الجمعة، 20 نوفمبر 2009

هجرة العقول الأفريقيّة؟
عبد الرؤوف بابكر السيّد..جامعة التحدّي- سرت


مقدّمة:
الطيور المهاجرة.. أو العقول المهاجرة إنما تبحث عن مأمن أو تهرب من جدب أو تبحث عن تحقيق الذات حين تقسو الطبيعة عليها أو يجور الأهل عليها. وكما نعلم في موروثنا فإن (عازف الحيّ لا يطرب ) و (أن لا كرامة لنبيّ بين أهله) إضافة إلى أنّ القرب يُعْمي كما يقولون. فكم من مبدع لم نهتمّ به إلا بعد أن يكتشفه غيرنا؟ .فقد"أنجبت القارّة الأفريقيّة الكثير من العلماء والمفكرين في جميع المجالات، ولكن لم تستفد منهم إلاّ قليلا، بل لقد أصبحوا وبالا عليها، بحيث هاجر ثلثان من هؤلاء المفكرين والأكاديميين إلى بلدان غربية متقدّمة....... فهجرة العقول الأفريقيّة هي عبارة عن إهدار للموارد الشحيحة أصلاً للدول الأفريقيّة،والعائق الرئيس الذي يقف في طريق تنمية هذه الدول، فقد ظلّت الدول تصرف نسبة عالية باستمرار من رأسمالها البشري لصالح الدول الغربية المتقدّمة بصورة تؤثّر على بناء قدراتها اللازمة لإحداث التنمية،لأنّ زيادة الاستثمار لزيادة القدرات يقابله نزيف من القدرات بهجرة العقول الأفريقيّة ذات الكفاءة العلميّة والمهارات العالية"
إحصائيات:
في هذا الاتجاه أورد إدريس جالو (وهو كاتب من بوركينا فاسو مقيم في السودان ) عددا من الإحصائيات نسبها لأصحابها نورد جانبا منها لاكتمال الصورة ، فأفريقيا تفقد " 4 بليون دولار أمريكي سنويّا مقابل من يغادرها من المهنيين للعمل في الدول الغربية، إذ يغادر قارة أفريقيا سنويّا(200000) مئتا ألف من المهنيين" . وتقول كاترين كاوان لو التابعة لمنظمة الهجرة العالميّة O.M) ) " أنّ هناك من العلماء والمهندسين الأفارقة في الولايات المتحدة أكثر مما هو موجود من هذه الكوادر في أفريقيا" ويدعم هذا القول الدكتور أدوكات بروفيسور الاقتصاد المشارك في جامعة ياوندي بالكاميرون بقوله:" معظم المهاجرين من أساتذة الجامعات والمهنيين، يهاجرون إلى أمريكا الشمالية وغرب أوربا" كما جاء تقرير الأمم المتحدة للتنمية يوضح " أن 600 ــ 700 طبيب غاني يعملون في الولايات المتحدة الأمريكيّة خلال عقد الثمانينيات من القرن العشرين، ويمثل هؤلاء حوالي 50% من جملة الأطباء الغانيين. كما تقول منظمة الهجرة العالمية إن إثيوبيا فقدت 74.6% من رأسمالها البشري خلال الفترة 1980 ــ 1990، ومقابل كل بروفيسور في الاقتصاد في إثيوبيا يوجد أكثر من (100) اقتصادي إثيوبي في الولايات المتحدة. وتقول اللجنة الاقتصادية لأفريقيا: خلال الفترة من 1985 ــ 1990م فقدت أفريقيا حوالي (600.000) ستمائة ألف من أطباء وأساتذة جامعات ومهندسين وغيرهم من المتخصصين بسبب الهجرة. كما أورد الدكتور بن باركا في عام 1993م عن أوين قوله :" يوجد في المملكة المتحدة (134.000) أفريقي منهم (14.500( يحملون الدرجة الجامعيّة الأولى في حين أن (4600) يحملون درجات فوق الجامعيّة ". وتشير دراسة أعدّها البنك الدولي في عام 1995م أنّ 30% من العمالة ذات المهارات العالية في أفريقيا هاجرت للدول الصناعيّة خلال 1960 ــ 1978م . وتقول نفس الدراسة" أن حوالي 23.000 أكاديميّا وعدد 50.000 فرداً من ذوي المهارات الوسيطة والعالية من الإداريين يغادرون أفريقيا سنويّا لرواتب أعلى، وظروف عملٍ أفضل".
وقد أرجع إدريس جالو أسباب هجرة العقول الأفريقية إلى عاملين أساسيين : العوامل الطاردة والجاذبة، حيث تتمثل الطاردة في (عدم الحصول على دخل مقنع يمكن من العيش في المجتمع بصورة محترمة تحفظ كرامته وسمعته الحسنة ، وعدم توفر متطلبات العمل الفنية والأجهزة التي تمكن من تفجير الطاقات العلمية والفكرية والبحثيّة الكامنة في العلماء والأكاديميين والمتخصصين.إضافة إلى عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي بسبب الصراعات وما تحدثه من عدم استقرار نفسي على الفرد) أمّا العوامل الجاذبة للعقول الأفريقية في الدول المتقدّمة فتتمثل في ( سعي الدول المتقدمة لإغراء العلماء والمهنيين والمتخصصين من الدول الأفريقية بتقديم كثير من الحوافز التي يفتقدونها في بلادهم ، إضافة إلى توفر متطلبات العمل المهني المتخصص بصورة تمكن العلماء من الإبداع وتفجير الطاقات، كما أن الدول الغربية تشجع هجرة العقول الأفريقية إليها للاستفادة من علمها وقدراتها باعتبارها كفاءات عالية وجاهزة لا يتطلب منها الصرف المالي لإعدادها.) وقد أورد البروفيسور المهدي المنجرة ما أفادت به منظمة ـ OCDE ــ من أنّ هناك أكثر من مليون أفريقي حاملين لشهادات عليا يوجدون بالغرب، كما أنّ إحصائيات برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة تقدر بخصوص البلدان العربية والأفريقية، أنّ 54 في المائة من الأطباء و26% من المهندسين و17% من أصحاب الشهادات العلمية العليا المتخرجين من الجامعات والمعاهد العربية والأفريقية يهاجرون إلى الولايات المتحدة وكندا. وأنّ نصف الطلبة الأفارقة والعرب الذين يتابعون دراساتهم بالخارج لا يعودون إلى بلدانهم. وقد خلص البروفسور المهدي المنجرة إلى القول بأنه اعتبارا لكونه ساير إشكالية هجرة الكفاءات على امتداد 30 سنة خلت، فإنه الآن غيّر من موقفه بخصوص الجامعيين والباحثين المغاربة، وذلك بعد جملة من الاتصالات والمحادثات معهم على امتداد 10 سنوات، وبعد التبادل معهم أكثر من 1000 برقيّة إلكترونية بخصوص إشكالية هجرتهم من المغرب، ولذلك يقول لهم اليوم" أين ما وجدتم شروط التفتح والتألق والظروف المواتية للبحث العلمي والابتكار والخلق، هناك وطنكم" خصوصا وأنه عاين عن قرب كيف كان التعامل مع الذين اختاروا العودة إلى بلدهم وكيف شعروا هم بذلك إذ أن الكثير منهم اضطر إلى العودة من حيث أتى.
في العام 1967 تقدمت كل من البرازيل ومصر وإيرا بقرار رقم 2320 للجمعيّة العامة للأمم المتحدة للمطالبة بإجراء دراسة في موضوع هجرة الكفاءات. فكانت خلاصات الدراسات المنجزة بهذا الصدد قد أجمعت على سببين لهجرة الكفاءات. الأول يتعلق بضعف الإمكانيات والبنيات للتمكن من ممارسة ما تعلّمه المرء ، وقلّة الموارد المالية المخصّصة للبحث العلمي، وهذا واقع يساهم في إهدار المعارف. والسبب الثاني يكمن في التضييق على حرية التعبير وسيادة الخوف الذي لا يسهل الابتكار والإبداع.
هجرة الأدباء والمبدعين:
وننتقل في هذه الورقة إضافة إلى ما سبق إلي الأدباء والمبدعين الأفارقة الذين حقّقوا انتشارا عالميّا لا لأنهم ركنوا داخل أوطانهم بل لأنهم أذاعوا نتاجهم وإبداعاتهم في بلاد المهجر، فوجدوا التكريم والاحتفاء بهذا الإبداع. ونعرض فقط لنموذج الشاعرات الأفريقيات اللائي جمعهن (ستيلا وفرانك شيباسولا) في كتاب شعر المرأة الأفريقية والتي قامت بترجمته غادة الحلواني حيث أورد المحرران شعرا ل(40) شاعرة أفريقية) مع سيرة حياتهم وبعد إحصائهم من حيث بقائهم في أقطارهم أو الهجرة خارجها اتضح لي أنّ(10) فقط هم الباقون في أقطارهم أي ما نسبته 25% و(8) اخترن المنافي داخل أقطار أفريقية أخرى أي ما نسبته 20% أما اللائي هاجرن إلى أمريكا وأوروبا الغربية فيصل عددهم إلى (22) شاعرة أي ما نسبته 55% . وليس من فراغ أن استحدث الأخ القائد يوما للوفاء يكرّم فيه المبدعين وحاملي بنية الوعي الخلاّق، من المفكرين والأدباء والشعراء والفنانين وذوي العطاء من العقول المنفتحة والعامرة بالمحبّة للإنسان والإنسانيّة. فتحيّة لمن تلمّس الأسباب الكامنة وراء الهجرة والاغتراب ، وعالجها فأضحى أبا للأوفياء.
نحن لا نتلمّس لهم العذر بقدر ما نوجّه اللوم لأنفسنا حين لا نقدّر إشكالات عديدة تواجه المبدعين وتضطرّهم إلى الارتحال والهجرة ، تملؤهم الحسرة على فراق أوطانهم وأهليهم.
ومن بين هذه المشكلات التي سنعرض لها والتي خلقت لهم محنة، وجعلتهم مغتربين في أوطانهم ففضّلوا الهجرة على البقاء في أتون الوطن الذي أضحى طاردا لأبنائه، من بين هذه المشكلات:
• اللغة التي يجب استخدامها (أفريقيّة أم أوربيّة؟)
• مشكلة الأمّية في أفريقيا.
• المشكلات الاقتصاديّة (فأسعار الكتب مرتفعة ولا يستطيع شراءها سوى عدد قليل.
• مشكلة نقص منافذ النشر والتوزيع في القارّة.
• والعقاب الذي يتمثّل في الرقابة ـ السجن ــ النفي ــ وما هو أسوأ. (1)
نقول ذلك لأنّ أفريقيا المتشظّية في العالم على حدّ تعبير(ليوبولد سنغور) قد بدأت تلملم جراحها وتحنّ لموطنها منذ أن تأسّست حركة الزنوجة أو الوطنيّة السوداء ، والتي كانت من أبرز الاستجابات للتحدّي الذي واجهه اللون الأسود من البنية البرجوازيّة الماديّة التي تجذّرت في الغرب فاستعبدت واستباحت القارّة بأكملها (أرضا وإنسانا) خلال مراحل استعمارها وحملات الرقيق التي قادتها.
الاستجابة:
حركة الزنوجة، أو الوطنيّة السوداء كانت من أبرز الاستجابات للتحدّي الذي واجهه اللون الأسود من البنية البرجوازيّة التي تجذّرت في الغرب، فقد نظّم كل من هنري سيلفستر ويليامس، وبنيتو سيلفان بمساعدة فيرمان( الجمعيّة الأفريقانيّة)(***) من 1897 إلى 1900 حضّرا لانعقاد المؤتمر الأفريقاني في باريس ولكنه عقد في لندن في 23 إلى 25 يوليو 1900، واتفق على تنظيم مؤتمر أفريقاني كل سنتين 1902 في الولايات المتحدة و 1904 في هايتي35.
ومن أبرز رّاد هذه الحركة هو (مارتن روبنسون ديليني) المولود في 6 .3 .1812 في تشارلز تاون (فرجينيا) . وهناك الكثير ممّن بدأ يكتب حول أفريقيا في إطار العودة أو للانتصاف للون الأسود، وصلت كتاباتهم أحيانا حدّ التطرف، مواجهة لعنصريّة البيض . وأضحت القوميّة السوداء تنادي بأن " أفريقيا هي للعرق الأفريقي وحكمها للسود".
كما برزت دراسات وأبحاث كانت عبارة عن إرهاصات قبل تشكل هذه الجمعيّة، منها مؤلف هوسيا إستون(دراسة في الشخصيّة الفكريّة) ومؤلف روبرت بلويس (النور والحقيقة 1844 ) ونداء دافيد ووكر (إلى المواطنين الملوّنين في العالم ، 1829 ) وكتاب الكسندر كرامل (مستقبل أفريقيا 1862) ودراسة جيمس أفريكان هورتون (بلاد أفريقيا الغربية وشعوبها 1868) وكتاب جورج واشنطن وليامس ( تاريخ العرق الأسود في أمريكا ، 1882 ) وما كتبه وانتينور فيرمان عن ( المساواة بين العروق البشريّة ، الأنثروبولوجيا الإيجابية،) الذي نشر في باريس 1885 . ومارتن بليني الذي نشر رواية قبيل عيد الميلاد سنة 1828 بعنوان ( بلايك : أو أكواخ أمريكا) وألقى محاضرة في النادي القومي عن ( أوضاع العرق الأسود ومطامحه) في 16.7.1860. والذي نقل دوغلاس عنه في التربيون كلماته التي تقول " أتكلم فقط عن العرق الأسود الصافي، الذي لم يفسده الدم القوقازي" وعلق دوغلاس : بأن سماع هذه الكلمات يعطي انطباعا بأن ديليني يشاطر بالنسبة إلى السود ما يراه البيض بحسب نظريّة تفوّق العرق الأبيض36.
كما كتب وليام ويلز براون رواية بعنوان: كلوتيل: أو ابنة الرئيس، نشرت في انجلترا سنة 1853 . وفرانك ويب الذي كتب رواية بعنوان: آل غاري وأصدقاؤهم، والتي ظهرت في إنجلترا سنة 1857 . وكان معظمهم من مؤسسي جمعية الحضارة الأفريقيّة .. وجمعيّة اتحاد الوطن الأم.
وقد اعتبر أورينو دالارا أن إدوارد ويلموت بليدن(1832 ــ 1912) العنصر الحاسم في هجرة الزنوج إلى أفريقيا .. وقيل عنه أنه مؤسس(باك تو آفريكا) أو الزنوجة " الوطنيّة السوداء" ، وهو كاتب أسود وأستاذ ودبلوماسي، فرض وجوده وتأثيره في مونروفيا كما في واشنطن، أو لندن أو باريس(****)
في محاضراته انتقد بليدن المفاهيم التي تقلّل من قيمة الإنسان الأسود أو أفريقيا، مثل " العرق الأدنى" أو "أفريقيا المظلمة" وثار على الصورة المغلوطة التي تنسب إلى السود. هذه الصورة المزرية كانت موجودة في كل مكان. ، في مقالات الصحف، وفي التعليم، وفي الأدب، وفي التاريخ الذي يكتبه الأوربيون. لقد قدّمت صورة مشوّهة عن الإنسان الأسود، والأسوأ أن كل هذا أدّى إلى إساءة احترام الأسود لذاته وإلى عقدة نقص . ودعا بليدن كل زنوج الأمريكتين إلى تصحيح هذه الصورة الزائفة. كما حرص على أن يظهر في كل كتاباته قيمة الإنسان الأسود، وعزّة نفسه ، من خلال تواجده في العالم بأسره، ليس فقط في أفريقيا ، بل أيضا في الكاريبي والولايات المتحدة، وشبه الجزيرة العربية، وبلاد فارس والهند وحتى الصين، في اثنين من مقالاته " صوت من أفريقيا النازفة" و " مدافعة عن الشعب الأسود"37
أدان بليدن 1882 في خطاب ألقاه في الولايات المتحدة التزوير الذي أحدثه الأوربيون في التاريخ الأفريقي، ولجمع الشمل طلب من صديقه كوبنغر استبدال كلمة"أسود" بكلمة "زنجي" في المادة الثانية من النظام الأساسي للجمعية الأمريكيّة للاستيطان. وكان قد أطلق على جريدته التي أراد لها أن تكون لسان حال كل الزنوج"الزنجي" شارحا سبب اختياره بأن دورها هو أن تمثل وأن تدافع عن مصالح هذا الصنف المميّز من البشريّة المعروف باسم الزنوج في العالم أجمع، وطموحها يسعى لتأكيد الأخوّة بين أبناء هذا العرق وتقويتها. كما كان يشعر بحقد عميق تجاه الذين أسماهم" الخلاسيين " وذوى الدم الممزوج، والمهجّن ، مقابلا إياهم مع " الزنوج الأنقياء " ولم يطالب من كل الملونين أن يغادروا الولايات المتحدة إلى أفريقيا، إلاّ في حالة الزنوج أي أبناء أفريقيا، الذين يؤمنون بغرائز العرق، وبواجبهم تجاه موطنهم الأصلي. كما شجّع الزنوج الأنقياء للزواج في ما بينهم من أجل الحفاظ على العرق ، فهو يؤمن بمستقبل امبراطوريّة زنجيّة في أفريقيا.
هذا التوجه العنصري لدى بليدن لم يحل بينه وبين إعجابه بدعوة المسلمين في أفريقيا، وبطريقة تقرّبهم من السكان الأصليين التي أسماها "التأثير المستوعب"، وكان يعرف تماما الأصول المشتركة للشعبين الأفريقي والعربي مستندا إلى هيرودوتس الذي ذكر أنه قبل عصر محمد كان السود يشاركون في تراث شبه الجزيرة العربية العلمي وسياستها حيث اكتشف العلاقات الوثيقة بين هذين الشعبين، ويتكلم عنهما كأنهما من عرق كبير واحد. في نفس الوقت أحبّ مسيحيّة المسيح لكنه لم يكن أيّ احترام لممثليه الدنيويين الأوربيين، وأحبّ منهج المسيحيّة لكنه كره طرق الذين يبثّونها في أفريقيا.. لأنه حسب رأيه أن المسيحيّة بطرقها هذه لم تعط قط السلطة للزنجي ، وليست مستعدّة لإعطائه إيّاها.38
هذه العنصريّة تجاه العرق الزنجي هي رد فعل طبيعي على عنصريّة العرق الأبيض، فكل منهما ينتمي لبنية مختلفة. الأبيض لبنية الوعي المادّي هدفه السيطرة ووسيلته النبذ والإقصاء لكل من يقف في طريق جمعه للثروات المادّية، فتدرّج من الاتجار بالرق إلى العنصريّة المبرّرة للاستعباد أيام البرجوازيّة، ثم الاستعمار والهيمنة أيام الرأسماليّة. والزنجي أو الأسود لبنية وعي تناسلي يسعى لإثبات وجوده والثأر لهذا الاحتقار وهذه الهيمنة وذاك الاسترقاق، وذلك بالبحث عن أصوله وجذوره وعن ماضيه لمجابة التحدّي التاريخي، ويصبح الحلم بناء امبراطوريّة السود أو امبراطوريّة الزنوج في أفريقيا .
في مجال الأدب ذهب عدد من الدارسين ،إلى أن هذه العنصريّة برزت لدى الأفارقة لتكون الرد الثقافي المطلوب على المزاعم الغربيّة الاستعماريّة خاصة الدول التي كانت ترزح تحت الاستعمار الفرنسي الذي أثقل البيئة الثقافيّة في أفريقيا بتأثيره، حيث طغى أدب حركة الزنوجة التي ذهبت إلى أن لأفريقيا أسلوب متفرّد ومتميّز في التعبير الفنّي والإبداعي، وله دور منوط به في العالم. لقد كان الأدب الأفريقي الشفاهي والمكتوب بالحروف الأعجميّة يسخر ممّن يحاكون الرجل الأبيض وممّن يتحدّثون لغة الرجل الأبيض دون أن يفهموها. فتفجّر بين أبناء أفريقيا لون آخر من ألوان الوطنيّة الثقافيّة في باريس في الثلاثينيات من القرن العشرين، إذ قام الأفريقيّون الناطقون بالفرنسيّة في باريس بإعلان التمرّد على استعمار العقل الأفريقي، وإن كان ذلك في إطار مرجعي أوربي .. ذلك أن سياسة الاستيعاب الثقافي التي اتبعتها الإمبريالية الفرنسيّة أحدثت ردّة فعل أفريقي يتمثل في الاعتزاز بالزنجيّة، وكانت كما اتضح فيما بعد، تجربة أفريقية جامعة ذات أهمّية فريدة، فقد تحالف كتاب أفريقيا والبحر الكاريبي في نظم الشعر الذي ينعى فصم العرى التي تربطهم بأسلافهم، وتأكيد صحة التقاليد والأصالة الأفريقيّة . وكان التحالف بين إيميه سيزير ، وهو من المارتنيك وليوبولد سيدار سنغور من الأسس البالغة الأهمّية للحركة الأدبيّة الزنجيّة. بل إن تعبير الزنجيّة [ في الشعر] كان من ابتكار سيزير فكانت استجابته هي التحيّة والترحيب بالأبيات التالية:
من لم يخترعوا البارود ولا البوصلة
من لم يرو ضوء الغاز ولا الكهرباء
من لم يكتشفوا البحار ولا السموات
إنّ زنجيّتي ليست صخرة، يلقى بصممها في وجه صخب العصر
زنجيّتي ليست كائنا من الماء الميّت على العين الميّتة للأرض
زنجيّتي ليست برجا أو كاتدرائيّة
إنها مغروسة في لحم الأرض الأحمر.39
وفي كراسة عودة إلى الوطن، يعلن كرهه للمنطق ، ويمجد قوى اللاوعي باعتبار أن ذلك يمثل رؤية للكون زنجيّة تماما:
لأننا نكرهكم أنتم وعقلكم،
ونطالب بالجنون المبكّر وبالجنون المتفجّر،
وبالآدميّة المتأصلة فينا..
طوبى لمن لم يخترعوا شيئا أبدا
لمن لم يكتشفوا شيئا أبدا،
لمن لم يخضّعوا شيئا أبدا،
لكنهم يتخلون مشدودين إلى جوهر كل الأشياء
غير عابئين بالأشكال، تتملكهم حركة الأشياء40
أما ليوبولد سيدار سنغور فيقول في " توسلات إلى الأقنعة" متغنيا بالليل الأفريقي و"الغموض في أعماق النفس السوداء الوضّاءة":
أيّها الليل الذي يذيب كل تناقضي وكل التناقضات،
في وحدة زنجيّتك الأصليّة،
فلتقبل الطفل الذي ظلّ ولم يشخ
بعد اثنتي عشرة سنة من الضياع.41
وهذا هو ثالثهم ليون جورج داماس وأصله ممّا يعرف بغويانا الفرنسيّة ، ويعدّ أحد مؤسسي حركة الزنوجة يعبّر في ديوانه (خضاب Pigments ) عن عدم رضاه عن نفسه بعد أن تشبّه بالرجل الأوربي في كل شيء وفقد بذلك هويّته الأفريقيّة :
لديّ إحساس بأنني سخيف
وأنا ألبس حذاءهم،
وأنا ألبس بدلتهم،
وأنا ألبس ياقتهم المزيّفة،
وأنا ألبس نظارتهم.
لديّ إحساس بأنني سخيف،
برقبتي التي تشبه مدخنة مصنع
بآلام رأسي التي تتوقف،
كلّما حيّيت أحدهم .
لديّ إحساس بأنني سخيف ،
في صالوناتهم،
في مجاملاتهم،
في انحناءاتهم،
في حاجتهم المتعدّدة إلى التقريد .42
إلاّ أن عددا من الإشكالات والمعاناة والهموم التي أثقلت كاهل الكاتب والمبدع الأفريقي دفعت به إلى الهجرة من جديد، فالحلم لم يتحقّق.
أولى هذه المشكلات هي:
اللغة:
فالغربة داخل اللغة نتيجة لاضطرار الكاتب إلى التفكير بلغة أمّه والكتابة بلغة المستعمر 26 شلش .......... فمشكلة التعبير باللغة الأجنبيّة الوافدة ، أن يفكّر كأفريقي ويكتب كأوروبي، إشكالية ومعاناة.
أن يشعر بالقلق لضآلة جمهوره إذا كان يكتب بلغة أفريقيّة مدوّنة. إشكاليّة ومعاناة لأنه في كلتا الحالتين يعاني من ضيق رقعة القرّاء الناتجة عن ارتفاع نسبة الأمّيّة..
لقد سعى رغم ذلك الأفريقيّون إلى أن يطوّعوا اللغات الأوربية للوفاء بأغراضهم كما أشار إلى ذلك أتشيبي في قوله ( إنّ اللغة الإنجليزيّة ستقدر على حمل ثقل تجربتي الأفريقيّة، ولكنها لا بدّ أن تكون انجليزيّة جديدة، بحيث تظلّ على صلة مستمرّة بموطن أسلافها، وتتغيّر بحيث تناسب البيئة الأفريقيّة الجديدة ) ص 29 شلش نقلا عن Jan. op. cit,p.66
وتظلّ القضيّة لدى الباحثين الأفارقة أنفسهم مطروحة بشكل آخر: كم من القرّاء يقرؤون روايات أتشيبي الانجليزيّة؟ كما يطرح داثورني قضيّة أكثر أهميّة في ذلك حين يتساءل هل هو أدب للتصدير ذلك الذي يكتب باللغات الأوربيّة.
الأفريقيّون الذين كتبوا بلغات أوربيّة لم يختاروا ذلك على الإطلاق ، وإنما فرض عليهم الأمر فرضا، إمّا بسبب عدم وجود لغة أفريقيّة مكتوبة في متناول أيديهم. وإمّا بسبب عمليّة التعليم التي لم تكن متاحة بغير اللغات الأوربيّة، لذلك قال سنغور إنّ اللغة الفرنسيّة هي التي اختارته ولم يقم هو باختيارها.
كتب تشارلز ر. لارسون في محنة الكاتب الأفريقي يقول: "إنّك لكي تكون كاتباً في أفريقيا ، فإنّ ذلك يتضمّن التغلّب على تحديّات كثيرة والتحايل على عقبات نادراً ما يصادفها الكتّاب في الغرب، وبالتالي فإنّ كتّاب الغرب لا يعرفون شيئا عن مكابدات كتّاب أفريقيا وكثير من دول العالم الثالث". ص 8-9
ويضيف بعد أن درس (آموس تيوتولا) الروائيّ النيجيريّ الذي يعتبره اليوم الكثير من النقّاد واحداً من الآباء المؤسّسين للواقعيّة السحريّة، والذي عاش حياة مملوءة بالإحباط والإهمال، وعندما مات 1997 كانوا يجمعون التبرعات لتسديد نفقات دفنه، يقول عنه لارسون الذي كتب عنه رسالة دكتوراه حول روايته " شرّيب نبيذ النخيل" إنّ (العمل الذي كان يقوم به آموس تيوتولا ونشر روايته "شرّيب نبيذ النخيل" يقدمان لنا مثالاً صارخاً على وضع كاتب يحظى بشهرة وتقدير في الغرب، ويتمّ تجاهله في وطنه إلى حدٍّ بعيد ، وهو وضع مألوف بالنسبة لكثير من الكتّاب الذين جاءوا بعده). ص 9
وحتى بعد أن نجح تيوتولا بروايته، سرعان ما بدأ الجدال وانقسم النقّاد إلى فريقين. كان النقّاد الانجليز والأمريكيّون مفتونين بقصّة " تيوتولا " وبأسلوبه في الكتابة بينما كان النقّاد الأفارقة يخشون أن يتصوّر الغربيون أنّ " تيوتولا" هو النموذج الأفريقي المتعلّم بشكل عام..ص 23 لا لشيء سوى أنّ تعليمه متوسّط وأنّه يعمل ساعٍ ، وكأنّما الإبداع مربوط بالتعليم العالي.
لقد أصبح على الكاتب الأفريقي اليوم واجبات ومهام عديدة وثقيلة،
فمثلاً عليه أن يحارب الفرديّة التي تفشّت مع السيطرة الاستعماريّة والغربة التي يحسّها كثيرون من مواطنيه. أو يحسّها هو نفسه نتيجة المتغيّرات المستمرّة في بلده .
عليه أن يحارب مظاهر القيم الغربية التي تجتاح كثيرا من الدول الجديدة في قارته..
أن يحارب الصراع الحالي بين السياسة والأدب، وهو صراع جعل الأدب تابعا للسياسة والساسة. وجعل الأديب يتجاهل الواقع الخصب ، ويتنازل عنه مرغما لصاحب الرؤى الجديدة أي السياسي كما أشار وولي شوينكا ذات مرّة. ص 28 شلش.
ويجد الإنسان نفسه وهو يعرض لهذه القضيّة التي تشكّل أهمّ التحديات التي تواجهها المجتمعات الأفريقيّة ، يجد نفسه وبصورة موضوعيّة مدفوعا للحديث عن الصراع الأزلي بين سلطة الكلمة وكلمة السلطة. فالأنظمة السياسيّة في أفريقيا كغيرها من دول العالم الثالث ، مرّت بتحوّلات وصراعات سياسيّة وقبليّة أدمت ضمير العالم. وما من انقلاب عسكريّ إلا وسيطر أوّل ما سيطر على منابر الكلمة، ليحدّ منها مصطفياً بعد ذلك من يبرّر كلمته، عاصفا بمن يعارضه، أو يمتنع عن توظيف فكره وإبداعه لصالح السلطة.. والأمثلة عبر التاريخ كثيرة لا حصر لها.
إلا أنّ الحسرة التي تدمي قلب المبدع الأفريقي وتلقي به في أتون محنة حارقة هي أنه أحبّ أن يعود من الشتات وعمل على ذلك وتغنّى بأفريقيا الأم أكثر من تغنيه بأقطارها الصغيرة.. لقد ناضل من أجل العودة إلى دياره وأهله فإذا به يجد نفسه بين جحيم السلطة وإهمال وتهميش إعلامها له.. الأديب الأفريقي يسائل نفسه : لمن يكتب..؟؟؟
الجماهير الغفيرة من الأفارقة تتفشى الأمية بينهم ، والعزوف عن القراءة ضارب أطنابه ، والسعي وراء لقمة العيش لا تفسح المجال للقراءة والاطلاع.. والرقابة تحاصر الأقلام .. وإذا كتب الكاتب فلنخبة هي نفسها في صراع لا ينتهي تغذّيه السلطة سياسيّة أو قبليّة..
والمبدع أهمّ عنصر يدفعه للإبداع هو الصدق الفنّى وصدق التجربة والالتزام بما يحمله في دواخله، ورؤيته لمجتمعه وفضائه وللعالم.. وإذا ما وجد نفسه منفصما يكتب ما لا يؤمن به مرغما أو وجد نفسه مزدوجا متصارعا غير متصالح بين الأنا الداخل والأنا الخارج الذي يفرض نفسه عليه ، هجر القلم واغترب داخل وطنه ، أو هجر بلاده رغما عنه ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) تشارلز . ر . لارسون، محنة الكاتب الأفريقي ، ص9.
(2) 31) نايت، الشتات الأفريقي، تاريخ أفريقيا العام، المجلد السادس، ص848 ، نقلا عن سى . هورغرونجي C.S. Hurgronje 1970 ص 11 ــ20 .
(3) (32) الشنتناوي[ ماسينيون L. Massignon] موجز دائرة المعارف الإسلاميّة، مركز الشارقة للإبداع،ج 17. ط1، 1998، مادة الزنج ،ص5334 ـ 5335 .
(4) (33) سعيد بن سعيد آل عمر ، تجارة الرق عند الأوربيين، مجلة آداب ص102 .
(5) (34) المرجع السابق ص 103 . وانظر عبد اللطيف أحمد علي، التاريخ الروماني عصر الثورة، دار النهضة العربية، بيروت ، ص 115 ـ117 . وكذا عمر عودة الخطيب، نظرات إسلاميّة في مشكلة التمييز العنصري، ص45 ـ46 . وكذا The New Encyc Lopaedia Britannica 16 :857 .
(6) [***] هنري سلفستر(1869 ــ 1911) وبينيتو سيلفان(1868 ــ 1916) وأنتيفور فيرمان (1850 ــ 1911) وهو صحافي ومحام ودبلوماسي ووزير ومرشح للرئاسة وشخصيّة بارزة في هاييتي، ومؤلف كتاب المساواة بين العروق البشريّة (الأنثروبولوجيا الإيجابيّة) نشر في باريس 1885 . أورينو دالارا ، نشأة التيار الأفريقاني، ص 18 .
(7) (35) المرجع السابق ص 18 .
(8) (36) المرجع السابق، ص 120 .
(9) [****] كتب سيرته هـ . ر . لينش ، إدوارد ويلموت بليدن 1832 ــ 1912، المواطن الأفريقاني، لندن ، منشورات جامعة اكسفورد، 1967 ،(أورينو دالارا، نشأة التيار الأفريقاني ، ص 16 .
(10) (37) أورينو دالارا ، نشأة التيّار الأفريقاني، ص 195 ــ 196 . نقلا عن بليدن، أصداء من أفريقيا ص 138، والاستعمار الأفريقي ص 352، وأثيوبيا تمد ذراعيها إلى الله ، ص 120 .
(11) (38) المرجع السابق ص 198 ــ 213 .
(12) (39) تاريخ أفريقيا العام ، ص 601 ـ 602 ، والنص عن الترجمة الإنجليزيّة الواردة في ترجمة س .و . والن S.w. Allen لجان بول سارتر J.P.Sarter 1963 ، ص 41 ـ 43 . وقد وردت ترجمتها في دراسة للدكتور أحمد منوّر :
(13) زنوجتى ليست حجرا ،
(14) صممها زاحف ضدّ صخب النهار.
(15) زنوجتى ليست قرنيّة ماء ميّتة على عين الأرض الميّتة
(16) زنوجتي ليست حصنا ولا قلعة،
(17) إنها تغوص في لحم التربة الحمراء،
(18) إنها تغوص في لحم السماء المضطرمة،
(19) إنها تثقب الإرهاق السميك لصبرها القويم . [ د. أحمد منوّر، الأدب الأفريقي بين مفهوم الزنوجة والشخصيّة الأفريقيّة، الفصول الأربعة ، العدد 107 ، الفاتح(سبتمبر) 2005 ص 66 .
(20) (40) خالد عبد المجيد مرسي، الأدب الأفريقي الحديث، أعمال مؤتمر التعليم من أجل التحرير في أفريقيا، مركز البحوث والدراسات الأفريقية، سبها1988، ص 519. نقلا عن Cesaire,Aime :'' Chaierd,un retour au pays natal" Paris,Presence Africaine, 1956,P.P.48 -73 . وقد ترجم العنوان د. أحمد منور باسم " دفتر العودة إلى مسقط الرأس " Cahier d un retour au pays natal .[ الأدب الأفريقي بين مفهوم الزنوجة والشخصية الأفريقية، الفصول الأربعة، العدد 107 ،سبتمبر 2005 ، ص 66 .]
(21)
(22) (41) المرجع السابق،ص 520. نقلا عن Senghor,L,S,: " Que m,accompagnet Koras et balafong" ibid,P,35.
(23) (42) أحمد منوّر، الأدب الأفريقي بين مفهوم الزنوجة والشخصية الأفريقيّة، الفصول الأربعة، العدد 107 ، سبتمبر 2005 ،ص 67 .

.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق