في مقالة الطريقة، ويقصد بالعقل السليم الاستعداد الفطري لإصابة الحكم، والتمييز بين الحق والباطل، وذهب أرسطو إلى أنّ هناك (1) عقل بالفعل، وهذا فاعل.. (2) عقل بالقوّة، وهذا منفعل، ولا يستغني أحدهما عن الآخر.
(9) سطر: الكتابة – الخط – الكلمات في الكتاب، والسطر مفرد والجمع سطور، أمّا جمع الجمع فهو أساطير، ومنه جاءت الأسطورة، وتحديدا من السُّطُر بمعنى الأقاويل"القول" المنمّقة المزخرفة.
(10) الظلم: صفة شخص أو شيء ظالم، كما يعني كل ما هو ظالم: كراهية حقد.. والظلم يمكن أن يكون قرارا أو حكما أو إجراء مناقضا للعدالة. أما الظالم فهو ما ليس عادلا، ومن يعمل ضد العدالة خاصّة بوعي وإرادة، وبهذا فهو مناقض للعدالة.
(11) الضياع: هو الغربة والاغتراب، ويعرّفه هيغل: بأن يضيّع الإنسان شخصيّته الأولى، ويعرّفه ماركس: بأن يفقد الإنسان حريته وذاته بتأثير اقتصادي ودينيّ واجتماعي. والغربة مرادفة للغيبة، غاب الشيء في الشيء، وهي كذلك مرادفة للاستلاب، غربة النفس استلاب حريّتها.

ثالثا: المستوى التأويلي: يحدّثنا الفيلسوف كارناب وهو كاتب ومفكر معروف، وخصوصا في الدراسات اللغويّة والمنطقيّة قائلا: "الميتافيزيقيا أقرب ما تكون إلى الشعر والأساطير، وإن كان الفارق بين الميتافيزيقي والشاعر أنّ الأوّل منهما لا يريد أن يعترف بأنّ أقواله وليدة الانفعال والعاطفة في حين أنّ الثاني منهما يسلّم بأنّ شعره أداة فنيّة يعبّر بواسطتها عن شعوره بالحياة". "ومعلّم الشعر هو معلّم الحكمة". كما في الأقوال المأثورة في الثقافة الزنجيّة الأفريقيّة.ويقول أحدهم"الشاعر فيلسوف يتخذ البلاغة والفيلسوف شاعر ينشد المنطق والمثل العليا". ولعلّ ولع الشعراء بالجغرافيا والتاريخ والفلسفة وحتى السياسة وعلوم أخرى تجعل قيمة الشعر عظيمة.. وهذا النص لا يخرج عن المألوف من حيث أنه قطعة موسيقيّة أو لوحة تتناغم فيها المعاني والكلمات القويّة والتي تحرّك العقل بشكل يجعل من القارئ يحسّ بها وكأنها مقالة خفيفة الظل، لذلك نفهم أنّ الدلالة المركزيّة هي تأريخ واقعة "حدث" في تاريخ الإنسانيّة، بالإضافة إلى ذلك فالنصّ يحمل وعدا بالتحرّك صوب الأمل وليس الحلم، ونلخص هذا في ثلاثة تقاسيم لهذا النص وهي:
1- المعنى العام للنص"الإنساني"
2- المعنى النفسي للنص"الخلقي".
3- المعنى السياسي للنص"الاجتماعي"
فإذا كانت المسيحيّة تعترف بأنّ الأقانيم الثلاثة هي العلم والإرادة والقدرة فإن هذا النص يحمل هذه التقاسيم الثلاثة.
1- المعنى الإنساني"المعنى العام للنص":
يدرس النص ويحدّد جملة من الموضوعات، وتحمل بدورها عدّة إشكاليات هامّة في عالمنا اليوم وأهمّها: الديمقراطيّة- الحريّة- المعرفة – القوميّة – الهويّة – العولمة – بل الوجود. ولعلّ هذا النص يمثّل كراسة أكاديميّة لمادّة الفلسفة المعاصرة، ولكن وفق واقع ما هو كائن وما يجب أن يكون، وليس فقط ما يجب أن يكون. إنّ المعنى العام وخلاصة هذا المعنى تكمن في أنّ مقصديّة النص تتبع ثقافة صاحبه، ومن هنا نفهم أنّ القصد فيه بالطبع تفريغ شحنة كبيرة من الهزائم، ولا نعني هنا بالطبع التدمير النفسي، بل نقصد سرد صاحب النص لجملة من الخطوب والمشكلات، وقفت حجر عثرة في طريق حضارة الأمّة، ومع ذلك فالكاتب يعرض مجموعة من الشواهد على الرفض القاطع للظلم ، مؤكدا عزيمة الثورة وإرادة الشجعان بأنّ الظلم لابدّ له أن يذهب بعيدا والحق ظاهر لا ريب ، وبذلك نلاحظ العزيمة والتدمير وكليهما عاملين نفسيّين، وكذلك التأثير والتأثّر، وكلاهما عاملان اجتماعيّن، وبهذا نفهم أنّ المعنى العام للنص جاء يناقش الآتي: (أ) الزمان وأثره علينا (ب) المكان وأثره علينا. (ج) العلاقة بين الزمان والمكان وأثر هذه العلاقة علينا. ونختصر هذه المفاهيم بأنّ الزمان جسم هو مكان الأمّة، والمكان يحمل قلبا هو زمان الانحطاط، والعلاقة بينهما ، وآثارها على واقعنا هي علاقة وطيدة، فالزمان كما قال صاحب النص:
يا وطني قل لماذا؟
أيّ هذا المدّ والمدد..
أيّ هذا الحدّ والعدد..
أيّ هذا الجدّ والجلد..
فكلمة" أيّ هذا" دلالة عامّة تشير للزمان، والمكان فيها واو العطف "الحدّ و العدد".. والمكان يوجد بغزارة داخل النص والزمان كذلك لأنه لاانفصال بين الزمان والمكان ودليل ذلك:
تولد في القصيدة
كراسة الطفل الحزين
بها الألوان خارطة الخصام
بها الأيام والأرقام دائرة بلا إشراق
بها التاريخ أعمى..
وهذا كلّه يقودنا نحو مفهوم واحد الانسجام وارتباط الزمان والمكان في النص موضوع الدراسة، ولعلّ عمق بعض الكلمات هو مقصديّة الكاتب، وهنا نفهم بأنّ النص والمعنى العام له يدور في توافق تام بين أزمنة وأمكنة الإبداع، وهذا واضح من خلال الكلمات العقلانيّة، ويبرز النص أهميّة العلاقة الحميميّة للكاتب مع العقل ومعلوم مدى ارتباط العقل"الإنسان" بالظاهرة "الزمكانيّة".
2- المعنى النفسي "الخلقي": وهذه الدلالة تعرف بالدلالة الاكسولوجيا والتي تعتبر من أهمّ سمات وشروط المنهج العلمي وكذلك العمل الإبداعي المتكامل. ونلاحظ هنا أنّ الكاتب يتحدّث في بداية النص عن الذات وكيفيّة الحب الممتد من كتب التراث والعرق واللغة، وكذلك معاناة الإنسان على يد أخيه الإنسان، وتسلّط صاحب القرار والحكم على المقرور فيه، المحكوم، كما يتحدّث الكاتب عن الظلم الذي يعبث بالقيم، والسلوكيّات والتي هي مصدر الإلهام والتقدّم. وخلاصة القول: إنّ صاحب النص وقع في جملة قضايا تتداخل وتتعالق، فمن الذات الخاصّة به إلى ذات الأمّة إلى ذات الإنسانيّة ضد الآخر.. في مراحله الثلاثة، ومن وصفه التاريخ بفقدان البصر وحتى في قوله: خلق الإله الخلق أحرارا.. وسوف نعالج هذه القضايا وفقا للآتي: (أ)مرحلة العرض (ب) مرحلة الانفعال (ج) مرحلة القدرة... فالذات، عرض.. صقيع الليل ،عرض.. لغة العرب.، عرض وغيرها الكثير.. أما ما نقصد به مرحلة الانفعال فمثل تكرار الجمل: سطر يقرأ، سطر يمحى، سطر ينسى.. سطر يكتب للتدجيل .. وكذلك دلالة الدال في قول صاحب النص: (ياوطنى قل لماذا؟، أيّ هذا المدّ والمدد؟، أيّ هذا الحدّ والمدد؟ أي هذا الجدّ والجلد؟.. أمّا ما نقصد به مرحلة القدرة فهي الشعور الكامل داخل سطور النص بأنه يمثل إيمان الكاتب بأفكار العقل الذي هو أساسا مركز الشعور، ومثال ذلك قوله(فرسمت صمتي في الصخور) وكذلك (نحن الإله له عبيد)(ربنا الله، وتلك الآلهة من صخور الأرض) (نصوغ حياتنا وكما نريد).. ونختم هذا السفر بالقول والتأكيد بأنّ المعنى النفسي الأساسي هو الإيمان بالثورة داخل الإنسان، ثورة الأنا ضد الآخر، وثورة المعرفة ضد الجهل، وثورة الفكر ضد الفكرة الواحدة، وثورة العقل ضد التغييب.
والكاتب كما يقال : ثقافة وبراعة وأخر، والأخر يضم النفس ، والنفس تضمّ الثقافة وتحتل الجانب الأوفر في البراعة.
3- المعنى السياسي"الاجتماعي" وندرس هذا المعنى وفقا لبنيات ثلاثة هي: (1)الوجود (2) التفكير (3)نسبيّة أو مطلق الاختيار.
الوجود: يعبر صاحب النص عن ذاته ثمّ ذاته ثم ذاته وذلك وفقا للتكرار الآتي
- الذات حرف لا يغيب - قالوا لنا - والذات حرف لا يغيب
- بالنسبة للجملة الأولى تعبّر عن ذات شخص غالبا، وذلك بدلالة عجز البيت" عشقي الممتد من بكر وتغلب، لم يغب
- أما الجملة الثانية فتعبر عن الذات الثانية وهي الذات الانسانية جمعاء وذلك من خلال قوله(إن الجنان لمن يلوذ بصمته، من يحتمل جلاّده)
- والجملة الثالثة بها ذات الهويّة القومية من خلال قول صاحب النص"نحن الإله له عبيد ، لكننا في هذه الدنيا نصوغ حياتنا وكما نريد"
وتتقاطع هذه الذوات الثلاثة لتشكّل فضاء النص السياسي والاجتماعي، فالأنا هي الذات الأولى، والذات هي الهويّة وهي الإنسانيّة
أما التفكير فيأتي مرحلة بعد مرحلة الوجود ويعدّ ظاهرة وسمة إنسانيّة خالصة، ولذلك فإنّ المجتمعات الإنسانيّة تدير نفسها بواسطة التفكير والذي هو سمة من سمات العقل، وللتفكير ثلاثة أنواع:
- التفكير الفطري "موجود لدى الحيوانات"
- التفكير الغير سليم"التعصّب للرأي الخاص – سوء التقدير"
- التفكير السليم" سلامة التخمين والحياديّة في الرأي"
ويركّز صاحب النص على التفكير السليم وغير السليم، ويهمل التفكير الفطري بقوله(الله لو يرضىلنا ، مثل القطيع يهشّه الراعي ويحصره الطريق، ما خاطب العقل في آياته حتى نفيق) وبذلك نفهم أن الكاتب يحترم التفكير السليم فحسب ويعترف بالتفكير غير السليم ويهمل التفكير الفطري.. ومن احترام التفكير السليم قوله( نصوغ حياتنا وكما نريد) ونريد هنا تعنى الشورى والتي هي الحل الأمثل لتنظيم الحياة.

نسبيّة أو مطلق الاختيار:
النص وصاحب النص لا يفرض نمطا معيّنا للنهج الاجتماعي والتنظيم السياسي، بل الواضح أنّ هذا النص جملة من النظريّات والأفكار والتي بالطبع هي محل إيمان صاحب النص. والجميل في النص أنّ الكاتب لا يدّعي أنه يملك عصا موسى ليغيّر بها معالم الحياة ولكنه يقدّم اعترافا قويّا بعدم جدوى المطلق، وأنّ الأمور والقضايا التي تكون نسبيّة هي الأقرب للعقل، وكذا الصواب.
ونقرأ قول الشاعر: (كلّ البراءة لم تجب عن لماذا لم يتسع للحبّ هذا الكون)
ومعنى ذلك أنّ كل البراءة لم تقدّم إجابة كافية ووافية لمعضلة(لماذا؟) ولماذا في النص تعني= الظلم، الجبروت، ومرادفات هذه المصطلحات وأحيانا تعني المظلوم والخائف والمغضوب عليه .. إلخ..
كما يقدّم الكاتب اعترافا آخر بقوله: (لم يتسع للحبّ هذا الكون) فهل من الممكن أن يكون الحبّ شعار الناس جميعا؟ بالطبع لا . ولماذا؟ لأنّ الأهواء والأذواق تختلف تماما.
وصاحب النص مؤمن بالنسبيّة كما في (فرسمت صمتي في الصخور وكتبت فيها، الخ) فرغم الصمت المرسوم في الصخر والكتابة والقراءة إلا أنّ الكاتب يعترف بأنّ كل ذلك يعتبر لا شيء، أو بأكثر من أنّ قراءة أبعاد الكون، وسفر الوجود الأوّل مقارنة بثقافة صاحب النص التي لا تعني شيئا أمام أبعاد التكوين، ولعلّ ثقافة صاحب النص الفلسفيّة تحديدا تؤكّد على جودة هذا المسلك العقلاني الذي يؤكد في جلّ أبيات القصيدة على أهميّة احترام الذات للآخر وهو ما يعرف باحترام مشاعر الآخرين، وهو ما يعرف بالعقلنة، ومنها عقلنة الاقتصاد والتي تعني إضافة الطابع الإنساني"الظروف" إلى آليّات البورصة والتبادل.
كما يعترف الكاتب بأهميّة وأصالة العقل لخدمة الإنسان، وبذلك نفهم أنّ التأويل مسألة صعبة بل ومفاجئة في النص المدروس.
4- رابعا: المستوى التناصّي:
عندما نقرأ النص لغاية التحليل ، لابدّ لنا أن نستنتج مواضع وسطور التعالق والتقاطع والالتقاء مع الآخر، فيما يعرف بظاهرة التناص. تقول الباحثة الفرنسيّة جوليا كرستيفا في هذا المجال" إن النص الجيّد ما هو إلاّ مجموعة نصوص وجدت قبله" بمعنى أن النص مجموعة قراءات سابقة، ونقول في هذا المجال بأنّ هناك تقاطعا مع نصوص لم تكن في ثقافة صاحب النص وهو ما يعرف بالالتقاء الفكري، ونفهم حسب معرفتنا بأنّ التناص عنوان جديد لنص أو نصوص بإصرار، وحسب منهجيّة هذه القراءة فإننا ندرك بأن (الشعر + النثر= فن الكلام) وهذا الفن يعتبر الأوسع بين الفنون.. نحن هنا ندرس فقط ظاهرة تعالق (=تناص) النص الشعري(= موضوع القراءة) مع النثر، والنثر يضمّ تحت لوائه الكتابة الفكريّة، نلاحظ بأنّ الكاتب وقع في تناص مع رواد في الكتابة الفكريّة نتناول بعضا من مواضع التناص معهم.. حيث يدخل النص كاتبا في تناص واضح مع أفكار القوميين العرب، وجلّ روّاد وكتّاب الفكر الاشتراكي المعاصر، كما يدخل كذلك مع مفكرين معروفين على المستوى الإنساني، ونختار هنا (الله لو يرضى لنا هذا التخلّف والتناحر والخصام، لثبّت العينين خلف الرأس، لكنه يعني التقدّم للأمام)
1- ونقرأ نصّا للمفكر العربي حسن صعب في كتابه تحديث العقل العربي، يقول صعب :"إنّ لكل مسلم حقّ الاجتهاد، بل إن على كل مسلم واجب الاجتهاد، ويعني هذل أنّ على كلّ مسلم أن يرتفع بالمعرفة والعمل الصالح للمستوى الذي يؤهله لأن يبلغ مرتبة الاجتهاد وقد جاء عن الرسول(ص) :"طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة" ويواصل قائلا: " فالاجتهاد هو طريق التشريع في الإسلام، وبذلك نعود بالتشريع إلى أصله الذي أراده الرسول حين أعلن قبل وفاته أنه لانبيّ ولا وحي بعده. فترك الاجتهاد في كتاب الله بعده للإنسان." ويذهب ابن حزم الأندلسي مذهب صاحب النص، بقوله:" والعامي والعالم في ذلك سواء وعلى كل خطه الذي يقدر عليه من الاجتهاد" وهذا يتقاطع مع قول الشاعر(هم وحدهم من يملكون الحرف والعقل الكبير) ثمّ يقول( والحقّ في التفسير والتأويل).
2- يقول ميشيل فوكو:" إن التصوّر الذي يجعل من الملك أو الحاكم راعيا يرعي الغنم ليس من التصورات الشائعة في الفكر اليوناني والروماني، ومع أنه يوجد بعض النصوص المنسوبة لهوميروس، ولكن الحقيقة تؤكد على أنّ هذه النصوص غائبة تماما من الفكر السياسي اليوناني والروماني" ويقارن في هذا الإطار محمد عابد الجابري الفرق بين "السلطة الرعويّة" في الشرق القديم والفكر السياسي عند اليونان، وتتداخل النتائج وتتعالق الآراء بين النص موضوع الدراسة ونص للجابري.
3- في نقده للعقل العربي يقول الجابري:" ومن هنا اعتماد الاعتقاد على الرمز والتشبيه والمماثلة وليس على المبادئ والاستدلال والمحاكمة العقليّة، والأيديولوجيات كالعقائد، تعتمد"البيان" وقلّما تعتمد البرهان". ونلاحظ أن نصّا فوكو والجابري يتقاطعا مع قول صاحب النص( الله لو يرضى لنا مثل القطيع يهشّه الراعي ويحصره الطريق ، ما خاطب العقل في آياته حتى نفيق) ويقول الجابري أيضا في مهام تجديد الفكر العربي: تحوي العقيدة إلى رأي: فبدلا من التفكير المذهبي المتعصّب الذي يدّعي امتلاك الحقيقة يجب فسح المجال لحريّة التفكير، لحريّة المغايرة والاختلاف، وبالتالي التحرّر من سلطة الجماعة المقفلة. أليس ذلك قريب كل القرب من قول صاحب النص:
(هم وحدهم من يملكون الحرف والعقل الكبير
دار الإذاعة والصحف
وخزائن المولى وجنّته
والحقّ في التأويل والتفسير..)
وبذلك نفهم أنّ مستوى التعالق في النص موضوع الدراسة ثري ، ويرجع ذلك ذلك بسبب عاملين حاسمين هما:
(1)ثقافة صاحب النص الواسعة وحصيلته من القراءات.
(2) الالتقاء الفكري وهو يدخل ضمن الاتفاق مع الآخر بما يمثّل الفطرة الإنسانيّة، وكما تقول القاعدة: "نتّفق ولكننا لانعرف بعضنا بعضا"
ولعلّ قول صاحب النص: (لكنّنا في هذه الدنيا ، نصوغ حياتنا وكما نريد) يتقاطع مع الإعلان الأممي حول "العلم والتنمية" " إنّ الموارد الإنسانيّة التي لم يثمر أكثرها بعد هي أمل الإنسان الحقيقي في المستقبل" ويواصل الإعلان قائلا: "إن للإنسانيّة جمعاء الحق حياة أفضل، وذلك بالاعتماد على العمل الإنساني لخلق واقع أفضل ومن أجل حياة كريمة".
ولعلّنا من خلال هذه الخلاصة وضّحنا مفهومنا للتناص.

- خامسا: المستوى النقدي:
كيف لنا أن نطلق تسمية هذا المستوى بالنقدي دون بقيّة مستويات القراءة! فالقراءة أساسا دراسة نقديّة، وعبر سطور النص نقرأ ونفهم ونلاحظ بأن الكاتب ذو ثقافة تاريخيّة بالدرجة الثانية ، بينما في الدرجة الأولى هو مهتمّ بالأدب والفكر والفلسفة معا، ولعلّ بعض القياسات المنطقيّة تؤكد صحّة ما نزعم: فمثلا:
" حاصروا كلّ القبل، كلّ الأمل،
وكلّ موقع فينا اكتمل
وكلّ عشق أوغزل،
وكلّ صدق في عمل
وكلّ حرف يشتعل..
فرسمت صمتي في الصخور.."
ومعنى ذلك بأنّ الحصار قاد الفعل والعمل والكلام إلى الصمت بل الموت، وجملة القول بأنّ الكاتب(صاحب النص) الشاعر ذو ثقافة فلسفيّة جيّدة، بل ويملك فلسفة رفيعة واتضح ذلك من خلال استلهام التراث وخصوصا في قوله:
" وفات وفات، لنعيش الأيّام شتات
وفات وفات، لاتحمل غير الكلمات،
والبيت فيه حمامات
وصقور غرست نزعات،
والجبّة وقعت في البير
والبئر ابتلع شعارات".
وهذ استلهام وتوظيف لأغنية أطفال تقول:" والثعلب فات وفات" فاستغنى الكاتب عن لفظة الثعلب، وهنا يبرز سؤال في أفق النص: من هو الثعلب، والمعنى في هذه المرّة في عقل الشاعر، ولا يمكن التأويل أو حتى الادعاء، لأنه بالمعنى الفكري، وفيما يخص الأبستمولوجيا المعاصرة فهناك قطيعة، وهذه القطيعة غير مبنيّة على ما هو قبل هذه السطور بل الظاهرة الإبداعيّة والقابليّة الفذّة للنص هي المعنى الحقيقي، ولا يمكن فهم النص بغير ذلك إطلاقا. والواضح أننا هنا أمام نص جديد يدشّن لمفهوم جديد، ولذلك فالقطيعة أمر محسوم، ولا ندري ما هو مفهوم القطيعة بالنسبة للمتلقّي إلاّ أنه كما يقول باشلار: "إنّ الزمان كفيل بتوضيح القطيعة" ونحوّل هذا القول إلى: أنّ النص كفيل بتوضيح ذاته لأنه نص فنّي. كما يحتوي على الجانب الفكري"= موضوع الدراسة" وكذلك الجانب الأدبي" ونأمل أن نرى نقّاد العربيّة وأحبّة لغة الضاد يقبلون على دراسة هذا النمط الفريد في ثقافتنا التي تعتمد البلاغة دون المنطق، ولا نقصد المنطق الفلسفي هنا، بل منطق التأمّل والعقل والحياد ، ومن هنا نؤكد مجدّدا على جودة النص، وندعو مجددا المثقفين لقراءة هذا النص قراءة عقل.. لماذا هذه الدعوة؟ لأنّ النصّ في رأينا نصّا جديدا رغم الموضوعات التي تعتبر موضوعات مطروحة من قبل ، فقد جاء في حلّة ولغة محدّدة وخالية من الأهواء، تحمل روح الفكر الإنساني وكذلك ضميره "= العقل"، ولذلك فالدعوة مفتوحة للجميع لوضع وجهات نظرهم حول نصّ فذّ "= نصوغ حياتنا وكما نريد"
وعلى الرغم من جودة هذا النص إلا أن هناك بعض المآخذ عليه بالنسبة لنا أهمّها (1)الرمزيّة في لغة النص (2) طرح فلسفات يناقض بعضها الآخر (3) الشتات الفكري للنص
أولا: الرمزيّة في لغة النص: يستخدم الكاتب بعض العبارات والرموز وهي في نظرنا تعبّر عن نفسيّة محدّدة أوجزء من نفسيّة الكاتب"= المؤلف" وهنا يعجز المتلقي عن فهم واستيعاب النص ، على سبيل المثال قوله:
"تولد في القصيدة، كراسة الطفل الحزين
بها الألوان خارطة الخصام، بها الأيام والأرقام.. " إلى قول صاحب النص : كلّ البراءة لم تجب عن لماذا.. ونأخذ مثالا آخر، قول الكاتب: " فات وفات... ليعيش الأيام شتات.. فات وفات .. لا يحمل غير الكلمات، والبيت فيه حمامات" إلى قول الكاتب " والبئر ابتلع شعارات.
ومن خلال المثالين السابقين، نقرأ ونفهم بأنّ هذه الكلمات موجهة لنخبة معيّنة وهنا يقع النص وليس الكاتب في تناقض حيث يقول: " والفكر أضحى للجموع بلا حجب".
صحيح أنّ الفكر تفهمه القلّة، ولكن استخدام الكاتب لكلمة"=حرف" نحن وضمير"نا"الجماعة، تجعلنا نصف الكاتب من ضمن كتاب ومثقفي الجموع، ولذلك فإنّ هذا النص لو كتب بلغة خالية من الرمز لكان أوضح للمتلقّي، ولكن لصاحب النص عذره في ذلك لأنّ الرمز سمة الإبداع والأدب والفكر يعتمد الرمز بدلا من العرض المباشر ذي طابع الرتابة، إلا أنّ فك الرمز لا يفهمه إلا القلّة"صفوة المثقّفين" وفي اعتقادنا أنّ هذا النص ملك للجميع وذلك لقول صاحبه في خاتمته: (لكننا في هذه الدنيا، نصوغ حياتنا وكما نريد).
2- ثانيا: طرح فلسفات يناقض بعضها البعض الآخر: يحمل النص مباحث الفلسفة الثلاثة وهي(1) الأنطولوجيا "الوجود" (2) الأبستمولوجيا "المعرفة" (3) الأكسولوجيا "القيم – الأخلاق". ومن هنا جاءت أفكار صاحب النص متفقة مع أفكار فلسفيّة شتى، ولذلك نجد أنّ النص إبداعا أدبيّا بالدرجة الأولى وكذلكنثرا فلسفيّا فكريّا أيضا. وعلى الرغم من الفكرة التقليديّة للنص، فإنّ جودته جعلت من نصّا ذو قيمة فكريّة متجدّدة، فعلى سبيل المثال: نقرأ أن الاتفاق هو اشتراك الأفراد في الرأي والأهداف..الخ.. ولكن النص يعرض لمفهوم الاتفاق بصور متعدّدة ومتباينة، وكذلك يعرض لفلسفة الوجود وفقا للآراء المختلفة، وكذا المعرفة، فهو ينقله من مصادر يختلف بعضها عن البعض الآخر، والشيء الأكثر جدلا هو مفهوم النص للأخلاق أحيانا نجده نسبيّة وأخرى مطلقة، وسنعرض للمباحث الثلاثة بشكل مختصر،
يقول محمد إقبال في تجديد الفكر الديني:" ما طبيعة هذا الكون الذي نعيش فيه وما بناؤه العام؟" سؤال عقائدي بالنسبة للأديان، وجوهري بالنسبة للإنسان، ووجودي بالنسبة للفلسفة. ويطرح الكاتب هذا السؤال ثلاثة مرات وهي:
1- "خلق الإله الخلق أحرارا"
2- " فكيف لنا أن نقرأ أبعاد التكوين."
3- "أيّ هذا الكم من صفر على سفر الوجود".
وكل جملة تعبّر عن فلسفة معيّنة تختلف كمّا وكيفا عن سابقتيها.
ثمّ نقرأ رأي النص في المعرفة، وهو يقول آراء مختلفة وكأنه يريد الجمع بين صنوف المعرفة الفلسفيّة. يقول صاحب النص:
(1) هم وحدهم من يملكون الحرف والعقل الكبير
(2) يا ترى أيّ ربّ صادر الحرف من الإنسان والفنّان والمطرب.
(3) الله لو يرضى لنا ...... لثبّت العينين خلف الرأس، لكنه يعني التقدّم للأمام.
وهذه الجمل تفيد نظريّات علميّة بحتة، فلأولى تعني أنّ الفرديّة والعبقريّة عاجزة أمام السلطة،
والثانية تعني أنّ السلطة تحكم وتتحكّم في الإبداع والخلق.
والثالثة تعني رفض السلطة لمبدأ "المعرفة حقّ لكلّ إنسان" وكذلك رفضها أوامر الخالق عزّ وجل، فكل جملة تعبّر بدورها عن فلسفة معيّنة تخالف الأخرى كمّا وكيفا.

3-ثالثا: الشتات الفكري للنص:
ويطلق مصطلح شتات على رجل يتصف بالمعرفة والعلم الواسع المشتّت والمبدّد فهو يعرف كثيرا، لكنه لا يعرف التنظيم والتنسيق للمعلومات والمعرفة التي بحوزته. ونحن لا نعرّف الشتات بهذا النحو، ولكنّنا نعرّفه بأنه سرد موضوعات عديدة بأسلوب مشوّق واستخدام أساليب المخاطبة المباشرة للعقل، والتنقّل كالنحلة من زهرة قرنفل إلى زهرة ورد، وهذا على الإطلاق لا يضعف العمل الإبداعي ولكنه يجعل المتلقّي في حيرة، فهو لا يكاد يقرأ عن "الأصل والأرض في لغة العرب" ثم ينتقل إلى موضوع الفكر وما بين اللغة والفكر حتى ينتقل إلى موضوعات الحريّة والعقل وآيات الله في الكون وما يجب أن يفعل ...الخ..
والحقيقة القصوى في مفهومنا للشتات هو الانتقال السريع للموضوعات والعرض المختصر لمفردات الموضوعات داخل النص. وكما أسلفنا فإنّ المتلقّي للنص"=القصيدة" يخرج بجملة من المفاهيم وجملة أخرى من الأسئلة وبسبب ذلك يجد نفسه"أي المتلقي" يعود إلى القاموس، وعليه أن يقرأ كثيرا لفهم بعض الأفكار، ولذلك كان من الأجدى عرض هامش لمعاني كلمات القصيدة، ولعله لا يخفى على القارئ تلك الإشكاليّة الكبرى لحرف (ما) بين المعتزلة والأشاعرة لقوله تعالى"من شرّ ما خلق"، وكذلك لا يخفى على قارئنا مشكل تحديد المصطلحات والعبارات.. ولعلّ نصوص أبي حيان التوحيدي، ابن رشد الأندلسي وأحيانا حتى ابن حزم الظاهري وحتى المفكر المعاصر محمود محمد طه جعلت تحديد هوامش المعنى أمرا لا مفرّ منه، وهذا النص جعل القارئ يعود للقاموس ليفهم كلمة "حرف" ولعلنا واجهنا نفس الموقف عند قراءتنا للنص.
وأخيرا يقول المثل الشعبي:"كلّ سفرة تعلّمك حذاقة" بمعن أنه كلما أعدنا قراءة النص وجدنا نصّا جديد، وهذا القول بالذات ينطبق على هذا النص " نصوغ حياتنا وكما نريد"..


.

هناك تعليق واحد:

  1. شكرا يا بحر العقل على هذا الوفاء، ودمت يا أستاذ الحروف والمعاني يا دكتور عبدالروؤف قامة شعرية تفيض بالمزيد.

    ردحذف