الأحد، 29 نوفمبر 2009

أفريقيا بحروف أبنائها (1):
عبد الرؤوف بابكر السيّد



إن الوضوح الذي اتسم به الشعر العربي تجاه أفريقيا أملته ظروف النضال وواقعيّة المرحلة والعمل على تعبئة الجماهير للتحرّر من أسر الاستعمار والتفرقة العنصريّة والاضهاد وصلف البنية الماديّة الغربيّة التي استباحت أفريقيا بأرضها وخيراتها وإنسانها، لذا فهناك من جابه بعنصريّة ، وهناك من جابه بوعي مفتوح ، وهناك من خلّد الأبطال الأفارقة، وهناك من لجأ إلى التراث الأفريقي متشبثا به معليا من شأنه مصوّرا له حتى لو اختلف مع معتقده . والجميع لم يفكر بأنه يكتب باللغة العربيّة التي وبكل تأكيد لن تصل إلي غالبيّة أفريقيا ولكنه من منطلق أفريقيّته أو من منطلق إنسانيّته واشتراكه مع أخيه الأفريقي.
* الجميع اشترك في حب أفريقيا، الوطن الأم ، أحبّوا غاباتها وهضابها وأنهارها ووديانها ، وإنسانها ، فقيرا ومعذّبا ومظلوما ، عاريا وحافيا قدما ورأسا وقواما ،إنهم حين يتغنون بأفريقيا ، لا يشعرون بأنها غيرهم بل منها أرضها أرضهم وهم أبناؤها وإن باعدت بينهم المسافات، أو سدّت أفق التواصل بينهم اللغات.
* لقد أخذت أفريقيا مساحة واسعة من الشعر العربي، ولا أظن أن اللغات الأفريقية الأخرى إلاّ وبها من الوجد والعشق والشوق والحب لأفريقيا الأم أكثر مما بها من عشق الأقطار الصغيرة ، كلها روافد للنهر الكبير ، للقارة العملاقة التي استبيحت أرضا وسماء وإنسانا زمنا ، واحتملت واحتمل إنسانها كل القهر والاستعباد والاستغلال ، وهاهي بعد نضال مرير وبطولات وتضحيات بدأت بسعة صدر تضمد جراحها وتلملم شتاتها وتحتضن بنيها .

. سنحاول فيما يلي أن نسلط الضوء على بعض من الشعر والشعراء العرب الذين انحازوا لأفريقيا ، وعملوا لإنصافها والتغنّي بها باللسان العربي .. آملا أن أجد في اللغات الأفريقيّة الأخرى ما يشكل ديوان أفريقيا في عيون أبنائها وبأقلام مبدعيها . وفي ذلك ما يدحض افتراءات الغرب الذي سعى للتفريق بين شمال القارة وجنوبها ، بين ثقافة عربيّة وأخرى أفريقيّة ، بين شمال الصحراء وجنوبها .. وفيه أيضا ما يعزّز السلام في السودان بين شماله وجنوبه ، حيث عشق إنسان الشمال أخاه في الجنوب ، وظل يناديه ليعانقه زمنا ليس باليسير، وفيه ما يؤكد على وحدة هذا الفضاء العربي الأفريقي من حيث النضال وعشق الحرّية ، والتوحّد على هذه الأرض .
* أفريقيا قارة مسالمة ، مهد للإنسان وحضاراته ، استبيحت ونهبت ثرواتها ولا تزال ، واستعبد إنسانها ، وسخّر لخدمة الأبيض ، هجّر من موطنه وطبيعته لموطن آخر وطبيعة أخرى ، واستعمر ولقّن لغات أخرى غير لغته . من هو هذا الإنسان ، كيف يشعر كيف يعيش؟ متى سيحقّق ذاته ويبدأ في بناء قارته كما بنى القارات الأخرى ويحتلّ موقعه تحت الشمس وفوق الأرض ، ذلك يتوقف على وعيه وفاعليته وإبداعه وتوحّده .
* الشعراء العرب جمعتهم هذه المعاناة في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الماضي ، فسجلوا موقفهم النضالي بجرأة توضح مدى عمق التعاطف والتوحّد بين الإنسان في شمال القارة أو جنوبها رغم معاناته ونضالاته التي أجّجت الثورة في أفريقيا بأكملها، وبقي مع هذا التوحّد عبر حركات التحرر حتى نال آخر قطر أفريقي استقلاله وحريته .
* في مقدّمة الشعراء العرب المعاصرين الذين تغنّوا بأفريقيا وحرّضوا على الثورة والتمرّد شاعرنا محمّـد الفيتو ري الذي حملت دواوينه اسمها (أغاني من أفريقيا) و (عاشق من أفريقيا) و (أحزان أفريقيا) حيث أصبحت أفريقيا رمزا لتمزّقه وضياعه وغليانه وتمرّده :

* لتنتفض جـثّة تاريخـنا ولينتصب تمثال أحقـادنا
آن لهذا الأسود المنزوي المتواري عن عيون السنا
آن له أن يتحدّى الورى آن لـه أن يتحدّى الفـنا
فلتنحن الشمس لهاماتنا ولتخشع الأرض لأصواتنا
إنا سنكسوها بأفـراحنا كمـا كسوناها بأحزانـنا
أجل فإنا قد أتـى دورنا أفريقيا . إنا قد أتى دورنا

• الفيتوري الذي يعشق أفريقيا :

أنا في حبّك مليون ضحيّة
تتهاوى تحت أقدام جلالك

* يقول متوحدا كأي أفريقي ذاق من الضياع والتشرد ما ذاق ، وطوى ليالي الغربة فيها منحازا بكل نبضة في مشاعره إليها ، ولا يزال يغنّي لها :

ومنذ ما انطلقت ضائعا مشرّدا
أطوي ليالي غربتي
وأمتطي خيول سأمي
كنت عذابي أنت يا أفريقيا
وكنت غربتي التي أعيشها
وحينما غنّيت، غنيت لعينيك
ومسّت شفتيّ في وله رموشها.

* وبحكم انحيازه للجموع مافتئ الفيتوري يسخر فنه وإبداعاته وانفعالاته لأرض الانفعالات ، حيث أضحت أفريقيا مشروعه الذي يتغنى به ليله ونهاره مكرسا حياته لها ولإنسانها الذي ألهمه هذا الإبداع والفن فكتب نفسه فيه:

لم تمت فيّ أغانيّ فما زلت أغنّي
لك يا أرض انفعالاتي وحزني
للملايين التي تنقش في الصخر وتبني
والتي ما فتئت تبدع فنّي

* وتظل نداءا ته لها لا تنقطع محرّضا وداعيا لليقظة من نوم طال وليل تطاول :

أفريقيا استيقظي
استيقظي من حلمك الأسود
أفريقيا النائية
يا وطني ، يا أرض أجداديه
إني أناديك
ألم تسمعي صراخ آلامي وأحفاديه

* ويصرّ على محو وصمة العار والذل التي علقت بأفريقيا الثورة رغم المعاناة والبؤس والقهر ، حتى تحقيق النصر، يقول في (أغاني من أفريقيا) :

إن نكن سرنا على الشوك سنينا
ولقينا من أذاه ما لقينا
إن نكن بتنا عراة جائعينا
أو نكن عشنا حفاة بائسينا
إن تكن قد أوهت الفأس قوانا
فوقفنا نتحدّى الساقطينا
إن يكن سخّرنا جلاّدنا
فبنينا لأمانينا سجونا
فلقد ثرنا على أنفسنا
ومحونا وصمة الذلة فينا.

• إنه شاعرنا محمد الفيتوري، تقول بطاقته الشخصيّة ، إنه من مواليد عام 1930، في بلدة (الجنينه) عاصمة دار المساليت، الواقعة على حدود السودان الغربيّة، دخل المعهد الابتدائي الديني بالإسكندريّة، درس في الأزهر ، وعمل بالصحافة في القاهرة والخرطوم وبيروت، أصدر عدّة دواوين أهمها (أغاني أفريقيا) و ( عاشق من أفريقيا ) و (أحزان أفريقيا) و(اذكريني يا أفريقيا)و(معزوفة لدرويش متجوّل) و(أقوال شاهد إثبات).

( مشهد من أحزان أفريقيا):

( ممر صخريّ شديد الانحدار.. السكون والوحشة يخيّمان على أشجار الغابة الكثيفة ، التي يتسلّل خلالها الممر .. سحب جامدة تغطّي الأفق..
الوقت ليل محتقن ...
يخترق الصمت المقدّس أصداء خطى (نازاكي) المغنّى غير المرئي قادما من بعيد .. في الخلفيّة أطلال قلعة عتيدة .. كل شيء يوحي بغرابة المشهد .. )

نازاكي: عودوا أنى كنتم ..
غرباء كما أنتم ..
فقراء كما أنتم ..
يا أحبابي الموتى عودوا ..
حتى لو كنتم قد متّم .

كورس الموتى: صمتا.. صمتا من الطارق أبواب الموتى؟
يا هذا الطارق، من أنت ؟ من أنت؟
أتكون الريح تحرّك فوق الأرض قوائمها البيضاء
ما شأنك أيتها الريح العرجاء بنا؟
ما شأن الريح
ما شأن الريح ..
أتكون الشمس المشدودة
سقطت في قاع الكون
أيكون الكون؟
أيكون الكون .

نازاكي: فقراء كما انتم
غرباء كما أنتم ..
عودوا يا أحبابي الموتى ..
حتى لو كنتم قد متـم..

كورس الموتى: أيكون العالم ؟

لم يوقظ عالمنا هذا العالم.
ماذا يبغي منا
يستجدي موتى مشنوقين؟
يستجدي موتى منفيّين ؟
يستجدي موتى مجلودين ؟
لم يبق لدينا ما نعطيه..
أعطيناه دمنا،
أعطيناه حتى أعظمنا،
وجماجمنا ..
ومضينا مقهورين..
لا نملك إلاّ بعض تراب من ماضيه.

نازاكي: فقراء كما أنتم
غرباء كما أنتم
عودوا يا أحبابي الموتى
حتى لو كنتم قد متّـم ..

كورس الموتى: كانت حيتان النهر
تلوح خلال النهر
نجوما من فضة
وطيور الكركي البضّة
تتنقّل عبر الأعشاب الخضراء
وصبايا القرية يوقدن النيران
وبضعة أطفال في الماء
وتلوّت أحشاء الغابة
صرخت فجأة
واصفرّت اشجار الغابة
هرمت فجأة
وتعالت راقصة نار القرصان
وتساقطنا قتلى ..
وتساقطنا جرحى ..
وتساقطنا أسرى ..
ورأينا حينئذ وجه السجان
كانت دنيا من أحزان
يا هذا الطارق أبواب الموتى
ضوضاؤك تفزعنا
وتقضّ مضاجعنا..
فارجع لا تفجعنا
لا تحرمنا النسيان .

نازاكي: يا أحبابي الفقراء
يا أحبابي الغرباء
كنتم أبدا عظماء

كورس الموتى: ( ضجّة)
يدعونا كي نرجع
يا وابور الأعمى .. يا كافور الأقرع
يا دودو .. يا مرسال .. أو تسمع .. أو تسمع؟
قد كنت عظيما حتّى في الأغلال

( أصوات مختلطة.. ليست بضحك .. ولا بكاء .. زحف أقدام
وسلاسل وسياط ـ طبول حزينة تدقّ ببطء ..)
أغنية الغربة الأولى

دميت أيدين .. أرجلنا
لكنا سوف نسير
ومياه النهر تسير..
وشموس الأفق تسير..
وتراب الأرض يسير
فوداعا يا أفريقيا ..
يا رمحى المكسور.
يا أفريقيا .. يا كوخي المهجور
يا أفريقيا .. يا وجهي المذعور..
سأكون بعيدا عنك .. بعيدا عنك ..
وتنتصب الأسوار
ما بين خطاي وبينك .. يا أفريقيا ..
وتطول الأسفار
لكنك حتّى طعم الخنجر
حتى طعم العار..
في قلبي .. في عيني ..
يا أفريقيا المفقودة .. ليل نهار
ونظلّ نســــــــــير
ومياه النهر تســـــــير
وشموس الأفق تســـــير
وتراب الأرض يســـــير
فوداعا يا أفريقيا .. يا أفريقيا ..

( صوت القافلة الحزينة .. العبيد مغلولون .. أصوات السلاسل.. النخاسون في المؤخرة .. الحرس لا يكفون عن الحركة .. إيقاعات الطبول تختفي شيئا فشيئا )

.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق