الأحد، 15 نوفمبر 2009

سيرة حياة
مجلّة العقل الجماعي
التي أردتُ لها أن تكون منبرا
لكلّ الأقلام الشابّة ومشعلا لحرية التعبير
فانطفأت في 30 يونيو1989




عدت بعد غربتي الأولى 75-1987 إلى السودان حاملا الهمّ الثقافي الذي كنت أعيشه في وطني قبل الاغتراب، وبدلا من أن أستثمر حصيلتي الماديّة في شراء منزل أو عمل مشروع ربحي، آثرت أن أنشئ مجلّة العقل الجماعي لإثراء الساحة الثقافيّة في السودان وفتح آفاق للكلمة لتؤدّي دورها، وجاهدت بمشقّة لاستصدار التراخيص المطلوبة.. وبمدينة بحري كان المقر الرئيسي.. شارع السيّد على الميرغني.. استقطبت لها عددا من المحرّرين الشباب وقسما فنيا للتصميم، وقسما للطباعة، وإدارة لتسيير مهامها. وذلك بعد التأثيث الكامل للمقر بكل ما يحتاج إليه من مكاتب وآلات طباعة وأدوات تحتاجها أيّ صحيفة أو مجلّة، مع أرشيف كامل للصحف المحليّة والعالميّة وأرشيف للصور وغير ذلك.....
. وبما أني لا أنتمي إلاّ للوطن، وصوتي أغلى من أن يحتويه صندوق انتخاب جامد، فقد عزف رجال الأعمال المنتمون إلى الأحزاب التي تؤمّن لهم مصالحهم ردّا للجميل والدعم ، عزف رجال الأعمال عن تزويد المجلّة بالإعلانات التي كان من شأنها أن تؤمّن لها استمراريتها بشكل مريح نوعا ما. لم يؤثر ذلك في إرادتي فقد عزمت على مواصلة التحدّي، وأعلنت عن قرب صدورها بتلفزيون جمهورية السودان، وكان أن صدرت في موعدها المحدّد، السبت 2 يوليو 1988 مجلّة أسبوعيّة، تصدر نصف شهريّة مؤقتا.. سياسيّة ثقافيّة اجتماعيّة مستقلّة..
باشرت فيها مهامّي صاحب الامتياز ورئيس التحرير.. أطلّ المولود الجديد إلى عالم الحياة الثقافيّة بالسودان، ووجد ترحيبا كبيرا بادئ الأمر، وتدفّقت المقالات والمساهمات والأفكار والآراء من عدد كبير من الكتاب الشباب حينها..



وكانت المفاجأة أن بدأت بعض الجهات في محاربة المجلّة خاصّة تلك القابضة على التوزيع، وفوجئت بأن المجلّة توزّع في أطراف المدن وليس بمراكز التوزيع في المناطق ذات الكثافة السكانيّة في الخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري. ناهيك عن إهمال الأقاليم بالكامل..
إزاء هذا التحدّي الذي واجهته المجلّة الوليدة قمت بالتصديق من جهات الاختصاص بإنشاء دار للنشر والتوزيع ..خاصة لتأمين توزيع المجلّة بالشكل المطلوب.. وعيّنت بعض الموظفين في قسم التوزيع الذين باشروا عملهم وفق خارطة أماكن بيع الصحف والمجلات على امتداد العاصمة المثلثة والأقاليم المختلفة.
لقد كانت معاناة تحملتها وحدي وكنت سعيدا بها خاصة وأنه لم يقم أيّ فرد أو أيّة جهة أو مؤسّسة بدعمي أو إسنادي أو مد يد العون لي لا بالإعلان ولا بغيره..


استمرّ صدور المجلّة، فتحت لها منفذا للتوزيع خارج السودان في كل من تونس وليبيا ومصر، ولكن قبل إرسال الكميّة من الإصدار الأخير كانت الموسيقى العسكريّة تصدح في جهاز إذاعة أم درمان المسموعة ، وفي تلفاز جمهوريّة السودان ، وكان 30 يونيو 1989.
أقفلت جميع دور الصحف، فما من انقلاب عسكري إلا ويضع يده على منابر الكلمة دار الإذاعة والصحف، حتى يتمتع هو بكلمة السلطة.. أمّا سلطة الكلمة فهي العدو الأوّل للأنظمة السياسية الاستبداديّة دائما، وهو صراع تاريخي يعرفه الجميع.
وجّهت لي الدعوة من المكتب الشعبي الليبي بالخرطوم لحضور احتفالات العيد العشرين لثورة الفاتح العظيم ففوجئت بحظري من السفر.. لم يتبقّ لي سوى سيارة "تروبر" كنت أستخدمها في توزيع المجلّة.. قمت ببيعها وشراء سيارة صغيرة.. دفعت بها إلى الترخيص كسيارة أجرة، وعملت سائق تاكسي لمدّة عامين قرأت فيهما الشارع السوداني بأدقّ تفاصيله.. وكنت أتمنى لو أكملت كتابي " يوميات سائق تاكسي" الذي حالت الظروف دون أن يتحقّق. إلى أن سمح لي بالسفر بعد أن تلقيت دعوة من جامعة ناصر للتحكيم في مسابقة سنويّة درجت على إقامتها للطلاب من كل الجامعات العربيّة في فنون القول والبحث والعلوم والفنون. سُمح لي بالسفر.. وكان بعد المسابقة أن ساهمت في بعض المهرجانات والمنتديات الثقافية ، فاحتوتني جامعة التحدّي سرت.. عندها بدأت رحلة غربتي الثانية، حيث تخرّجت على يدي أجيال من الشباب الليبي التوّاق للمعرفة والذي أعتزّ به كثيرا... استوعبني محراب العلم والمعرفة منذ العام 1991 وحتى الآن..
.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق