الخميس، 19 نوفمبر 2009



مقابلة شخصيّة 
مع الشاعر العربي السوداني:
عبد الرؤوف بابكر السيّد
أجرتها : أ. هدى رجب محمد

الصيف (يونيو) 2008

• 




بعد التحيّة لك إنسانا وشاعرا ومعلّما وباحثا  اسمح لنا أن نتساءل متى ولدت؟ وأين؟
• في قرية هادئة وادعة على ضفاف النيل شمال العاصمة الخرطوم، تدعى[المتمّة] ولدت في فجر الاثنين 21ــ 6 ـ 1944 ، لأسرة كبيرة تتكون من أب وأم وخمسة عشر من الأبناء والبنات(6 من الذكور و9 من الإناث). كنت ثالث هذه الذرّيّة.. وهذه الأسرة تنتمي لأسرة ممتدّة تتشكل من 15 من الأعمام والعمّات، إضافة إلى الأخوال والخالات من جهة الأم..
أين تلقيت تعليمك الأوّل ومن ثم المدارس الثانويّة فالجامعة وما صاحب تلك الفترة من تمرّد ونضال؟
• ربما طالت الإجابة عن هذا السؤال...         لقد كان والدي مزارعا أول الأمر بهذه القرية وأعمامي كذلك، وكان الجراد الذي ظلّلهم كالسحابة وهم في اتجاه حصاد زرعهم ، هو السبب الرئيس الذي دفعهم للهجرة إلى العاصمة أم درمان ، حيث قفلوا عائدين إلى منازلهم دون أن يكملوا المشوار، لإدراكهم أن لا قبل لهم بمكافحته، وأن لا سبيل لإنقاذ حصاد زرعهم. تلك كانت أولى الرحلات التي وعيتها في صغري، وأنا أقف على محطة القطار مع كامل أسرتي ، وأعمامي في انتظار القطار القادم من الشمال لمدينة شندي( بالجهة الشرقية لنهر النيل المقابلة لقرية المتمّة).. باتجاه الخرطوم. والمتمّة كانت تاريخيّا عاصمة قبيلة الجعليين، ومستقر شيخهم المك نمر.. وتلك قصّة تاريخيّة حكاها لنا كبارنا وتلقيناها قراءة من تاريخ السودان.
كان أول همّ والدي متجها نحو التعليم، فبمجرّد الاستقرار في منزل بالإيجار بأحد أحياء أمدرمان القديمة.. توجه مباشرة بنا إلى المدرسة الأوّليّة (مدرسة الهدى الأوّليّة) لأدرس بها أنا وأخي الأكبر وأخي الأصغر.. كانت المدرسة خاصة برسوم دراسة قدرها(15 قرشا) في الشهر للطالب، وذلك في العام 52 ــ1953 والسودان مازال تحت الاحتلال البريطاني.. كنّا قبلها قد تلقينا حفظ جزء ليس باليسير من القرآن بإحدى الخلاوي بالمتمّة.. تمّ إجراء امتحان قبول تأسّس بموجبه تنسيب أخي الأصغر في السنة الأولى، ونسّبت أنا بالسنة الثانية وأخي الأكبر تمّ قبوله بالصف الثالث.. في العام التالي وعند إكمالي السنة الثالثة كان هاجسي أن أمتحن الشهادة للمرحلة الوسطى (الإعدادي) مع أخي الأكبر الذي أكمل السنة الرابعة، فجلسنا سويا واجتزنا الامتحان (54 ــ 1955) فكان نصيبي من دراسة الأوّلية السنة الثانية والثالثة فقط.. التحقت بمعهد أم درمان العلمي لدراسة المرحلة الوسطى (4 سنوات) والمرحلة الثانوية(4 سنوات) من 55 وحتى1963. ثم واصلت دراستي بجامعة القاهرة فرع الخرطوم كلية الآداب ، قسم اللغة العربية ، حيث تخرّجت فيها عام66 ـ 1967.
التحقت بعدها بالتعليم العام معلّما .. ومواصلا دراستي فوق الجامعيّة في الوقت ذاته ، فلم تشأ وزارة التعليم وقتها منحي فرصة التفرّغ للدراسة. اجتزت في 68 ـ 1969 السنة التمهيديّة بنجاح ، ثم كان اختيار موضوع الرسالة( المدارس العروضيّة في الشعر العربي) حيث كانت أوّل رسالة علميّة عن عروض الشعر العربي.. قمت لأجل إنجازها بعدّة رحلات إلى القاهرة للاستفادة من معهد إحياء المخطوطات العربية التابع لجامعة الدول العربية.. وقد أنجزتها وقمت بمناقشتها في يناير 1972. حيث كان المشرف د. عبد المجيد عابدين.. والممتحن الداخلي د. شكري عيّاد والممتحن الخارجي د. عبد الله الطيب..
خلال هذه الرحلة العلمية، والمؤسسة على الجانب الديني، سواء بتلقي حفظ القرآن الكريم بالخلوة أو بالمعهد الديني.. كانت هناك العديد من الأسئلة المتشابكة التي لا تجد حلا في دائرة الفكر الديني، ولم يكن لي من سبيل لمناقشة أفكاري وطرح تساؤلاتي وأنا في مرحلة الثانوية إلا مع أقرب أصدقائي.. وفي المرحلة الجامعيّة كان الصراع محتدما بين الاتجاه الإسلامي والشيوعيين داخل الجامعة، مما يعني طرحها انحيازا لفريق ضد آخر، ولم أكن في الوقت ذاته أنتمي لأحدهما..
وما أحمده لوالدي(يرحمه الله) الذي كان متديّنا واعيا، تلك اللفتة البارعة منه في تربيتي، حيث نمّا فيّ روح الحوار وأدب النقاش.. كان يستدعيني لأجلس بالقرب منه على حافة سريره، وهو متمدّد على فراشه، ليطرح لي موضوعا يطلب رأيي فيه، كنت بلا تردّد أطرح ما أراه، فيأخذ هو الاتجاه المعاكس حتى لو كان متفقا معي.. ليستمر الحوار حتى وقت متأخر من الليل.. كان يتقبّل منّي ما أطرحه من رفض وتمرّد على العادات والتقاليد والأعراف السائدة، وعندما يصل الأمر إلى البنية الدينيّة والإشكالات المستعصية لدي.. كان عندها يطلب مني بهدوء التوقف عن تناول مثل هذه القضايا لما فيها من مهالك كما يقول.. وفي ذات الوقت كنت أحسّ بسعادته لما أطرحه، فيشعر بأني بالفعل ألقي بحجارة في الماء الراكد..
إضافة إلى ما منحتني إياه خصوبة المرحلة الجامعيّة التي كانت مليئة بالحوارات وغنيّة بالقراءات وبممارسة الكتابة في مجال النقد ونشر الشعر بمجلة الإذاعة وغيرها من الصحف إضافة إلى الصحف الحائطية بالجامعة والندوات والمحاضرات والملتقيات.. كل ذلك جعل خصوبة هذه المرحلة تعدّنا بالفعل لأداء دورنا في الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية..
أذكر أننا شاركنا وبفعالية وقد كنا طلابا في المرحلة الثانويّة في مظاهرات ضخمة وعنيفة جبنا فيها شوارع أم درمان والخرطوم حين تمّ اغتيال المناضل الأفريقي (باتريس لوممبا) الثائر الأفريقي في الكونغو، من قبل وكالة الاستخبارات الأمريكية.. وأسهمنا بفاعليّة أكبر في مظاهرات ثورة أكتوبر الشعبية1964 ونحن طلابا في الجامعة حينها، حتى تم إسقاط الحاكم العسكري الفريق إبراهيم عبّود.. وتجاوبنا بصدق مع مصر عبد الناصر حين وقع العدوان الثلاثي 56 وعندما وقعت الهزيمة عام1967.. لم نصدّق وقتها .. وعشنا مرحلة ذهول، لكننا مع ذلك قمنا باستقبال جمال عبد الناصر في قمة الخرطوم، استقبال الأبطال مشكلين عمقا له، مما منحه العزم ودفع به إلى استعادة الثقة بأمته التي لن تكسرها الهزائم..
ما أهم المحطات الثقافية في حياة الشاعر؟
• من أهم المحطات الثقافية التي استوقفتني وأنا طالب بالمرحلة الإعدادية ، أن والدي(رحمه الله) كان يصطحبني لحضور الأمسيات والليالي السياسية التي كانت تقام بنادي الخرّيجين بأم درمان، حيث يلقي كبار ساسة الأحزاب في تلك الفترة خطبهم السياسية، فاستمعت للخطاب السياسي وخاصة لسياسيّي الحزب الوطني الاتحادي ( الاتحادي الديمقراطي لا حقا) فقد كان والدي منتميا في تلك الفترة لهذا الحزب، قبل أن يتخلّى عنه ويعانق أنصار السنة المحمّدية.... أذكر وأنا صغير أرافق والدي إلى هذه الليالي السياسية.. أن سلّم عليّ أحد أصحابه وسألني عن اسمي فأجبته. وعن جنسيّتي ؟ فقلت له: (جعلي) مستندا إلى قبيلتي.. عند عودتي إلى المنزل وجّهني والدي بأنه إذا سألك أحد عن جنسيّتك فقل له: سوداني.. وإذا ما سألك بعد ذلك من أين في السودان فيمكنك حينها أن تقول: من دار جعل.. أحسست في هذه المحطة الثقافية الكبرى بأن السودان بأكمله وعلى امتداده قد أصبح هو قبيلتي .. وعندما كبرت وازدادت معارفي لم أجد بداخلي خارطة للوطن العربي ولا حدودا سياسية أو جغرافية بل أحسست بأن الوطن العربي الكبير هو وطني وداري وأن العرب هم قبيلتي.. وتدرج بي الأمر فأحس الآن بإنسانيّتي في الرؤية والتفكير والإحساس.. الأمر الذي غرسته بأبنائي..
ومن أهم المحطات التي منحتني وعيا بإمكاناتي وقدراتي إحرازي الترتيب الأوّل في الإلقاء بمسابقة طلابية وأنا في الثانوية.. حيث أجريت على مستوى المعهد العلمي بجميع مستوياته الإعدادي والثانوي والعالي.. وأذكر أن الجائزة كانت مجموعة من دواوين الشعر، من بينها ديوان الشاعر معروف الرصافي..
كما أحرزت الترتيب الأوّل في كتابة الشعر بالجامعة، كان أعضاء هيئة التدريس حكامها ومنهم أمين القسم وقتها الدكتور محمد زغلول سلاّم.. خرجت في تلك القصيدة على عمود الشعر التقليدي، وكانت المرة الأولى التي أكتب فيها بهذا الشكل معلنا انحيازي التام له.. ومنحتها معان بسيطة في مفرداتها ذات أبعاد في دلالاتها أذكر أن مقاطعها كانت تقول:

تعب مرهق
المفصل منّي يتوجّع
والرأس تهشّم وتصدّع
والقلب ينادي
الصدر يضيق
وبذهني أغفو وأفيق
والعرق مع الآخر ينبض يتقطّع..

يارب أنا في الكون وحيد.
أنا لست بلغز..
لكنّ الحيرة نار
لا تعرف للنفس قصيد..
أنا في حيرة
أنا في هذا الجو الصحو مريض

السلسلة الفقريّة والعضلات..
والمفصل منّي والإصبع
الزمن القاهر في النفس تربّع
المرض المزمن ..
والجهل الممهن..
والفقر على الجوّ تسكّع..

لا أدري اليوم أم الساعة
هل تغرب شمسي وتغيب
وأكفّن في ثوب أبيض..
وعلى الصحراء يسبر رمسي
وأوارى أقبر في صمت
ويشاع الخبر المحزن..
أو يكتم...

وهناك صحابي أحبابي
النفس لديهم قد تركع
بحديث حولي يتقطّع
روحي معهم
وعيوني بخلت أن تدمع
لكني أحاول أن أسمع
لأجيب..
فيخون لساني..
ويطير جناني..
والصرخة تدوي كالمدفع
وإذا بغيوم حولي تتدفّق
ورزاز يطل أو "نقنق"
وزهور تزهو..
وخضار يورق
وتعود البسمة من أخرى
بشفاهي ترتع..

ما أهم النشاطات التي قام بها الشاعر أثناء دراسته ، مع تصوير للواقع السائد آنذاك..
• من أهم النشاطات التي قمت بها وأنا طالب في الثانويّة سوى إسهاماتي في الجمعية الأدبية والمهرجانات السنويّة، وخاصة لعب دور في مسرحيّة باللغة الإنجليزيّة.. أذكر أن مرحلة الجامعة كانت ثرّة ومتميّزة وغنيّة، ذلك أن جمعية اللغة العربية التي كنت أترأسها قد أسهمت بشكل كبير في إقامة عدد من الندوات والمؤتمرات والمحاضرات العامّة التي كنّا نستضيف فيها كبار أساتذتنا بجامعتي الخرطوم والقاهرة.. إضافة إلى تأسيسي لجماعة الطلاب الأحرار حين تعرّت أمامي الأحزاب الطلاّبية المنتمية إلى أحزاب رئيسية تعكس داخل الجامعة ما تقرّره تلك الأحزاب في الشؤون السياسية والرؤى الاقتصادية.. وكان المفترض أن لا تكون تابعة وأن تتمتع باستقلالية ولو نسبية لرأي الطلاب الجامعيين الذين يعوّل المجتمع عليهم كثيرا.. وحتى لا يكونوا أبواقا لرؤساء الأحزاب وتكرارا لبياناتهم.. كنت أنادي حينها بأن يكون رأي الطلاّب حرّا نابعاً منهم، تتدارسه الأحزاب بعد ذلك أو يضيء الفكرة لجماهير شعبنا.
أمّا عن الوضع السائد حينها فقد كان مشحونا بالوطنيّة والقوميّة مع التداخل والتواصل الرائع في النضال مع القارة الأفريقية.. بمجمله كان متفتّحا طموحا ، متنوّعا ، ثريّا.. وكان السودانيوّن متسامحين إلى حدّ كبير، يتمتّعون بوعي جعلت هناك حريّة للرأي ومساحة للمعتقد أيّا كان ، فتجدين الإخوة الذين ينتمون لاتجاهات فكريّة متباعدة ومتنافرة يجلسون على مائدة واحدة، ويفصلون بين الاختلاف في الرأي أو المعتقد وبين الود والمحبّة والاحترام الرابط بينهم باعتبار أنّ هذا الاختلاف والتعدّد في الرؤى يثري الحياة ويجعلها أكثر خصوبة..
متى بدأت قريحتك الشعريّة تبدأ بطرح ما فاضت به نفسك؟ وما هي أولى محاولاتك الشعريّة وما مضامينها؟ مع ذكرها لو تكرّمت؟
• أعتقد أنّني بنهاية المرحلة الثانويّة وأنا على أعتاب الجامعة بدأت أمارس كتابة الشعر وقد كان منها الوطني والعاطفي، والذي كنت ألقيه على أصدقائي أو أنشره ببعض المجلاّت والصحف آنذاك.. لا تستحضر ذاكرتي ما كتبت تلك الفترة وربما وجد بعضها في قصاصات بمكتبتي بالسودان.. لكن الذي أذكره أنّ أوّل بيتين كتبتهما وأنا في المرحلة الثانويّة تقولان:

قضيت العمر لا أشكو سوى حظّي يميت بمـــهــــده أمـــــلي ويفـــــنــــيني
فلا أدري أأبكي الحظّ في صمــتي أم الحظ الذي أشكو سيبكيني

ما هي الحكومات أو الأحزاب التي عاصرها وعاش في ظلّها الشاعر؟ وما مدى رضاه عنها؟ وهل كان شعره في الرفض والتمرّد ناجم عن عدم رضا بكل الحكومات التي عاصرها؟ وإلا فما البديل الذي يقترحه؟
• لقد أجبت عن هذا السؤال في كتابي" السودان الثورة من النفق إلى الأفق" حيث أوضحت تعدّد وتعاقب الحكومات في السودان بدءا من الاستقلال عام1956 والحكومة الحزبية الأولى بقيادة إسماعيل الأزهري، ثمّ عبدالله خليل ثم الانقلاب العسكري للفريق إبراهيم عبّود في 17 نوفمبر 1958 وحتى أكتوبر 1964 حيث تفجرت في الحادي والعشرين منه ثورة أكتوبر الشعبية..بعدها جاءت حكومة انتقالية كان رئيس وزرائها " سر الختم الخليفة" ثم جاءت الحكومة الحزبية عبر الانتخابات وتسلم محمد أحمد محجوب عن حزب الأمّة ثم الصادق المهدي ، إلى أن استولى على الحكم جعفر محمد نميري في 25 . مايو . 1969 .عبر انقلاب عسكري.. استمرّ حكمه إلى أن تمّ إسقاطه في 1985 تولّى الحكم بعده الفريق سوار الذهب والذي وعد أن تكون فترة حكمه لمدّة عام انتقالي، ولم يمض العام حتى أجريت الانتخابات، وجاءت الأحزاب مرّة أخرى لتستأنف حكمها.. وكان الصادق المهدي رئيسا للوزراء بتحالفه مع الجبهة الإسلاميّة(حسن الترابي) ثم فك الائتلاف والتحالف مع الاتحادي الديمقراطي.. ولم يصل 30 يونيو 1989 حتى استولى على الحكم الفريق عمر أحمد البشير وفق توجه إسلامي سانده في البدء (حسن الترابي) ثم انفصل عنه.. ولا يزال عمر البشير رئيسا للسودان.
تلاحظين أزمة الحكم التي تعاقبت من خلالها أكثر من ثمان أنظمة سوى الانقلابات التي تمّ إجهاضها أو كشفها ومحاكمة القائمين بها.. أين السودان من كل ذلك.. إنها السلطة والصراع عليها.. يمكن أن تكون كتاباتي ومقالاتي أكثر تعبيرا عن رفضي لعدم الاستقرار السياسي سواء في صحيفة الثورة الشعبية أو من خلال المجلّة التي قمت بإصدارها " مجلة العقل الجماعي " والتي تنبأت فيها بوصول العسكر مرّة أخرى إلى السلطة من خلال الممارسات الحزبية ولعبة السياسيين بمقدّرات البلاد.. ولقد أشرت إلى ذلك في بعض قصائدي ، ولكن الرفض الذي تتسم به أعمالي أحسّ بأنه أكبر من ساحة السودان، حيث تجذّرت فييّ الروح القوميّ منذ زمن، وأضحى الرفض للتجزئة والتشرذم والدويلات القزمية والحدود أكبر مساحة في أعمالي.. وقد أشرت إلى أزمة الحكم في السودان في قصيدة " أمام عدالة الوطن" بديوان " الدموع المحال" فذكرت في "اللّوحة" :

كان التاريخ يسطّر آخر حرف.
كان سيكتب ....
كان سيكتب...
كان سيكتب..
كان المشهد لمّــا..
كان سيكتب
كان المشهد لمّـا..
الحزب تحزّب
فيك تعصّب
لمّــا العسكر فيك تنصّب..
لمّـا الطفل تعذّب...
لمّــا صرت اللعبة بالحزبيّة "أو لب لب" .
لمـا صرت الّلعبة
بين العسكر والحزبيّة
"أو لب لب"
لما صرت اللعبة
بين المجلس والجمعيّة
"أو لب لب"
لمّا صرت اللعبة
كلّ صباح " شد واركب"
كان التاريخ يسطّر آخر حرف
كان سيكتب..
كان سيكتب
كان المشهد لما كان سيكتب
كان المشهد فيك نذيري.. .

هل كانت العائلة الأولى مؤثرة بشكل أو بآخر في شخصيّة الشاعر؟ ومن هو أهم شخص كان له الأثر الكبير في ذلك؟ .
• لقد نشأت في عائلة كبيرة بها الكثير من الود والحب، واحترام أعضائها، لا أذكر مطلقا أن نشأت مشادّة أو شجار بين الإخوة والأخوات ولا علا صوت أحدهم على الآخر.. هذا المناخ المليء بالمشاعر والعطف والمحبّة والحنان، هو الذي نشأت فيه فكان مؤثرا فيّ بشكل كبير.. حيث لا أذكر مطلقا منذ طفولتي وحتى الآن أن امتدّت يدى على أحد ولا امتدّت يد أحد عليّ ( اللهمّ إلاّ ما واجهته داخل المعتقل في العام 1992) ولقد وعيت لأسلوب انتقاء الأقران منذ الصغر.... تأثرت كثيرا بشخصيّة والدي وحكمته (رحمه الله) وكنت ولا أزال معجبا بها، شاكرا لها أسلوبها في التربية.. والجميع يشهد بذلك.. أذكر أنه كان يصطحبني إلى دور العرض(السينما) لحضور بعض الأفلام التي غالبا ما يكون قد شاهدها في اليوم السابق.. ووجد فيها العظة والعبرة والفائدة التي يمكن أن أحصل عليها.. إضافة إلى أنه لم يكن قاسيا، بل كان مشجّعا لي على الدوام .. مستمعا لي ومحاورا كما أسلفت..
ما هي الدواوين التي شغف بها الشاعر وكان مداوما على قراءتها..؟
• كل الشعراء كانوا أهلي وأسرتي وقبيلتي .. منذ مرحلة الثانويّة وحتى الآن بدءا من شوقي وحافظ والبارودي والرصافي والجواهري وحتى درويش وسميح القاسم وأدونيس والفيتوري وعبد الصبور والبيّاتي ونزار(قائد الثورة الاجتماعيّة قبل67 والسياسيّة بعدها) ومظفّر النواب وأمل وغيرهم. كل حديقة الشعر كنت أتجوّل فيها على الدوام وأختار كلّ يوم ركنا قصيّا فيها مع أحدهم..
ما هي أهم الكتب التي كان يحرص الشاعر على قراءتها واقتنائها؟ وهل كانت له القدرة على توفير كل الكتب التي يرغب فيها( الحالة الاجتماعيّة في ذلك الوقت)..
• لقد كانت الكتب هي طعامي وشرابي، وكنت وحتى الآن أحرص على أن يكون مخزوني منها كبيرا، تعلّقت بالكتاب منذ طفولتي، وأسّست مكتبتي الخاصّة منذ وعيت القراءة في المرحلة الأوّلية(الابتدائيّة) وأذكر أولى القصص التي تعلّمت القراءة فيها قصّة بعنوان (غابة الشياطين) .. استهوتني القراءة واقتناء الكتب بشكل أكبر بعد أن تمّ تشجيعي عند الفوز في كل مسابقة بمجموعة من الكتب ودواوين الشعر خاصّة.. حرصت على مكتبتي التي فاقت عند تخرّجي من الجامعة الخمسة آلاف عنوان .. لم يكن في زمننا آلات تصوير .. أذكر أنّ كتابا هامّا كنت بحاجة إليه وكان نسخة وحيدة لدى أستاذي في الجامعة وكان مسافرا اليوم التالي.. أذكر أنني استعرته ليوم واحد وعكفت على نسخه بخط اليد دون أن يعتريني النعاس ولو للحظة حتى أتمكن من إعادته لأستاذي في اليوم التالي.. أضيفي إلى ذلك أن الكتب في تلك الفترة كانت زهيدة الثمن.. ووظفت كل رحلاتي إلى القاهرة لشراء أكبر عدد من مكتباته وخاصة سوق الأزبكيّة المشهور.. الحالة الاجتماعيّة من حيث الناحية الاجتماعيّة كانت متوسطة كبقيّة أفراد الشعب السوداني.. حيث لم تكن هناك طبقيّة بين الثراء والفقر.. الجميع كان وسطا.. لذلك دائما ما أعزو إلى ذلك هذه الروح الطيّبة الإيجابية لدي السودانيين..
من هم أهم الشعراء الذين تأثّرت بشعرهم وسار على منوالهم؟
• جميعهم.. لم أتخيّر نمطا معيّنا لدى شاعر لأقتفيه أو أسير على منواله ، هذا دوركم كدارسين على تبصيري بذلك، ولكنّي وجدت نفسي أكتب بهذا الّلون من الكتابة ، ربّما تأثرت ولكنني لا أعرف حقيقة بمن، لقد كانت حديقة الشعر بالنسبة لي من أجمل المنتزهات التي أقضي فيها معظم وقتي.. فأنا لم أمارس الّلعب مع الأقران، ولا أذكر مطلقا أنّني لعبت حتى كرة القدم، التي تستهوي الجميع، مستعيضا عنها برياضة المشي.
هل كان للبنية السائدة تأثير على الشاعر؟ أم أنه متمرّد على البنية وعلى ما هو سائد.. وهل تعترف بالحدود الجغرافية التي تحول بين أبناء الأمّة الواحدة ذات الدين واللغة والعرق الواحد..؟
• كنت منذ نشأتي متأملا في عالم البشر رافضا متمرّدا لكثير من أوجه الحياة، معبّرا حينها عن رفضي بعدم التزامي بالهندام أو المظهر الخارجي الذي يقاس به مدى وعي أو تحضّر المرء من عدمه، حيث ما كان الشكل يشكّل عندي مقياسا قدر اهتمامي بالجوهر وما يحمله المرء من فكر وقيم.. وكنت قبل أن ألتقط أداة التعبير باللغة أمارس الرفض بإطالة الشعر وعدم حلاقته(حيث كنت أحلق شعر رأسي مرّتين في العام) رافضا تسليم رأسي طواعية لحلاّق يعبث به كما يشاء وأطيعه في الاتجاهات التي يريد.. كما كنت أرتدي من الملابس ما يتوافق معي لا ما تقرّه الموضة أو ما توفّره الأسواق.. وفوق ذلك كان الحوار مستمرّا مع أصدقائي المقرّبين ومع والدي حول العديد من العادات والأعراف والتقاليد التي بليت ولا أرى مبرّرا لالتزامها، حيث لم يعد العصر عصرها كما أرى .. من ذلك ختان البنات (من أجل المحافظة على الشرف) وهي عادة وردت إلينا من مصر (الختان الفرعوني) ومن ثم يتم حرمان البنت من أبسط حقوقها.. كما دافعت عن حريّة المرأة كثيرا..وأوضحت لهم أن الشرف لا يقاس ولا يستجلب بحبس البنت في المنزل بل يقاس عندما يسمح لها بالاختلاط وممارسة الحياة العصريّة بمدى محافظتها على نفسها.. أمّا السجينة فلا يمكن قياس شرفها بحبسها.. إلى جانب الكثير من القضايا كالمجاملات الاجتماعيّة والتي تخلو من المشاركة الوجدانية، حيث يشوبها الكثير من النفاق الاجتماعي.. وهكذا..
وفي الجانب الديني استفزّني كثيرا الجانب الشكلي للدين وممارسة هذه الطقوس والشعائر دون أن يكون مردودها عمليّا في الممارسة والمعاملة(فالدين المعاملة) فكون الناس يهتمون بالعبادات دون أن تؤثر في المعاملات، ذلك يعني أن هذا الجانب غير نابع عن إيمان عميق، وأنه مجرد أداء واجب بالحركات التي كان ينبغي أن تقود إلى السماحة في المعاملات من صدق وأمانة ومعاملة طيّبة وابتسامة في وجه الآخر، بل وحب الآخر كما يحب الإنسان نفسه.. أما عن الجانب السياسي فقد تطرقت لذلك في سؤال سابق ، أضيف هنا أنه لم يستهوني حزب من الأحزاب، ولا كان مقنعا بالنسبة لي هذا التمزّق والشتات في الصراع على السلطة، علما بأن الأحزاب الكبيرة كانت متكئة على البيوت الطائفيّة (بيت المهدي) و (بيت الميرغني).
وعن الهم القومي فقد كنت أحمله مع كثير من القوميين منذ تفجر الثورة الناصريّة داعيا لوحدة السودان ولوحدة الأمّة العربية، فالفرقة والشتات ما هي إلاّ وسيلة من وسائل الضعف الذي يستهدفها المستعمر للنيل من أصالة الأمم والشعوب.. وكانت هزيمة 67 إحدى أهم المحطات التي استوقفتني وهزّتني من الأعماق كغيري من شباب الأمّة العربيّة.. وقبلها كان مقتل لوممبا وقبله كان العدوان الثلاثي على مصر في56..
كما كانت لقاءاتنا ومنتدياتنا والمقاهي التي نرتادها بأمدرمان هي خبزنا اليومي( بمقهى يوسف الفكي) أو مقهى (جورج مشرقي) بأم درمان أو مقهى المحطة الوسطى بالخرطوم. كل ذلك لم يحل دون تحصيلي العلمي، بل كان جزءا أساسيا من التساؤلات والمحاكمات التي تقفز داعمة لرفضي لأسلوب مجتمع تقيّده الطائفية وتحاصره الأمّية، وتلتف حول عنقه الأعراف والتقاليد والعادات.. صحيح أن به الكثير من القيم الرائعة ولكن الجانب الشكلي للتعامل كان يثير فيّ امتعاضا ورفضا داعيا إلى التعامل بصدق مع الذات ومع الآخر.. وحين امتلكت أداة التعبير هالني أن أجد فروقا جوهريّة كبيرة بين المفردة ودلالاتها العميقة ، واستخدامها السطحي، وجدت أن العمق في المفردة لا يتناسب وضحالة المعنى المستخدم، بل في كثير من الأحايين كنت أجد المفردة وقد تآكلت من كثرة الاستخدام غير الصادق لها فأبحث عن البديل.. ورغم أن رسالة الماجستير كانت حول المدارس العروضيّة في الشعر العربي ودراسة بحور الشعر العربي ، إلاّ أنني لم أجد نفسي أو إيقاعي الداخلي منسجما مع هذه الإيقاعات، فإذا بي ألوذ بشعر التفعيلة وأحيانا بحرية أكبر ليمنحني مساحة لنفَسِي الداخلي وإيقاع العصر..
شخصيتك الداخليةّ التي لا يعرفها أحد، من تكون؟
• شخصيّة طبيعيّة، لها نهجها في الحياة، وأسلوبها وفلسفتها.. كثيرون يعرفونني كل من جانب محدّد.... لقد مارست التعليم منذ العام1967 بعد تخرّجي من الجامعة، سواء في السودان أو في ليبيا بمختلف مراحله.. فهناك أجيال على مدى الأربعين عاما الماضية يعرفونني معلما.. كما مارست دوري عبر الإعلام المسموع والمكتوب، فهناك الكثير ممّن يعرفني إعلاميا.. وشاركت في العديد من الندوات والمؤتمرات العلميّة فتعرّفوا عليّ باحثا.. وهناك من اضطلع على كتبي فتعرّف عليّ كاتبا.. وهناك من قرأ لي أو استمع للنصوص الشعريّة من خلال المطبوع أو الأمسيات والأصبوحات الشعريّة .. فتعرّف عليّ شاعرا.. إضافة إلى أنّ هناك من تعرّف عليّ عن قرب من الأصدقاء والإخوة فعرفني إنسانا من خلال تعاملي معه ومع الآخرين. لكن الإنسان بداخلي، فقد ابتنيت له عوالم، حمل جزءا كبيرا منها النص الشعري.. فهي:

عوالمي التي ابتنيتها بداخلي
عوالم لا دار فيها.. لا أبواب .. لا خفر..
مساحة للعطر والمطر..
وساحة للحب لا خداع لا كدر..
وبسمة كالشمس في إشراقها
ونسمة ونغمة بلا وتر
عوالمي.. هي جنّتي الصغرى التي خلقتها..
ابتنيتها
المعاصي روضتي..
والضلال بحبره السرّي صفحتي..
يحميني.. ينشرني.. ويطويني.. ويكفيني..
ويمنحني هدوء السطح للبحر..
وأعماقي تعجّ تصطخب..
بما يجري أمام العين..
من عالم بلا نجوم، بلا قمر..
عالم أشجاره بلا ثمر..
عالم البشر
عالم النميمة الحمقاء والأحقاد والنفاق..
والهموم والسموم .. والكدر..
عالم البشر أشجاره بلا ثمر..

هل تحرّرت من القيود ، وانسلخت من التقاليد وتمرّدت بالشكل الذي تريد؟ أم أنّ هناك ما يحول دونك وتحقيق ذلك؟ بمعنى هل أنت راض عن هذا الشكل الواضح في شعرك أم أن ما خفي كان أعظم؟
• الشاعر أو المبدع عموما هو شخص تيسّر له تجاوز البنية السائدة، والتمرّد عليها إمّا بحكم رتابتها أو تدنّي فاعليتها أو لاستشرافه لأبعاد يحس بضيق المساحة التي تحكمه وتتحكّم فيه وبه فيما هو سائد وواقع ، ومن ثم أمكن تفعيل بنية وعي أخرى لديه..أمّا عن القيود والانسلاخ من التقاليد فأحب أن أوضّح أن الانسلاخ من التقاليد البالية وليست أيّ تقاليد.. التقاليد التي لا تنسجم وروح العصر.. فالتمرّد عليها يصبح قضيّة وجوديّة لإثبات الذات..

أمّا القيود فما أقساها حين تتعلّق بقيم إنسانية من صدق وحب وشفافية وأمانة وتوحّد مع الذات... الغالبية يتفقون معها لكن البنية المتحكّمة في هذه الغالبية تحول بينهم والالتزام بها ولا تسمح لهم بالتواؤم معها ولا بتطبيقها.. لكنني لا أودّ الهروب من واقع، وإن كان يجرح العين، إلاّ أنني في الوقت ذاته لن يفرض عليّ مسايرته بالكامل.. أحسّ بالغربة بين الناس.. ولكن كما قلت سابقا أخلق عالمي الخاص وأحتمي به، وأعبّر عن معاناتي وعن غربتي عبر الحرف أيضا في حدود لا أجرح فيها الآخر ولا أفرض عليه رؤيتي وأفكاري في ذات الوقت.. ما أكتبه إلى حد مّا أحسّ بأنّ فيه ما يمكن أن تسمح به البنية ، وبه ما تجرّمه وتدينه.. أمّا أبعد من ذلك فلن يستطيع أيّ فرد إلاّ إذا هاجر عن مجتمعه وهجره بكامله.. ومع ذلك أفضّل أن أكون مغتربا في وطني متحمّلا آلام (القولون).. عن أن أكون غريبا عنه بعيدا عن هوائه وأجوائه.
هل تعتبر الشعر المتنفّس الوحيد الذي تستطيع من خلاله أن تعبّر عن رفضك ، وتمرّدك تجاه ما تؤمن به البنية السائدة؟.
• بالتأكيد لا .. ولكنه الأقرب إلى نفسي كأداة أودعها روحي وفكري ورؤيتي حتى لو جرت على جسدي من خلال تكثيف المعاني.. فهناك الحوار.. وهناك المقالات.. وهناك الدراسات والأوراق البحثية وأساليب تحليل النصوص.. وهناك ما هو أبعد من ذلك وهو الممارسة الفعليّة للحياة.. فكثيرون يشيدون بنهجي وأسلوبي وكيفيّة تعاملي مع الآخرين.. وهذا السلوك هو رسالة أقوى تأثيرا لكنها في إطار المحيط الذي أنت فيه.. أمّا النص الشعري فهو رسالة أعم لأنها ترتحل عبر الطابعة والكتاب إلى مساحات أخرى بل وأزمنة أخرى كذلك..
ما هو سبب خروجك من وطنك الأم السودان ؟ إلى وطنك الأم ليبيا.. واختيارك لها موطنا ومقرّا دائما..
• ما أكثر ما يد فع أبنا الوطن للهجرة .. وخاصة حين تمارس البنية السياسية العسف والجور والظلم.. تلك كانت فترة (الجنرال جعفر النميري) الذي لم يستقر طيلة فترة حكمه على مبدأ، والذي رهن السودان للولايات المتحدة الأمريكيّة.. والذي قام بترحيل الفلاشا من أثيوبيا إلى الكيان الصهيوني.. في وقت بدأ حياته في السلطة اشتراكيا.. وعروبيا.. ثمّ أمريكيّا وأخيرا إسلاميا حينما لم يجد من سبيل للبقاء في السلطة إلاّ أن يتخذ الإسلام عباءة له.. ومثل هذا التنقّل يهزّ كيان المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.. ولا يمنح الدولة الاستقرار السياسي اللازم لتعزيز ثقة العالم به..
حين خرجت إلى ليبيا أوّل الأمر أعانني بعض الإخوة ليكون خروجي إليها طبيعيّا(منتدبا من وزارة التربية والتعليم) للتدريس بها.. ولم يمض عام واحد حتى ساءت العلاقات بين النميري وبين ليبيا .. فطلب منّا طلبا أعتقد أنه كان طفوليا، ولا ينسجم مع أخلاقياتنا.. طلب من جميع المدرّسين في ليبيا قطع انتدابهم والعودة فورا إلى السودان، وكان الطلب مصحوبا بالتهديد من عرضة للمساءلة أو غير ذلك.. كان الأمر مضحكا .. فأنا ملتزم بتدريس طلاّب وفي أثناء العام الدراسي، حيث لا يعقل مطلقا أن أقطع تدريسي وأعود إلى السودان نتيجة موقفه السياسي.. رفضت العودة ، فكان نتيجة ذلك أن أصبح اسمي ضمن قائمة صدر عليها قرار جمهوري (ولا يسمح لذويهم اللحاق بهم) ثمّ هدّد بسحب الجنسيّة.. فلم أستجب.. حتى عندما قرّرت الارتباط بقرينة، تمت المراسيم بالسودان، ومنعت الزوجة من السفر للّحاق بي، مما اضطرها للسفر كطالبة إلى أثينا (حيث كان شقيقي يدرس هناك) ومن أثينا التحقت بي عام1977 .. وظلّت وفيّة معي صابرة على بعدها عن الأهل في السودان حتى سقوط نظام جعفر نميري في1985 ..
وكان موطني الأم ليبيا حقيقة حيث أصبح أهلها أهلي وشعبها شعبي وأصدقائي وأحبّتي وطلاّبي ..جزءا أساسيا في حياتي .. لم أشعر بغربة مطلقا ولم تتجسد بدواخلي الحدود والفواصل.. اللهم إلاّ حين يتعامل معك من بداخله هذه الحدود وتلك الفواصل.. عندها فقط أتذكّر أنّ مسقط رأسي السودان وأنني فعلا قادم منه.. والحمد لله لم أصادف مثل هؤلاء كثيرا، وإن كانوا موجودين.. لذلك أضحت ليبيا موطنا ومقرّا وبلدا لا أقول ثانيا.. فقد عشت بها من السنوات كما عشت في السودان، وإذا كانت أيام الطفولة وذكريات الصبا وتلقّي العلم والمعرفة في السودان ، فقد كان وجودي بالجماهيرية يشكل مرحلة العطاء والعمل الصادق الدؤوب ، بكل ما تعني كلمة الصدق من معنى، وما تحمل من دلالة.. سواء في مجال التعليم العام.. أو في مجال الإعلام.. أو في مجال التعليم العالي..

ما تأثير وسام الفاتح العظيم للإبداع من الدرجة الأولى الذي منحك إيّاه الأخ قائد الثورة في العام 1989 (العيد العشرين لثورة الفاتح العظيم) تقديرا لما بذلته بصدق وعطائك اللامحدود.. وإبداعك الذي لا يعترف بالتجزئة؟.
• حين تمّ منحي وسام الفاتح العظيم .. كنت في السودان محظورا عن السفر خارج السودان، رغم الدعوة التي قدّمت لي لحضور احتفالات العيد العشرين لثورة الفاتح العظيم .. كان ذلك بعد استلام العسكر مرة أخرى السلطة في السودان ببضعة أشهر.. تم في العيد العشرين لثورة الفاتح العظيم إعلاني ضمن المكرّمين في الوقت الذي عملت فيه بعد إغلاق مجلّتي (العقل الجماعي) والتي كنت رئيس تحريرها وصاحب امتيازها..عملت (سائق سيّارة أجرة) لمدة عامين استطعت أن أقرأ الشارع السوداني بعمق..
وعندما تمّ إبلاغي بأنّني مدعوّ بقاعة الصداقة بالخرطوم من قبل المكتب الشعبي لتوسيمي بوسام الفاتح العظيم.. ذهبت معتدّا وفخورا بهذا الاحتفاء، وهذا الوفاء والتقدير.. وأمام بعض من أعضاء مجلس قيادة الثورة الجديدة، وبعض الوزراء وحشد كبير من الضيوف تمّ توسيمي وكان رسول الأخ القائد (جمعة الفزّاني) الأمين السابق للمكتب الشعبي بالخرطوم حيث قام بتوسيمي بنفسه.. ألقيت وقتها قصيدتي (أمام عدالة الوطن) معلنا انحياز الحرف للجماهير، . حفر هذا التكريم في نفسي عميقا حين أدركت أنّ في هذه الأمّة من الأوفياء من يرعى المبدعين ويكرّم عشّاق الحرف.. كما أسعد هذا التكريم الكثير من جماهير الشعب السوداني معتزّين فخورين وخاصّة الأهل والأسرة الممتدّة والأصدقاء والأحباب الكثر.... لقد كان التكريم مصداقا لما أنادي به من دعوة للتوحّد ومحو لخارطة التجزئة والحدود المرسومة في دواخلنا..

ما مدى تغنّي الشاعر بالحب والحرّية والطبيعة ، وهيامه بالمناظر الجميلة .. المتحرّكة منها والثابتة؟
• ما من شاعر أو مبدع إلاّ وعشق الحريّة وأحبّ محبّة مطلقة للأرض وساكنيها.. فقد كانت مساحة التأمّل للطبيعة كبيرة وملهمة .. من ماء النيل .. وملتقى النيلين.. وشلالات النيل.. وأراض خصبة خضراء على مد البصر.. من بحر أحمر إلى جبال التاكا.. إلى بحر أبيض.. ومن صحراء تعانق الأفق.. وجبال تعانق السماء.. إلى بشر يملؤون الأرض حيويّة ويعمّرونها بفاعليّة.. وحين تختزن هذه الطبيعة تصبح زادا للشاعر يستدعيها متى شاء وأين كان.. ويعايشها بمشاعره وتشكل نسيج الجمال في وعيه الثقافي فيصبح أكثر خصوبة من الأرض.. ولكن الهجير الذي يلتقيه خلال مسار حياته لا مهرب له منه إلاّ باستدعاء غيمة تظلّله أو من يقوم مقامها.. أو أن يجد واحة يركن إليها أو من يقوم مقامها كذلك.. هذا إضافة إلى مخزون الذكريات من طفولة وصبا وشباب ومراحل تعليميّة ومرحلة عمليّة وتنقل وسفر إلى غير ذلك مما يشكل معرفة له ممتدة عبر الوجود..

• ما هي اهتماماتك ونظرتك للفن والجمال والحب .. المرأة ، الروح، المادة، عيوب الفن، الكتاب ، الإبداع ، الاغتراب..؟
• يحتاج الإنسان ليتحدّث طويلا حول هذه الموضوعات، وأحسب أنه لا يتسع المجال لذلك، ولكن بإيجاز آمل أن لا يكون مخلاً أقول: الفن لوحة مشرقة من الوجود وروح تتسلّل عبر مسام هذه الحياة لنحيا بها، إنه الواحة التي يحتمي بها الإنسان من قيظ الهاجرة، والغيمة التي تتبعه فتظلّله من هجير الحياة الحارق. إن الإنسان يبدع الفن ليحيا به.. أما الجمال فهو انعكاس الرحمة الإلهيّة نثرها في الكون، والحاسة الجمالية الكامنة في الإنسان يتلمس بها هذه الرحمة لتشكل له راحة نفسية يعيش بها ولها ومن أجلها.. .. أمّا الحب فهو انتصار الحياة على الموت.. الحركة علي السكون.
وهنا يستحضرني قول أحدهم:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى
فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا
والمرأة هي هذا الكائن الذي يعادل الغيمة .. والنسمة .. والبسمة.. أحبّها وأشفق عليها لما تعانيه في مجتمعاتنا، وأعطف عليها من ظلم وقع عليها دهورا، في ظل الصراع المستمر للبشريّة حول السلطة والقوامة.. ودائما ما تجدينني أحرّضها لتكون قويّة رغم رقّتها وشجاعة رغم أنوثتها، وحرّة رغم طغيان الرجل عليها وإنسانة قبل أن تكون أنثى..

شكرا لك على هذه المساحة التي سمحت لنا فيها أن نتجوّل عبر فضاءاتك الداخليّة ، وأرائك ومساحاتك الحياتيّة التي يعدّ الحرف الصادر عنك أحد نتاجاتها .. لك التحيّة في الختام..


.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق