قراءة[الكوني] في ديوان النثر البري
عبد الرؤوف بابكر السيد
الأستاذ المشارك .. كلية الآداب .. جامعة التحدّي
(تمّت المشاركة بها في ندوة حول (أدب الصحراء) التي عقدت بجامعة سبها في 26. 11. 2005 )
مقدمة:
الصحراء .. هذا العملاق القابع في وسط القارّة ، ليس أرضا خلاء ، بل لها أهلها وساكنوها ومبدعوها .. شكلت منذ القدم حلقة وصل بين شمال القارة وجنوبها .. مهيبة رهيبة ، مرعبة لمن لم يعشها أو يعايشها ، استعصت قراءتها على المستفرقين والمستشرقين على السواء، فظنوا أنها عازل وفاصل ، ولم يأبهوا بها كثيرا .. بل عندما شقّت عليهم وكانت طرقها ودروبها لا يعرفها إلاّ أهلها وأبناؤها .. حوّلوا طرق التجارة عنها إلى مسالك أخرى......
. وفي قراءتنا لأدب الصحراء نكون قد وثقنا وكشفنا وأبرزنا للعالم حقيقة واقعنا الذي يجهله أو يتجاهله، وعليه أن يعيد دراساته من جديد حول الأدب الأفريقي الذي يشمل الصحراء ، كما يشمل شمالها وجنوبها. ونكون قد أبرزنا الخصوصيّات الثقافيّة أو السمات والملامح المحلّية . ونكون من جهة أخرى قد ربطنا بين البيئة والأدب برباط وثيق تسندنا نظرية الأدب من أن الإنسان ابن بيئته ، ويدعمنا في القراءة المنهج الاجتماعي من حيث أثر البيئة في الأدب.
لكن دعونا نتساءل أيمكن أن نسقط على كل الصحارى في العالم ما يمكن أن نتوصل إليه من سمات وخصائص؟ أيمكن أن نطلق على الأدب العربي قبل الإسلام بأنه أدب الصحراء؟ ألم يقدم لنا أدب صحراء الجزيرة العربية قبل الإسلام انطباعات حسّية ووصفا خارجيّا للمشهد لا يخرج عن التشبيهات ووصف المنظور الطبيعي في تشابه لم تخرجه عن الملل إلا قراءات النقاد والدارسين؟ هل قدّم لنا أيّ أدب في أيّ صحراء عمقا فكريا ورؤية فلسفيّة للحياة مثل ما قدّمه لنا المبدع (إبراهيم الكوني) عبر مفردته الشاعرة؟
إن الأديب في الصحراء قارئ بامتياز، إنه يحلّل ويقرأ صفحات مكتوبة من إبداع الصحراء. الصحراء هي الأديب والمبدع هو القارئ . الصحراء نص يدعوك لقراءته، فلا يقرؤه إلاّ مبدع، ثم يأتي دورنا نقرأ قراءة المبدع له. إنها لا تكتب أدبها في بنيها بل يقرؤه بنوها قراءة قد ترتقي بها وبالحياة فيها.. وقد تدفن رمالها ما يكتب عنها.
الذي يعرف سرّ الصحراء هو من يبدع في القراءة، فيقدمها لنا . والقراءة فن إبداعيّ تخضع لبنية الوعي التي يحتازها الفرد، بنية الوعي الخلاق وحدها القادرة على القراءة الإبداعيّة. إذا أخذنا بأن المعرفة هي ناتج علاقة الوعي بالوجود، فإن القراءة ناتج علاقة الوعي بالإبداع.
كثيرون ينظرون إلى الصحراء ، إلى هذا الجفاف، هذا العراء ، هذا الموات الذي لا نبت فيه ولا خضرة ولا حياة، فكيف يكون فيها أدبا نابضا ، حيّا ، فاعلا.
سأعرّف أولا ـ وأنا أقرأ أدب الصحراء من خلال (الكوني) في ديوان النثر البرّي(1) ـ بمنهج القراءة الذي انتهجته، ثم التأمل لدى ابن الصحراء ، وعبقرية المكان .. وعمق الرؤى السماويّة في الثنائيّة وثالوث المقابلات .. بعده أتناول معنى الضياع والعزلة والحياة في (الفخ)، وسر كراهيّة أهل الصحراء للشبع واستنطاق الكائنات في العمامة الزرقاء، وأسطورة الصحراء والجمل، ثم الاعتزال والانعتاق والحرّية كقضيّة فكريّة هامّة جدا وشائكة من بين الأعشاب الشوكيّة في هذا النثر البرّي.
ولن أبعد كثيرا وأنا أتلمس الأفق الأفريقي في قراءة (الكوني) واستعباد البنية وأخطار الحرّية وثمنها ، أنتقل أخيرا إلى فاعليّة البنية اللغويّة ، ثم نرتّل سويا بعضا من مقولات الديوان، متلمسين خصائص وسمات أدب البرّية أو أدب الصحراء من خلال هذه القراءة.
منهج القراءة :
لم تعد القراءة الخارجية للنص ولا قصدية المؤلف هي المحور الأساسي للقراءة النقدية المعاصرة ، فالجوهر الذي أعلا من شأن النص ومنحه الأدبية هو تصديره الفاعلية للمتلقي .. والقراءات المتعددة هي التي تكسبه ثراءً وتجعله أكثر خصوبة ..
ففاعلية المبدع وفاعلية النص يتم تلمسها واكتشافها من خلال فاعلية القارئ، والفاعلية هنا تعني البنية التي يحتازها المبدع أو يصدرها النص أو يقرأ من خلالها المتلقي . سواء أكانت بنية وعي تناسلي أو برجوازي وكلتاهما بنيتا وعي قصور أو بنية وعي خلاق وهي بنية مفتوحة يعي الإنسان نفسه من خلالها كائناً محباً ومبدعاً ومعطاءً مهمته أن يثري الحياة بالمعنى الشامل لهذه الفاعلية .
ويتكئ منهج القراءة المستخدم على مقاربة التحليل الفاعلي(2) الذي يعتمد على تركيب لعقل الإنسان من حيث النواة التوليديّة التي تحدد له وعيه بذاته، ومن ثم دوره في هذه الحياة وفاعليّته. حيث تتكون البنية من وجدان (جملة العواطف والمشاعر والقدرة على الحب) وجنان (القدرة على الفهم والاستدلال والتحليل) وذات ( وعي البنية لذاتها) . غير أن هذه البنيات تختلف في وظائفها بناء على طبيعة المرجعيّة النهائيّة لكل بنية . فبنية العقل المغلقة(وجدان مغلق) إذا كان برنامجها للعطاء محدود يقصر عملية الحب والعطاء في دائرة ضيّقة تشمل الشخص وأسرته وربما عشيرته أو طائفته. وتكون بنية العقل مفتوحة إذا كان برنامجها للعطاء مفتوحا يحقق الإثراء الشامل للحياة. في هذا الإطار يعتبر التحليل الفاعلي كلا من بنية الوعي التناسلي ، وبنية الوعي المادّي بنى مغلقة ، وأن البنية المفتوحة الوحيدة هي بنية الوعي الخلاّق. ويخوّل انغلاق بنية العقل إقصاء واستغلال واضطهاد كل من هو خارج الحدود الجغرافيّة لبرامج عطاء البنية. ويتم ذلك عادة بحجة التفوّق الدينى أو اللغوي أو العرقي أو الحضاري .. من خلال الادعاء بامتلاك الحقيقة.(3)
وعي القصور الكامن في التعصب والانحياز للذات وادعاء امتلاك الحقيقة والاستعلاء على الآخر يتجسد في بنية الوعي التناسلي أو البرجوازي في حين أن الوعي المفتوح المنعتق من أسر البنى المغلقة تتألق به بنية الوعي الخلاق لدى الفرد ولدى المجتمع .
وسنحاول من خلال هذه المنهجية المنطلقة من تعريف الإنسان بأنه فاعلية يثري الحياة باحتيازه لإحدى هذه البنى ويعي نفسه والحياة من حوله من خلالها أن نقرأ إحدى نصوص المبدع ( إبراهيم الكوني ) متلمسين الفاعلية بين شخوصه منقبين عن البناء اللغوي والأسلوبي كاشفين عن ( تنازر ) تنازع أو تآزر بنى الوعي ، قارئين لفاعلية النص أكثر من شرحنا لقصدية المؤلف(4) . باعتبار أن النص الأدبي هو بنية فاعلية لغوية تخيلية وهي أخصب وأثرى وأكثر اتساعاً من بنية الفاعلية الواقعية ..
الكوني والتأمل الكوني
حمل الصحراء في قلبه وهاجر بها .. وفاء منه لها وبحثا عن واوها سعى لاختراق مسامها وتطلع لأفقها وجذب عشقا بها فطوع الحرف لها بعد أن أخذه التأمل فنقلها من منفاها إلى العالم .. اختصر الطريق على من هفا قلبه لها .. وأراد أن يقوم بجولة سياحية فيها .. قرأها لهم قراءة أعمق وصورها لهم تصويرا أدق .. فوجدها العالم في ( ديوان النثر البري ) الذي فاق (ديوان الشعر العربي ) وصفا وقراءة ومساءلة وتأملا في أسرارها وسحرها .
زرنا معه المغارات ، ورأينا ما أزاح ( اخنوخن ) عنه التراب والأملاح والطين. وجدنا وجوها محفورة في الحجارة وجموعا محفورة في الصخر وشاهدنا رسوما ملونة لرجال مردة يرتدون أقنعة ، يطاردون حيوانات اختفت من الصحراء ، وخيالات الجن على الحجر .. مخلوقات منحوتة بفن بديع على صخور الكهوف .. وتعرفنا على أعشاب الصحراء وأشجارها وحيواناتها فكانت بحق فردوسا تجري في وديانه سيول خالدة .. اقتربنا كثيرا من خــلال (الكوني) من أهل الباديات .. وأهل الخافيات .
من هنا كانت فاعلية المبدع وهي تتجلى في اكتناه المجهول الصارم .. كوكب الصحراء كوكب آخر له أهله وطبيعته وطقوسه وكائناته الحية منها والجامدة . عالم يجهل العالم ماهيته ويتعامل معه بحذر ورهبة وخوف .. كان سهلا على المبدع وهو ابن من أبناء هذا الكوكب وهذا الفضاء أن يغوص فيه فكرا ووجدانا وأن يترجمه بيانا بكل جلاله ورهبته وقداسته وجماله وامتداده واتساع آفاقه.. وتبدت لنا علاقات الفاعلية في كل شاعرية الديوان من حيث الجدل والحوار والوضوح والأسرار .. الشخوص في نصوصه لم تغفل الضب والودان والغزلان والرتم والثعبان والروابي والكثبان والجن والإنسان والقبلي والسراب والشقاء ،والحكمة والبيان.
مزج ( الكوني ) اللغة الصوفية بالحرف الباحث عن الحقيقة والمعرفة . وتجلى العشق في الوجد الصوفي القارئ للعرفان بلغة الإشراق ..
تلك أهم قسمات هذا الديوان الذي حاور الفناء والشقاء في نغم أسطوري، واختزل الصحراء بوديانها وسهولها وكثبانها ورمالها وواحاتها .. لقد منح الفناء حياة جديدة . إنه ابن الصحراء أبى إلا أن يكون وفيا لها ولكن على طريقته التي كان لابد له فيها أن يفجر قضايا إشكالية فكرية عميقة تتنازر فيها بنى الوعي لدى شخوصه .. بما في في ذلك الضب والودان .
العنوان وعبقرية المكان
تتمثل مفاصل الديوان في الشاعرية النثرية ، والنثرية البرية ، والتأملية الكونية وعالم إبراهيم الكوني .. استحقاقات العنوان تأتي من كونه مليئا بالشاعرية والصور الفنية والمفردات الغنية بالدلالات والتراكيب الحبلى بالثراء الفني ..
العنوان يحمـل عبقرية المكان وفاعلية المبـدع ، فقـد كسر أفق التوقع من مفـردة (ديوان) حينما تمددت فيها مفردة (النثر) غطاء ينتشلها من المألوف ثم كسره مرة أخرى حينما تمددت مفردة (البري) فاكتسب صيغة فنية حاملا جذبا صوفيا وبلاغة بيانية وأسراراً جمالية .. لقد تجاوز به الكوكب الفريد إلى كل الكواكب والأمكنة ليس وصفا فحسب كما هو في ديوان الشعر العربي القديم بل بنية تكوين كوني امتزج مع الطبيعة ليغني وجودا حرا عكسته شخوص الديوان وشخوص الكوكب وكل البشر العاشقين للحرية والفضاء والامتداد . المتمردين على القيد أرضا وعطية وامرأة.
كما حمل الديوان شاعرية النثر الذي ينتثر في البرية كنجومها .. فالشعر كما ورد على لسان العراف الحكيم هو : " لغة المجهول وصوت الحوريات وتميمة الجنيات وشكوى القبلي وسر الترفاس وإيماءة الزهرة في شجر الرتم . وبدون الشعر لا يستطيع الصحراوي أن يقهر السراب المتآمر مع الأفق ..
ها هي عبقرية المكان تترجمها فاعلية المبدع حين يتواصل الموال الشجي الحزين حيث :
يتوقف السراب عن العدو
يتراجع العراء ..
يقبل الأفق ..
تقترب السماء من الأرض ..
ويسكت الكوكب الصحراوي لينصت ..
أما عندما يتوقف الموال فـ :
يهرب العراء من العراء
يتوالد الأفق من الأفق
يركض السراب ويتلاعب بلسان اللؤم والسخرية
تبتعد السماء في الفضاء
وتهرب الصحراء من الصحراء
وتلبس المتاهة قناع القساوسة الصارم .
كما تتجلى عبقرية المكان على امتداد مساحة الديوان ، وهو يقدم الإنسان الصحراوي بفكره وفنه ورؤاه ، بحبه وعشقه ووجده ، فيصف المسـرح بأدق تفاصيله :
فالصحــراء تتمدد
والعراء الفسيح قاس لا ينتهي
والأفق لئيم لا يستسلم
والبرزخ ممدود
والسراب يمد لسانا لعوبا
ـ لا يتوقف عن الغمز والتغنج والإغواء
والخلاء مكابر
والسماء جرداء صارمة
والسحب عزلاء تائهة
لذا كان الصيام عن الكلام ، والمساحات الهائلة من الصمت متاحة للتأمل الغياب في السكون والثبات فوق السرج ، والسفر مشدودا إلى الأفق العنيد غير عابئ بدعابات السراب .
هذه العبقرية التي تجسدت في الصمت والسكون والهدوء والمهابة والجلال والمدى تقاطعت مع فاعلية المبدع الذي طاف وتنقل من كوكبه وبكوكبه إلى كوكب المدن خلال كتابة ديوانه ( الدار البيضاء ـ موسكو ـ ليما سول قبرص ـ طرابلس ـ مالطا ) ليعكس لنا الاختلاف في الكوكب بين الصحراء وأهلها والواحات وسكانها وكيف لسطوة المكان أن تشكل الإنسان وفق لونها وشكلها ومدها وجذرها وفكرها وحرفها حاملا لها بين العواصم والمدن ، عارضا لمعرضه الفني ، قارئا لديوانه البري ..
في الديوان نجد بعض الأشواك البرية التي كفانا الكوني قسوتها حيث حملت مفرداته الشاعرية بذور الحب والعشق لينثرها في الكون كله .. نحب معه الصحراء ويشدنا إلى ساكنيها لنعشق كما يعشقون حياتهم العميقة الواسعة والممتدة في أفكارهم وأساطيرهم وشرائعهم ورؤاهم وإبداعاتهم ..
كما نجد أشواكاً صوفية غرسها في الديوان رابطا بين الصوفية الخروج والصحراوية الخروج والزهد الصوفي والزهد الصحراوي .. من خلال الأرض التي يرفض الصحراوي أن يصبح عبدا لها وعبدا لعطاياها .. والبدن الذي يرفض الصوفي أن يصبح أسيراً له ولغرائزه ..
لذلك شكل الخروج والزهد وعشق الحرية قاسما مشتركا بين الصوفية وأهل الصحراء .. كذا التمرد على ما استقرت عليه عادات الفكر المألوف الأرضي بل وما خطه الشرع السماوي .. فيما يتعلق بالاقتران بالمرأة .
( هذا الوحي السماوي الوحيد الذي على الإنسان أن يكفر به ) وبين شريعة الواحات وعقيدة الصحراء نجد الاختلاف الذي يشكل تقاطع علاقات الفاعلية في النص والحوار الذي يمنحها بعدا للنماء والتفاعل .
الثنائية وثالوث المقابلات في وطن الرؤى السماوية :
يعكس ديوان النثر البري قضية فكرية جامدة وجامحة في الوقت ذاته جمودها يأتي من الثنائية والاختلاف المقابل للحياة والموت ، للتدفق والثبات للحيوية والجماد .. ومن أصوات النطق في الأبجدية وغيرها .. وأما جموحها فقد عالجه الكوني من خلال خطابه للزمن والوطن ومحاورته للأساطير ومعانقته للنصوص الكونية التي تكتب الحياة دون أن يقرأها أحد ..
هذا الجموح للحركة والسكون يأتي من كون الحركة لها دلالتها والسكون نقيضها له دلالته كذلك .. الحياة لها دلالتها وفاعليتها والموت نقيضها له دلالته أيضا . الكلام بحركته له دلالته والصمت بسكونه له دلالته كذلك . فكيف بحركة الصحراوي الدؤوبة ، والتنقل والخـروج والسفر والترحـال والبحث الدائم في الصحـراء عـن ( واو ) البعيدة بعد كانو والأقرب من حبل الوريد. الحركة المتمثلة في الصحراء بدلالتها المليئة بالحيوية والفاعلية والحرية والسكون المتمثل في الواحة المستعمر للأرض والمستعمر منها بما يحمل ذلك من دلالة استقرار وإنتاج وإعمار ..
كلاهما يجعل النص زاخرا بعلاقات الفاعلية .. تلك التي تمددت بين البادية والريف بين القرية والمدينة بين الشرق والغرب .. ورغم بعض التداخل في بنى الوعي الذي فرضه هذا التمازج والتواصل بين البني خاصة تلك البرجوازية إلا أننا نستطيع أن نتلمس علاقات الفاعلية في هذا الفاصل الممتد بين برزخ الصحراء وأفقها وبين الانتماء إلى الأرض والسكون إليها في الواحة .بين بنية وعي مفتوحة تتوق إلى: الحرية وتتأبى على القيد والعطية والأرض وحتى الاقتران بالمرأة ، ـ ليس لشئ إلا لأنه يشكل قيدا .. والإنجاب إلا إذا كان ذرية للحرية ، رافضا دفع الإتاوة ، ساخرا من الجذور إذا كانت جذور ذل .. كافرا بالسماوي إذا حد من حريته .. متمثلا النبل والشجاعة والقوة باحثا عن الحكمة عاشقا للأفق .. محاولا الكشف عن المجهول.
الصحراوي هذا المتمرد التواق إلى كل ذلك يمثل قيم بنية وعي متمردة ليست هي بنية الوعي التناسلي الذي يسعى لإثراء الحياة بفاعلية التناسل (فالتناسل في الواحات ينجب عبيدا للأرض) . والبقاء في الواحة لاستثمار الأرض يدفع به إلى اكتناز الثروة ومن ثم يقصيه إلى بنية الوعي البرجوازي الذي يرى فيها ذات القصور .. فلا التبر ولا التراب ولا المرأة ولا الإنجاب .. كل ذلك لا يلبي طموحه ، ولا يجسد فاعليته فاعلية الحب والإبداع والعطاء والحرية والأفق ..
أي بنية وعي يحتازها هذا الصحراوي الرافض لدفع إتاوة الحياة قيدا كان ذلك بالأرض أو المال أو ارتباطا بالمرأة وإنجاباً للذرية .
إنه يبحث عن ذاته وعن وطنه السماوي (واو) البعيد بعد كانو والأقرب إليه من حبل الوريد .. يبحث عن فاعليته في هذه الحياة بالخروج والخروج دائما .. بالترحال والترحال والسفر .. إنه في برزخ العراء وفي برزخ بين بنى الوعي .. البني القاصرة التي يتمرد عليها والبنية المفتوحة التي يتوق إليها .. تجذبه بنية وعي القصور بهذا التعصب ، وتجذبه بنية الوعي الخلاق بتعلقه بالأفق الممتد ..
هذا الأفق ( الذي تراه البنية القاصرة ) صديق السراب يتهامسان ويتآمران ويرتبان المكيدة .. يتعلق به باحثا عن المجهول مستكشفا لآفاق آخر متحديا لهذا التآمر وتلك المكائد . ولكن الحكيم حاول أن يخرجه من حزنه وأن يمنحه بعض الإشارات الضوئية المعرفية التي تنير له الطريق وتخرجه من هذه العتمة وتفتح له أبواب الأفق وتحسم له هذا النزاع بين القيد الوجودي والتوق الصوفي .
بين هذه الفاعلية المحدودة الأثر القاصرة وتلك الفاعلية الممتدة التي تعطى ولا تأخذ .. تمنح ولا تكتنز. بين هذه الفاعلية التي تتمتع بالحرية الكاملة وتلك التي تدفع الإتاوة وتقبل بالقيد تنازلا لمقتضيات الوجود .
هذا التنافر، هذا التنازع بين بنيات الوعي.. سعى الحكيم ..العرّاف ..النبي ( ليس الموحى له من السماء) سعى إلى تقديم هذه الإشارات من أجل أن تتآزر البنيات لدى هذا الصحراوي التائه فيختار بنية وعي خلاق تقارب الواقع .
لم يرده عن عشقه للأفق ، وحنينه للصحراء ، وعشقه للمجهول بل عليه فوق ذلك أن يحاول قول الشعر .. إنها دعوة للإبداع ثم اقترح عليه ( علام المجهول ) " الوجد نعمة أخرى أسقط في الوجد وارقص مع النغم " إنها دعوة للحب.
حتى شيخ الطريقة حدثه عن الحنين والمجهول والسراب والفناء والشعر والغناء ، ولكنه أكد له ضرورة الخروج للالتحاق بنعيم المعرفة ( فمن لم يخرج لم يجرب ومن لم يجرب لم يعرف ومن لم يعرف لم يشق ومن لم يذق طعم الشقاء لم يدخل باب الفردوس ) إنها دعوة للعلم والمعرفة .
وعندما قرأ الشيخ أفكاره قال له :( اعلم أن الداخل إليك لن يكون جليسك بحق ما لم يخرج من سجنه . من نفسه . واعلم أن الخارج منك إلى الدنيا لن يهتدي إلى السراط ويعرف ماذا يريد مالم يتحصّن بنفسه من السوي)
إنها دعوة لمقاومة النفس ومجاهدتها و(السوي) هنا ليس سوى تلك البنية السائدة التي تسّوي بين أبنائها بقوانينها وتحكمهم بأعرافها وتقاليدها وتلجمهم بضوابطها وتلزمهم بقيمها ومن خرج عن ذلك فليس بسوي إنه الجنون لديها .. والجنون فعل تحرير من إمبريالية وسطوة بنية الوعي السائدة ..
وعندما دعاه الشيخ إلى الخروج و المخالطة والمعاشرة ومعرفة الآخر ليعيش الحياة خرج إلى الناس و" لم يكن يعلم أن الأنثى هي الشرط الأول للخروج والزواج هو الإتاوة الأخرى التي يدفعها كل من أراد أن يعاشر الناس ويمارس الحياة " .
حرث الأرض وامتهن الفلاحة . اجتهد في عمله ففاز بثقة صاحب الأرض صادقه وزوجه ابنته الوحيدة . جاهد نفسه في الأرض ، وفي الناس سنوات أخرى .. تعلم معنى أن تزرع وتجلس في الكوخ منتظرا الإحسان من الأرض وعرف أيضا وجه الشبه بين المرأة والأرض"
وعندما " صمم أن يحطم القيد .. اكتشف أن المرأة تشده إلى الأرض بسلسلة أطول من السبعين ذراعاً .. أنجبت له الولد كي تستعبده بالنسل كما حاولت الأرض أن تستعبده بالخبز" جليُّ هنا وفق منهج التحليل الفاعلي أن كلاً من المرأة والأرض ليسا سوى هاتين البنيتين القاصرتين بنية الوعي التناسلي وبنية الوعي البرجوازي بما يحملان من خصائص .
ومادامت هذه حال الدنيا تصبح هاتان البنيتان بتنازرهما يفجران الكثير من الإشكالات والكثير من الصراعات ويزرعان الكثير من الشر بحكم تعصبهما واعتقادهما بأن كل واحدة منهما تمتلك الحقيقة وحدها. فقط في حال تآزرهما مع بنية مفتوحة يكمن الحل .
كان عليه كما أوضح الشيخ أن يعي أن الألم هو الحياة وأنه شرط الميلاد وشرط الوصول إلى بنية الوعي المفتوح .. وبنية الحب والإبداع والعطاء الشامل " فإذا لم يتألم الإنسان فقد مات غافلاً " وكثيرون أولئك الأحياء الأموات .. بينما البني السائدة (المغلقة) السّوية كما تدعى تقول العكس : " من مات بلا ألم فقد عاش حياته سعيداً "ولو كان الأسوياء يعرفون معنى الألم لما كانوا أسوياء .
السير أيضاً طريقة من طرق المجاهدة واكتساب الوعي : ( هاجر .. سر من الأرض .. وامض .. أعبر .. ولا تتوقف ).
وهنا دعوة للامتداد بالمعارف عبر مجاهدات الهجرة والتنقل والبحث والخروج لتفتح الأرض البكر أبوابها .. أرض الرؤى والسكينة .. وطن الرؤى السماوية .
( الفخ ) ومعنى الضياع والعزلة والحياة
بين شرائع الأرض وأعراف السماء شرعت عبقرية الكوني في قراءة الفردوس الأرضي " الكوكب الصحراوي " بتجسيد الأسطورة ومنحها دلالات تتوازي معها وتتقاطع مع عادات الفكر وتتباعد مع ما هو سائد وتتوافق مع الطبيعة بشكل كلي ....
نص "الفخ" في ديوان النثر البّري، نصب لي فخاً كقارئ وصدّر لي فاعلية (وتلك غاية الأدب) تمنيتُ أن أعيشها ولا أفصح عنها لولا عادة القراءة وهزَّ ما هو مألوف منها ..
استلقيت فترة بعد أن أكملت مطالعتها وبدأت في قراءتها فإذا بي أمام كوكب درّي كنت غافلاً عنه، وتلمست علاقات من الفاعلية لم أقف عندها كثيراً من قبل والتي كانت تختزل بعبارات وجمل تمحى سريعاً ولا تسترعى الانتباه إلا في مواقف تستدعي مضغ تلك الجمل أو التفوه بها :
.. من نصب فخاً لأخيه وقع فيه .
.. من حفر حفرة لأخيه وقع فيها .
.. إن الله يُمهل ولا يُهمل . الخ..
في الكوكب المترامي الأطراف (الصحراء) عالم من الكائنات اكتشف الكوني صلات القربى بينها لا انفصال هناك بين الحجر والشجر والجبل والوادي والجمل والودّان والإنسان والجان والسيل والسراب والروابي وحرارة الهاجرة والهجرة ... كل شيء في الصحراء يتألم ويفرح حتى الأرض الخرساء .. الحجارة .. ذرات الرمل ..
..الحطّاب يأخذ نصيبه من الخدوش لأن الحطب لا بد أن يأخذ نصيبه من معصمي الحطّاب قبل أن يحرق بالنار .. وإذا كان العود أخضر فتلك جريمة أن يقطعه الحطّاب ليتدفأ به .. إنه يعادل أكل الإنسان للحم أخيه الإنسان .
.." شجر حيوان إنسان .. نحن من صنع هذه الألقاب الغبية وما تسميه شجراً مخلوق مسالم لا ينطق ولا يتكلم ولا يبادر بسوء ولكن هذا لا يعني أنه ليس أذكى مني ومنك ومن أي إنسان " أجابت أم ( اخنوخن ) بيقين .
يبدو أن سكون الصحراء يجعل من الصحراوي يتلمس بحسه وسمعه كل حركة وبتأمله كل حقيقة غير عالمنا المليء بالضجيج والضوضاء والصخب والأضواء الأمر الذي لا يتيح لنا إرهاف السمع ولا يمنحنا مساحات للتأمل وقراءة ما تقوله كائنات الصحراء وما نشاهده من حيوانات أخرى بيننا .
في عالمنا غرور، اعتمد الإنسان نفسه المخلوق الوحيد على هذه الأرض، والذي سخرت له بقية الكائنات لأطماعه يعبث بها كما يشاء دون أي تواصل وجداني بيننا وبينها فالوجدان مات فينا غير ابن الصحراء الذي لا يعقل الطلح أو الودّان أو وصايا الأولين بعقله وإنما يحسُّها بوجدانه ويتحسَّسها ببدنه كذلك .
فالجمال حتى في الليل لها قدرة خفية على الإحساس بوجود أهل الخفاء حين تتوثب بحركة استنفار وقلق وتوتر وترفع رقابها في العتمة وتتلفت في عصبية .
..( الرجل النبيل لا يقيد جمله أبداً ) نصيحة على لسان الزعيم الحكيم .
فالجمل المقيد بعقال يمشي مسافات أبعد من الجمل الطليق ؟
الجمل المقيد يمشي إلي الأمام ليل نهار ولا يتوقف عن الحركة لأنه يشعر بالقيد فيحاول أن يتحرر من القيد بالتنقل بالحركة بالسعي المستمر إلي الأمام يصبح القيد هاجساً وجعاً سيفاً مسلطاً على الرقبة فيحاول أن يقهره بالسعي .. يجاهد بقطع المسافات في سبيل الخلاص.. يعبر الصحراء لينال في العبور الحرية.. الجمل المقيد يغفل حتى عن الكلأ الذي جاء من أجله.. يخترق الوديان الخضراء دون أن يتوقف.
يدخل السهول المفروشة بالعشب ليعبرها إلي العراء إنه لا يري سوى الأفق لأن حريته في المضي إلي الأمام وخلاصه في الأفق ولكن الأفق لا ينتهي إلاّ ليبدأ أفق آخر، فيجد الجمل نفسه وقد قطع مسافة خرافية بين يوم وليلة .. لأن الجمل لا يسعى وإنما هو في سباق جنوني مع الأفق مضى وقت طويل حتى فهم ( اخنوخن ) أن الرجل الحقيقي هو الذي يترك جماله ترعى في المراتع طليقة لأنها لن تحتاج في ذلك الحال لأن تسابق الأفق كي تتحرر من القيد . والثنى الطليق يستفز الجمال السجينة ويضاعف شقاءها بالقيد، وإذا تضاعف شقاءُ الجمال بالقيد فإن هذا سيجعلها تضاعف هروبها من نفسها ظناً منها أنها تهرب من قيدها .
سر كراهية أهل الصحراء للشبع :
الشبع في شريعة الصحراء هو الشيطان الذي يصنع الشر. إذا شبع الإنسان فلا يرجى منه خير. إذا شبع الإنسان تفرغ للمكائد . وبادر بالظلم وأبدع في اختراع الشر... إذا شبع الإنسان بشَّع كل شيء وحول حتى التسلية البريئة إلي جريمة .. فقد " ترجل ( اخنوخن ) وترك الجمل يرتع في أشجار الوادي تتبع آثاره عندما جاء منذ أيام وقرر أن يتسلّى بصنع الفخ ولا يعرف الآن سبباً لهذا العمل غير التسلية ..
الوديان فازت في أواخر الشتاء بالسيول .. النوق توالدت مضيفة إلي قطيعه اثني عشر حواراً . وحمل له الرعاة بشارة أخرى من المراعي وقالوا له إن ماشيته تكاثرت وتكاد تتضاعف بالجديان . ( تاسيلي) تفيض بالحليب والسمن والزبد والأجبان هذا العام. مؤونة السنة الماضية لم تنفد من المطامير فماذا دفعه لصنع الفخ غير الملل والتسلية . أغرته وفرة الخير فصنع فخاً للصيد وأطاح بشجرة كاملة حتى يتمكن من تركيب لعبته المشؤومة .
في وقت يقضي ميثاق الصحراء بأن يوافق من يعيش فيها ويلتزم بقوانينها ألا يسفك الدم وألا يصطاد أنثى نضوجاً تحمل جنيناً وألا ينزع عشبة من جذورها ولا يقطع غصناً من شجرة خضراء .
الودّان المسكين لا يعرف العزلة ...
لا يعرف أن المجازفة تبدأ لحظة اختيار العزلة
الخطر في العزلة ولكن الحرية في العزلة أيضاً
الخطر والحرية إذن رفيقان قرينان توأمان
المعتزل قوى حقاً لأنه لا يستطيع أن يعتمد على أحد يهرع لإنقاذه عندما يقع في الخطر عندما يهاجمه ضبع أو يلتف حول رقبته ثعبان أو يغويه السراب ويرميه بعيداً عن صراط القوافل فيجد نفسه أسير غول اسمه الظمأ ...
شاة الودّان التي اختارت أن تنفصل عن القطيع وتبحث عن الكلأ في وادي " اميهرو " بدل الوادي المجاور هي عضو شجاع قرر أن يصنع مصيره ويتولي أمر نفسه بنفسه، وما وقوعها في الفخ ( الذي نصبه اخنوخن ) إلا شهادة على هذه الشجاعة وبرهان على مسؤولية الاختيار.
خالف ( اخنوخن ) ميثاق الصحراء وخان العهد ( عندما شبع ) ولم يلتزم بشريعة الصحراء ولا بأسطورة الرباط المقدس الذي يجعل من كل كائنات الصحراء إخوة ينتمون إلي الأصل الواحد ...
حُق عليه العقاب ..
والإذلال هو ما يليق بالصحراوي إذا اختار بلا سبب أن ينضمّ لعشيرة الأشرار .. الذل في عرف الصحراء أشر من الموت .. الذل عار والعار أسوأ من الموت ...
احتمى ( اخنوخن ) من حملة التعذيب بقبر الأم .. أصبح يقضي لياليه متوسداً قبر الأم .. حوّل القبر إلي مأوى يعتصم به في الليالي من العقاب . هجر الوديان والكهوف وصنع من المقبرة بيتاً يأوي إليه في كل ليل .. أصبح يحتكم إلي الحرم ( قبر الأم ) هذا الحصن تحول إلي سجن
تحول ( اخنوخن ) إلي أسير في هذا الحصن وجد نفسه مشدوداً إلي حجارة القبر مثل معزةٍ مقيدة إلي الوتد بحبل أصبح الحرم سجناً بعد أن كان خلاصاً وملاذاً له من عقاب الجلد اليومي من أهل الخفاء ..
وإذا كان للمعزةِ سيد يأتي لها بحزمة عشب فإن القدر جعل منه عبداً بدون سيد هرب من عبودية العصا وعار الضرب ( من أهل الخفاء ) ليجد نفسه طفلاً يحتمي بتلابيب الأم وعبداً لحجارة قبر ...
.. نبش القبر وحمل معه الرفات تميمة احتفظ بها في جراب السرج كي تؤنسه في وحدته ...
إلا أن الرباط المقدس الذي يجعل من كل كائنات الصحراء إخوة ينتمون إلي الأصل الواحد .. لم يجد عنه فكاكاً ...
فاجأه السيل .. هذا الغول الذي لا يرحم .. تلقفه اللسان الوحشي وفرَّ به عبر الوادي
في صباح اليوم التالي وبعد المعاناة القاسية اكتشف ( اخنوخن ) أن الشجرة التي أنقذته من الموت ووهبته الحياة هي نفس الطلحة التي جرَّدها من الأغصان الخضراء وأطعمها للنار كي يتدفأ بها ...
الشجرة أعادت له الحياة، ولكنها أخذت منه تميمة الحياة ... أخذت منه رفاة أمه .. جمجمة أمه التي كان يحتمي بها من العقاب .
قضى شهراً كاملاً وهو يتفحص الوديان ويفتش الشعب بحثاً عن جمجمة أمه .. عاقبه الصوت بدلاً من السوط .. ظلَّ يركض، أحس أنه كائن غير الصحراوي، حاول أن يلتقط الهواء سدت السكِّينة الناريةُ كل المنافذ والأوعية والقنوات والأوردة. جحظت عيناه .. دارتا في محجريهما في تحية وداع مهداة إلي الملكوت الصحراوي في الأفق.
أحاط لثامه برقبته، لم يلحظ كيف سقط طرف اللثام وتعلق بنتوء بارز شرس في الصخرة .. أطلق أنيناً طويلاً موحياً كأنه جمل يذبح .. وقفز قفز من القمة لم يسقط إلي الأرض . القدر الذي حوّل اللثام في رمشة إلي فخٍّ تلقفه قبل أن يبلغ السفح شهق طلق التنفس ودَّع النفس فاستقر في فعلتيه تسليم وخلاص، وبسمة غموض .
نفس الغموض الذي نطقت بع مقلتا الأم المشدودة إلي الفخ المعلقة من رجليها الخلفيتين في الجبل .
إنها غضبــة الصحراء... معنى الضياع والعزلة والحياة ...
فقد الأم ولكنها تركت له الصحراء أو تركته أمانة في عنق الصحراء عهدةً في يد الصحراء، خان العهد فتنكرت له الصحراء أمُّه الثانية ... أمُّه بالتبنِّي قتل الأم الأولى .. الأم التي جعلته يحس بصلة القرابة بينه وبين الصحراء ..
بينه وبين كائنات الصحراء
بينه وبين الجن
بينه وبين الودّان
بينه وبين شجرة الطلح
بينه وبين طائر الوقواق
أحسَّ أنه لا يبكي عزلته ولا تيتمه ولا فقدان الأب والأم وإنما يبكي غضبة الصحراء
يبكي ضياعه الأبدي
هذا البكاء في ديوان النثر البري تقابله البكائيات في ديوان الشعر العربي إنه بكاء الضياع الأبدي ..
العمامة الزرقاء :
وفي بحثه عن فهم الكائنات الصحراوية يستنطق ( الكوني ) هذه الكائنات حتى الصماء منها راسماً أسطورة هذا الكوكب الصحراوي في حوار تتلألأ حروفه كومضات النجوم وتتخفى معانيه متلفحة العمامة مخترقة السر ، سابرة الغور .. فالجبل المدبب جنوب الحمادة الحمراء الذي صلّى طويلاً وطلب في صلاته الصامتة عمامة من السماء تقيه صفعات القبلي وتحميه من حريق قرص النار المعلق فوق رأسه لتجعل منه شبيهاً جليلاً بأهل الصحراء النبلاء .
سمعت الحمادة الحمراء شعائره الصامتة فحدثته وحاورته متفقة معه بأن الآلهة ترفض من يشاركها في الكبرياء كما ترفض السماء رأساً ينافسها في الارتفاع فمن أراد أن يجاور الآلهة ويحتفظ بالعُلا عليه أن يفهم طبيعة الأشياء .
حرَّك الكوني شخوصه في حوار وحركة استجاب الجبل لحاجة الحمادة وطلبها بأن نطح السحابة بعد اعتراضها بالعمود المنصوب على رأسه فأصابها بجرح بليغ بدأت تنز الماء وتبكي .. اعتذر الجبل لها بعينين دامعتين وخاطبها بطلب الغفران إنه جزء من استحقاقات الحياة على هذا الكوكب .. شربت الحمادة حتى ارتوت فأجابته إلى طلبه وذلك بأن أخرجت أثقالها وسلطت على الجبل الأقهب بركاناً قاسياً استمر يلفظ الحمم عدة شهور . تعذب الجبل وغاب في الظلمات ولد من جديد فأوقفت الحمادة حمم أحشائها .. تلونت قمته بالزرقة وجد نفسه أخيراً يرفع رأساً متوجاً بعمامة زرقاء .
إنها رسالة من ( الكوني ) في تبريره للأشياء والمرجعية السببية لها فليست خارج الكون ، إن المرجع السببي هي الذات نفسها فلا الدعوات إلى السماء ولا الانتظار إنها استحقاقات الحياة وفاعلية الذات فيها .
المبتدأ في سفر الشقاء..
وفيها سطر ( الكوني ) أسطورة الصحراء والجمل والعهد الذي قطعه بأن يحمل عنها الإنسان مقابل حصانة تهيّئها له ضد غول الصحراء ( الظمأ ) .. وصبراً على الماء تخصه به من دون الحيوانات كلها .. هذا العهد الذي كتب في اللوح المحفوظ .. كان المبتدأ في سفر الشقاء لأن الجمل تمنى أن تحمل الصحراء عنه الإنسان وتعيد له الظمأ .
الاعتزال والانعتاق والحرية..
قضية فكرية هامة جداً وشائكة وتشكل إحدى الأعشاب الشوكية في هذا النثر الثري .. تلك هي قضية الحرية والانفصال والاعتزال ، مفهوم الحرية يقتضي النظر إليه من ناحية فكرية فلسفية ماذا يعني وأين يكمن الخطر فيه ، هل غطاء الوحدة يشكل أماناً ولكنه يسلب الحرية ، وهل الحرية تقتضي العزلة ولكنها تشكل خطراً ؟
يقول الكوني في ( الفخ ) الذي نصبه (اخنوخن) لشاة الودّان :
" قطعان الودان لا تنزل لترعى في السهول إلا في الليل . تنزل في قطعان عادة ، وتعود لتعتصم بالقمم قبل انبثاق قبس الفجر . ولكن هذه الشاة لم تكن عضواً في قطيع . ربما انفصلت عن القطيع في الوادي المجاور وقررت أن تجرّب حظها وحيدة. الودّان المسكين لا يعرف العزلة،لا يعرف أن المجازفة تبدأ لحظة اختيار العزلة . الخطر في العزلة والحرية في العزلة أيضاً . الخطر والحرية إذن رفيقان " قرينان " توأمان وهذه هي الحيلة الوحيدة ، الحكمة الوحيدة التي لم يسمعها من الأم ، ولم يتعلمها من الأسلاف ، ولم يقرأها في رموز الكهوف . هذا هو المبدأ الوحيد الذي تعلمه بنفسه في الصحراء . المعتزل قوي حقاً لأنه لا يستطيع أن يعتمد على أحد يهرع لإنقاذه عندما يقع في ورطة عندما يقع في الخطر . عندما يهاجمه ضبع . أو يلتف حول رقبته ثعبان أو يغويه السراب ويرميه بعيداً عن صراط القوافل فيجد نفسه أسير غول اسمه الظمأ . " ص 50
ويواصل الكوني مناقشته لهذه القضية بتأمل عميق :
" ولكن هل يستطيع القطيع أن يفعل شيئاً ؟ هل يفيد التواجد بين الجماعة حسب شريعة الصحراء ؟ " ص51
ثم يقرر :
" لا . لا يفيد ولا ينفع . بل يؤذي أكثر مما يفيد . لأن الأذى إنما يأتي أغلب الأحيان من الجماعة. العضو في قبيلة . أو في قطيع يسترخي معتمداً على الجماعة . وما أن تحل لحظة الامتحان ويحتاج لمساعدة أعضاء القطيع يكتشف أنهم أضعف من أن يساعدوا حتى أنفسهم . يكتشف أنهم كانوا . طوال الوقت ينتظرون يد المساعدة منه هو لا أن يقوموا بتقديمها له . يكتشف أنه غريق يتعلق بقشة . يكتشف أنه مخدوع " ص 51
ثم يعود (الكوني) ليقرر أنه ليكتشف ذلك لابد أولاً من أن يعيش في القطيع يقول
" والمصاب أن من لم يجرب الانتماء إلى الجماعة ، والقطيع لن يستطيع أن يختصر الطريق ويتولى أمر نفسه بنفسه . وشاة الودان التي اختارت أن تنفصل عن القطيع وتبحث عن الكلأ في وادي (إميهرو) بدل الوادي المجاور . هي عضو شجاع قرر أن يصنع مصيره ويتولى أمر نفسه بنفسه .
وما وقوعها في الفخ إلا شهادة على هذه الشجاعة . وبرهان على مسؤولية الاختيار" ص 51
تلك إحدى القضايا الهامة التي نثرها الكوني في ديوانه مستلهماً لها من التجربة .. فهل تتوافق عادات الفكر في فهم العزلة على أنها شجاعة وليست انتحارا .. وفي أن الكائنات الحية كائنات اجتماعية وخاصة الإنسان وأن اجتماعيته صحيح أنها تسقط جزءاً من حريته بمقابل هذا الانتماء ولكنها تصون وجوده وتحفظ حياته ...
قد نتفق نوعاً ما في أن القطعان البشرية الآن يهشّها الراعي وفي الوقت نفسه تسعى هذه القطعان أن تحقق حريتها ولكن من خلال انعزالها وانفصالها .. والشجاعة هنا تعني الانتحار دون مقابل كما فعلت شاة الودان .
أما الدائرة السرية للاعتزال فقد شكلها (الكوني) في تأملات الضب في جحر البيات الشتوي .
لقد عرف أن الصيام ليس تميمة لعلاج الهوى وحده ، وإنما هو الذي يرجع له الفضل في إكساب المناعة ضد الموت . ولا يعرف أولئك البلهاء الراكضون وراء الشبع والامتلاك أن صيامه هو سر خلوده إذ لاحظ بالتجربة أن الجوع يصفي الدم ويطرده من البدن وعندما يختفي الدم في العروق والأوردة ، أو عندما يتراجع إلى الحد الأدنى ولا يتبقى منه سوى قطرات . فإن الموت يهرب مع سائل الدم ، ولحياة تستر من مكان آخر غير الأوعية أو الأوردة أو العروق ..
" كاد يفك رموز المعادلة السحرية . كاد يقول أن مفتاح اللغز في الاعتزال . المعتزل خالد لأنه ميت وميت لأنه صائم وصائم لأنه ممتنع ، وممتنع لأنه قوي وقوي لأنه وحيد ، ووحيد لأنه زاهد لأنه فان والفاني هو المخلوق الخالد . في هذه النقطة تقفل الدائرة السحرية لتبدأ من البداية وأهل الصحراء البلهاء الذين يجهلون المفتاح يدورون في فراغ المتاهة ويحلمون بالخلود بدون قرابين ولا يعلمون أن الخلاص أقرب لهم من حبل الوريد . لا يعلمون أن الخلاص هو الزهد في الخلاص . كما أن الحياة هي في رفض الحياة . وهو مخلوق خالد (أي الضب)لأنه يتلذذ بالفناء ويجد متعة بالصيام أو الغياب في غيهب القبر . ومن أراد الحياة من أراد الخلود يا بلهاء فليفعل مثلي .ص160
" لم يدرك أن النار لا تأكل إلا من يأكل . والسكين لا تقتل إلا البدن المسكون بالدم . والموت يهجر البدن الميت لأنه لا يجد ما يتغذى عليه . والعدم يفر من جسد تيبّست فيه الأوردة والأوعية والعروق . والحياة تتعلق بمخلوق يعتبر الآخرون أن لا حياة فيه .
بهذه الخاتمة تنقفل الدائرة السرية " .ص 16
الأفق الأفريقي في قراءة الكوني..
هارى كريسكى من معهد الدراسات العالمية – بيركلي في مقابلة مع وولي شوينكا سأله عن رؤيته حول المزايا الأساسية التي تجعل الشخص كاتباً ؟ فأجاب " أن يفرق الإنسان نفسه في خضم متنوع من الخبرة والظاهرات ، بعبارة أخرى القدرة أن يهب أو يرهن وعيـه وإحساسه لمظاهر الحياة من حوله . إنها أساسيات عمق التفكير " (5)
ذلك ما قرأناه في قراءة (الكوني) لمظاهر الوجود حيث التقى الإشراق الصوفي بالزهد الصحراوي بصور الديانات والأساطير وسيمياء الثقافة الأفريقية ومعطياتها التي ترسم في مجملها الموت كذروة رحلة إلى الحكمة . فالكائن الذي يموت يكمل وعيه بحياته أو يعبر الخطوات في اعتلاء وخروج .. فالموت يكون جواب الحياة .. والمرور من الولادة إلى الموت يستلزم حشد التورية والخرافات والألغاز في التوحد .. هذا الجمع والتوحيد إضافة إلى الصور تقود القارئ لأن يعتقد في أن تلك الحياة ما هي إلاّ اللغز أو النكتة التي تحل بالموت . فالثمار التي تنتظر هي في نهاية الحياة .
شوينكا يعلى أو يمجد الموت بوصله بوضوح بأهمية الظاهرة في الاعتقاد اليوروبي(6) :
التلال ، الأرض ، المطر ، وطرق الحياة ، كل زمرة تشكل مصدراً خاصاً للطاقة .. فهناك عوامل فعالة خصوصاً في علم لاهوت المجموعة العرقية .. التلال قد شرفت تقليدياً كبيوت الآلهة ، لبضعة أسباب فقد قدموا حماية رائعة خلال زمن الحرب ، وكانوا بحجم الإلهام رهبة ، واستحوذوا على الفكر بكثافة النباتات الغامضة بكونها بيوتاً للحيوانات والأرواح الطائشة وحافظوا على الحضور السرمدي ، كما عرفوا أن يدوموا أطول من أجيال البشر.
فالتل وسيمياء الصخر وقمة الجبل وأصابع الشوكة على التل الحجري والأرض كبيت لبقايا الأسلاف . والموت الأقرب إلى الأرض المقدسة من الحياة . حملت كلها كما حمل المطر أهمية عظيمة في دين اليوروبا بطقوسه الأكثر شكلية في أرض اليوروبا .
أمّا عند ( الكوني ) فالأفق الأفريقي في قراءته لكوكب الصحراء الكبرى ، أو الفردوس الأرضي لا يبعد كثيراً عن تلك الأساطير وإن كان العمق والإيحاء والدلالة تزيد من عمق العراء والصحراء في تدوين الأسطورة .
والأساطير هي قراءة إبداعية لمنظومات الكون ، هي دلالات وتفسير لعلامات وسيمياء ومظاهر وآيات الكون . و ( الكوني ) سعى من خلال قراءته العميقة عمق الصحراء إلى نقل الوجود المغلق الأخرس إلى حالة شفوية منفتحة أمام لغة يستوعبها الجميع . إنه يستنطق الأصل والماقبل فيخضع كامل الكوكب كعالم متفرد معزول إلى خطاب نقرأ من خلاله الدلالات الغنية بصورة فنية لاستكناه هذا العالم اللغز وسبر أغواره .. عالم المتناقضات .. حياة الموت وموت الحياة . الانعزال والاتصال ، الفردوس الأرضي بوحشيته وقسوته وبحنانه ورقته ، بضوئه وأشعته بظلامه وعتمته .. يعيش فيه الضب معتزلاً صائماً زاهداً متماهياً مع الصحراء .. ويحيا فيه الغزال والودان والإنسان مليئاً بالحيوية في هذا العراء .
وبين الميلاد والفناء لغة الطبيعة الصحراوية العصيّة التي لا تنداح إلاً لابنها طيّعة مستسلمة لقراءته الإبداعية ناثراً فكره البرّي في ديوانه .
من هذه البرية نلتقط ما يربط هذه القراءة بالأفق الأفريقي .
.. واو التي يبحث عنها الأب وابنه والصحراوي عموماً هي أبعد من كانو وأقرب من حبل الوريد ص9 .
..لست أنا من اخترع الشريعة . والزعيم يكف أن يكون زعيماً في تلك اللحظة الجنونية التي يخالف فيها تعاليم الأسلاف .
.. أنت لا تعلم أن لي أبنة من امرأة زنجية عقدت عليها في كانو منذ زمن بعيد كنت أقوم برحلة تجارية وأنا في عمر الهوى والحماقات . راقت لي فتزوجتها . أنجبت بنتاً والبنت الآن في عصمة زنجي .. ولي حفيدة زنجية ، هل تصدق أن حفيدتي زنجية .
.. في تلك اللحظة فقط نزل الإلهام وعرف التاجر القديم الذي قطع الصحراء منذ كان فتى يرافق الأب إلى جنوب القارة . أن التجارة أيضاً باطل لأنها لا تساوي قطرة ماء.
ونحن نربط بين (واو) و(كانو) و(المرأة الزنجيّة) و(الابنة) التي هي في عصمـة الزنجي و(الحفيدة الزنجية) نربط كل تلك الإشارات مع تقديس الأفارقـة (للأسلاف) وهو ما ورد كثيراً في ديوان النثر البري .
(قبور الأسلاف) التي تنبئ بالمستقبل.
(إدبني الذي يخفى رفات الأسلاف) ص 32
(وجدت مزبورة في جدران الكهوف حيث حفرها الأسلاف)ص44
(رفع رأسه إلى السقف وتلهى بمشاهدة الجموع التي أتقن الأسلاف حفرها في الصخر) ص45
(صعد المرتفع المزروع بمقابر الأسلاف) ص63 .. تعاليم الأسلاف .. إلخ
أما الديانات الأفريقية التي دائماً ما ترتبط بالأسلاف فيجسدها عدد من الأدباء الشعراء الأفارقة .. حيث رسم ويلي شوينكا في قصيدته ( الدورة Last Turniny ) رسم الموت كرحلة عقلية وفيزيائية فالشخص الذي يموت يكمل وعيه بحياته أو يعبر " الخطوات في اعتلاء " .
الموت يكون جواب الحياة .. المرور من الولادة إلى الموت .. الموت يكسو ثقب الحياة .. الموت أكثر ثمرة من الحياة والشخص الحي الميّت الذي يحاول أن يجني كل الحياة.. يجب أن يصلي قبل أن يفقدها إلى الأبد .
شوينكا يرى أن الحياة ليست ثمينة كتلك ، .... الرحلة إلى الموت في " طريق الأعشاب الضارة " الطريق مليئة بالنباتات القاحلة .. عندما يموت الأحياء يصلون " بيّارة الحياة " حيث التمر الوفير ، الحياة هي عشبة ضارة ، ذلك أن الناس يتعلقون بها بشكل يائس لكن الموت على الرغم من كونه محملاً بثمار الفردوس فمازالت أسباب الميتة تعود إلى العصر بالأيادي الهزيلة .. وهنا كما يبدو يقترح شوينكا أن لا موت ولا حياة بل هي خبرة إيجابية كاملة .
ومعظم الشعوب الأفريقية يقوم نظامها الاجتماعي على أساس دقيق من النظام التدريجي، الذي يشمل الموتى والأحياء، فلكل مرتبته الخاصة، وأعلى مراتب هذا النظام يختص بها الأسلاف العظام الذين أسسوا القبيلة، ثم يليهم في المرتبة من الموتى الجد الأعلى للأسرة، ثم أسبقيتهم في الوفاة، ويأتي بعد هؤلاء جماعة الأحياء على الترتيب.(7) إنها الخبرة الإيجابيّة الكاملة.
وفي ديوان النثر البري نلتقط الإشارات الكثيرة جداً .
.. عندما يتعب كوز الطين ويبيد وتقترب الساعة التي يتحرر فيها عصفور النور من وزره فإن الأرض لا تأخذ إلاّ كوم العظام . أما العصفور فيطير إلى واو . ص15
.. لن يترك خلفه نسلاً . القيد مسلط على رقبته من السيف .. إذا أخذه معه إلى واو
ضمن له السكينة .. و .. الخلاص الأبدي ص26
.. ظل الأب يتأمل القمة النفيسة .. الرأس الحقّي الساعي للالتحام بالله الجنين المتمرد على سلطة الأرض . التواق للتحرر من كوز الطين والخروج إلى خلاء الحرية ..
.. أفلت الطائر من القفص وطارت شعلة النور . بقى كوز الطين هامداً متحداً ،
مستسلماً للتراب . في العراء الحزين الخالد اكتمل نزول العتمة ص 38 . ال
استعباد البنية وأخطار الحرية..
يستوقفنا ( الفخ ) مقطـع (8)* من بين أعشاب البر ليطرح أمامنا قضية جد عميقة .. عمقها ينطلق من كونها الحكمة الوحيدة التي لم يسمعها من الأم . ولم يتعلمها من الأسلاف ولم يقرأها في رموز الكهوف .. والمبدأ الوحيد الذي تعلمه بنفسه في الصحراء ..
خروجاً من عادات الفكر التي صممت الحياة الجمعية وأرست ثوابت النظرة القطيعية الجمعية من كون الإنسان كائناً اجتماعياً لا يستطيع أن يعيش بمفرده أو يلوذ بقداسة صمته .. عليه أن يحتمي بالقطيع ليؤمن نفسه من الضياع .
فالودان المسكين لا يعرف العزلة
لا يعرف أن المجازفة تبدأ لحظة اختيار العزلة
الخطر في العزلة
والحرية في العزلة أيضاً
الخطر والحرية إذن رفيقان .. قرينان .. توأمان
والمعتزل قوي حقاً لأنه لا يستطيع أن يعتمد على أحد يهرع لانقاذه عندما يقع ي الخطر
إذن الهدف هو الحرية ، ولا يستطيع أن يجازف ليتحمل هذا الخطر إلاّ من اتصف بالشجاعة وقرر أن يصنع ويتولى أمر نفسه بنفسه مبرهناً على مسؤولية الاختيار ..
وتأييداً لهذه الفكرة يتساءل المبدع : هل يستطيع القطيع أن يفعل شيئاً ؟
هل يفيد التواجد بين الجماعة حسب شريعة الصحراء ؟ ويجيب : لا . لا يفيد ولا ينفع بل يؤذي أكثر مما يفيد . لأن الأذى إنما يأتي أغلب الأحيان من الجماعة .
العضو في قبيلة أو في قطيع يسترخى معتمداً على الجماعة وهي أضعف من أن تساعده.
والإسقاط هنا يتمثل في كيفية الخروج من القطيع .. التحلي بالشجاعة .. مخالفة السائد واعتزاله والتمرد عليه .. اكتساب المشروع المخالف للبنية السائدة التي تحكم القطيع بأعراف وتقاليد وموروث وعادات هي أسّ البنية السائدة..
فالشجاعة إذن في التحرر من أسر القطيع الخائف أبداً والذي يعتقد أن البنية ستحميه وتوفر له الحماية ثم يكتشف الخدعة والزيف . هذه البنية المغلقة والقاصرة والحاكمة والمتحكمة والحارمة لأفرادها من الحرية تخدع الجموع بأنها هي المأمن والملاذ ، وفي حين أنها ترعبه وتغرس في قلبه الخوف وتحذره من المجازفة والعزلة ، وتحول بينه وبين الشجاعة والحرية واتخاذ القرار الجرئ ، فإذا ما خالفها كادت له وأنبته وعاقبته وتخلت عنه .
وإذا ما انعزل فإنه يكون بذلك قد اتخذ قراره بنفسه ويتحمل كامل التبعات التي تترتب على هذا التصرف حتى ولو كلفه حياته .
الإسقاط هنا في الجرأة والشجاعة والمبادرة والمبادأة ومخالفة القطيع الذي يشكل حماية وهمية .. لأن القطيع الخاضع للبنية والمستعبد لبرامجها وضوابطها يغرس فيه الخوف وينتزع منه روح المبادرة والمجازفة والحرية.
والمصاب أن الإنسان – كما الشاة – لا يعرف التمرد ولا يتوق إلى الانعزال دون أن يجرب قسوة الانتماء ويكتشف الحماية الوهمية ولو أدرك الإنسان ذلك لاختصر الطريق على نفسه إلى نفسه وأدرك أن قيمته في داخله ، وحريته يحققها بإرادته وشجاعته وأنه يمكنه أن يبدع ويثري الحياة دون الخضوع لسيادة البنية ودون الركون لاستعبادها ودون قيود التعصب التي تفرضها عليه .
فالبنية السائدة الحاكمة للجموع تحدد له مساره وفاعليته . والخروج عن المألوف والسائد يحمله عناء مواجهة الأخطار . لكنه يكسبه نفسه ، ويمنحه حريته ، ويسترد به شجاعته وقوته . في حين أن البقاء في القطيع يستعبده ، ويغرس فيه الخوف موهماً أياه بأن ذلك يجنبه الأخطار ويشكل له الحماية .
والانتماء الذي يشكل هوية تقليدية لقطيع وفق محددات تاريخية جهوية لغوية دينية عرقية ، هو انتماء لا إرادي وجد الإنسان نفسه فيه وهذا الانتماء لا يعني بأي حال من الأحوال قدراً لا فكاك منه .
صحيح أن مخالفة السائد والتمرد على المألوف والخروج من القطيع واختيار العزلة بل واحتياز البنية البديلة المفتوحة به الكثير من المخاطرة والمجازفة لكن به أيضاً الشجاعة والحرية والتألق والإبداع والتفرد والتميز والانعتاق..
صحيح أنه قد يقع في الفخ ولكن بشجاعته قد يحرض الآخرين لبناء شخصياتهم المتفردة وكينونيتهم المستقلة وإبداعاتهم المتميزة .
بقى أن نشير هنا إلى أن القطيع من الشياه قد لا يتأثر بخروج شاة منه ولكن البنية السائدة في المجتمع ستلحق بك الأذى إن خالفتها أو تمردت عليها أو سلكت طريقاً غير ما يحقق لها مهامها وأغراضها ..
وطريقها يتمثل في التعصب والاعتقاد بامتلاك الحقيقة والالتزام بالأعراف والتقاليد والعادات .. وإذا قبل الفرد أن يكون ضمن هذا القطيع سيقبل حتماً أن يهشه الراعي وأن يسلك به الطريق الذي يحدده له ويطعمه العشب الذي يقوده إليه .. وعليه أن يقبل بالقيود التي يفرضها عليه وأن يتحمل الأذى الذي سيلحق به وأوله انعدام شخصيته وفقدانه لحريته ، وقيمته التي يحددها له الآخر .
من هنا كانت فاعلية المبدع بهذه الإشارة التي اكتسبها بنفسه لم يجدها في تراثه الذي خلفه الأسلاف ولا من الجموع التي عاش معها .. و ( الكوني ) في تأملاته للحياة الجمعية في الصحراء لا يصورها لنا بقدر ما يدعو مركزاً على الانعتاق والاعتزال والخروج بما يحمل من دلالة ومخاطر .
لقد حصر فاعلية الإنسان الصحراوي في التوق إلى الانعتاق والحرية إلى الآفاق .. إلى العراء .. إلى الخروج من كوز الطين . حصر الفاعلية في التأمل والحوار مع كل الكائنات للتوصل إلى المعرفة وحل إشكال الوجود . بالدعوة إلى التمرد على القطيع من أجل التعدد والتنوع والثراء والتجدد والحرية .. وعرّى البنى المغلقة بأن حريتها مقيدة وتكسب الضعف وتفرض القيود وتشكل استرخاء يضعف الفاعلية ويجعلها قاصرة وضيقة ومحدودة الأفق .
فاعلية البنية اللغوية :
وما يهمنا هنا ليس ورود المفردة بهذا الزخم المتناغم مع مئات المفردات المشبعة بالألف الممدودة . ولا التناسب في الاستخدام والتساوي في العدد بقدر ما يصلنا من دلالة هذا الاستخدام حيث يشير إلى أن الكوني لم يعشق الصحراء بحد ذاتها فحديثه عنها محدود جداً إذا ما قيس بصفاتها أو بساكنيها . وتكفي الإشارة إلى أن أكثر ورودها مضافة إلي حيث وردت ( 89 ) مـرة مثل :
( ابن الصحراء ، يد الصحراء ، أهل الصحراء ، عشق الصحراء ، عقيدة الصحراء ، ما وراء الصحراء ، حدود الصحراء ، سكون الصحراء ، هواء الصحراء ، تعذيب الصحراء ، سكان الصحراء ، تقلبات الصحراء ، شريعة الصحراء ، كائنات الصحراء ، أمام الصحراء ، عنق الصحراء ، غضبة الصحراء ، جسد الصحراء ، عرف الصحراء ، حياة الصحراء ، سفر الصحراء ، قبيلة الصحراء ، أصحاب الصحراء ، كنوز الصحراء ، ملاك الصحراء ، فتنـة الصحراء ، ضيوف الصحراء ، استضافة الصحراء ، قدرة الصحراء ، كفاءة الصحراء ، ، عبور الصحراء ، قساوة الصحراء ، ملـذات الصحراء ، امتداد الصحراء ، سيد الصحراء ، وجه الصحراء ، طبيعة الصحراء ، بدن الصحراء ، غبار الصحراء ، أحلام الصحراء ) وهكذا .
وذلك يعني أن الاهتمام بساكني الصحراء وتأثرهم بها ومشاعرهم تجاهها ، وأعرافهم وشرائعهم فيها ، وتأملاتهم لها ، واتقاءهم لغضبها وتسامحهم معها ، وتبنيهم لها وعشقها .. شكل ذلك المنطلق الذي اهتم به ( الكوني ) بإبرازه وتجسيده ، فتحدث وتغنى بكل الكائنات التي تعيش في الصحراء أكثر من حديثه عن الصحراء نفسها .
المنطلق إذن هو الإنسان والكائنات التي عايشها وعاشت معه وكيف نفسه معها وخلق الأساطير لاحتوائها وتأثر بها وعشقها فتميز في هذه البنية عن غيره .. وتشكل من خلالها صفاءً وأفكاراً ومشاعر ورؤى ..
ألهمه مجتمع الصحراء الصور الفنية الزاخرة التي حشدها على امتداد تراكيبه ونثره الشعري .. باحثاً ومنقباً عن الحقيقة عن ( واو ) الضائعة ... فتنازرت البنيات من خلال طرحه لفلسفة الضب التي تدعو إلى قطع الأمل والاعتصام برؤوس الحجارة والرؤية المفتوحة للودان الذي يدعو إلى الأمل والحياة
الإيقاع الذي اختزنه ( الكوني ) وسيطر على أسلوبه ، هو غنائية الألف الممدودة قافية وإيقاعاً وحشداً لمفردات تنم عن تكوين وجداني خلقته وشكلته الصحراء بمدها وامتدادها ، بعرائها وأفقها .. فامتلأ النص بها من ( هباء ، شعراء ، وأهل الخفاء ، والرقاب الهيفاء ، والمساء ، وأهل الصحراء النبلاء ، والعمامة الزرقاء ، والحمادة الحمراء ، وطبيعة الأشياء ، ونقاء الهواء ، والغطاء والرمضاء ، الشقاء والبقاء والانتشاء ، الوراء والصفاء والنداء والبكاء والكبرياء الماء والكتلة الممسوسة السوداء . الالتقاء والإغواء وميزان الأشياء . الفناء والغناء والخباء والبلهاء . الأسماء والعطاء والبقاء . الأعضاء والظلماء . الجزاء والامتلاء والحكماء .. سلطان الضياء ، الأبرياء والأرض الجدباء وتفتح الأثداء وإدرار السماء والحجارة السوداء.. الغشاء والانتماء . العزاء والفقهاء ، وسلالة الأنبياء . ذرات الهباء وصلاة الرجاء ، الشتاء والنساء والأشقياء ومشية الخيلاء . العراء والخلاء والفضاء ..)
حتى معظم الديوان كتبه في ( الدار البيضاء ..
وسيطرة هذا المد بألفه على أسلوبه وإيقاعه منح النص انطباعاً جمالياً أوقل خاصية جمالية مرتبطة بمعشوقته الصحراء .. وبنموذج إحصائي تتبعنا مفردات ( السماء ، الخلاء ، العراء ، الفناء ، الفضاء والأفق ) حيث وردت السماء (90) مرة والخلاء (20) مرة والعراء (40) مرة والفناء (20) مرة والفضاء (15) مرة والأفق (60) مرة وهي بمجملها (245) في حين وردت مفردة ( الصحراء ) (316) مرة .. بما يصل المجموع إلى ( 561) مرة في وقت استخدمت فيه كلمة الواحة ( 10) مرات فقط في مجمل الديوان ..
ومفردة الصحراء التي وردت (316) مرة مركبة وفق تركيبات مختلفة مقصودة بذاتها مبتدأ أو فاعلاً أو نائب فاعل أو مفعولاً به 77 مرة
وتركيباً وصفياً ( صحراوي ) 71 مرة
كما وردت مجرورة بحرف الجر 79 مرة
ومجرورة بالإضافة 89 مرة
ونقرأ من خلال التميمة البرية القديمة ما يلي :
( إن كل مخلوق مسؤول عن اختياره ، والقـدر لن يكتب الحرية لمن اختار القيد واستسلم منذ البدء ) ص127
ومن خلال طرحه للخروج من أسر البنية والانفلات من القطيع كانت قراءته لشاة الودان التي اختارت الحرية وتحملت نتاج اختيارها بشجاعة .
ومـن خلال دعوته للخروج عن البنية السائدة رغـم قســوة هذا المشـروع فـ ( الطريق المرسوم دائماً مستباح ولا خير فيه ، يهرب من أمامه العشب ويختفي الترفاس .. الترفاس يهرب من كل المساحات التي تعبرها القوافل )
ومن خلال دعوته لبنية منفتحة غيرقاصرة أو منغلقة، بنية وعي خلاق فـ ( المخلوق الذي وجد في نفسه الرجولة لأن يسخر من السيوف ومن حملة السيوف قال إن الرجولة الحقيقية هي أن يضبط الرجل هواه ويسيطر على رغباته ) .
من ديوان النثر البري نعرض بعضا من مقولاته التي تقول:
..القدر لن يكتب الحرية لمن اختار القيد واستسلم. ص 127 المبتدأ ي سفر الشقاء .
..العتمة قناع يحجب الكبرياء .
..لا شئ في الحياة بلا ثمن. (القبلي في حواره مع النخلة).
..إن طبيعة الأشياء تقول : لا يلقح القبلي النخلة إلاّ إذا صرع في طريقه أخرى
لا يولد مخلوق إلاّ إذا تنحى له مخلوق آخر عن مكانه.
( القبلي في حواره مع النخلة )
..الصحراويون لا هدف لهم إلاّ الارتحال تحرراً من وزر المكان مؤثرين الأسفار خلاصاً من قيد الزمان. ص 165 ( عودة الضب إلى منفاه السفلي )
..الصبايا دائماً مركز اللقاء .
نقطة التقاطع .
ينبوع الحزن والفناء
يقطع الصحراوي القارة الخالية من أقصاها إلى أقصاها ويعود إلى نقطة
الانطلاق إلى
الصبايا .
يخرج إلى الغزوات في سبيل الصبايا
يصد الغزاة دفاعاً عن الصبايا في سبيل الصبايا
يسقط في الوجد تدلّهاً وعشقاً للصبايا
يغني في الخلاء حنيناً للصبايا
يولد ليحب الصبايا
ويموت خوفاً من فعل ربما بدا عاراً في نظر الصبايا
الصبايا في الصحراء ، قدر الرجل ، إلهات الصحراء .
وعندما يرفعن الحناجر بالغناء الفاجع فإن كل شئ لا بد أن يرقص في الصحراء
الرجل يرقص ، المهري يرقص ، الجن يرقص ، السراب يرقص ، وحجارة الجبال أيضاً تلين
وترق وتسقط في الوحد .. و.. وترقص .
ص 109 – 110 باتا تنتهك الحرم وتهرع إلى خباء العريس
..أهل الصحراء لا يجاهرون بالحقائق
يجاهرون بالدعابات وحدها
أما الحقائق فيهمسون بها لأنفسهم
يهمسون بها بينهم وبين أنفسهم
إذا أردتم أن تعرفوا الحق من الباطل في كلامهم .. راقبوا طريقهم
فإن انحنى أحدهم وتكلم في إذن الآخر فإنه نطق بالحق. 115 باتا تنتهك
..الصحراء هذه المعمرة الحكيمة المعتزلة عن الخلق ، العارية تعاهدت مع الظمأ .. تصحرت وطاب لها الخلاص والخلوه .. تناجي الله في ملكوت السكون .
لا تحب المخلوقات المكابرة ، التي تتشبه بالإنسان .. حيث طردت كل الحيوانات المكابرة كالزراف ، الأسود ، والنمور ، والفيله . وتركت الوديعة منها كالغزال والأرنب والفأر ومع الجمل أقامت العهد معه بعد أن قبل عرضها .. يحمل عنها الإنسان مقابل أن تعفيه من غول الصحراء ( الظمأ ) .. ( المبتدأ في سفر الشتاء )
..يظل الإنسان إنساناً حتى يشرف على اليأس .. والإنسان أشرس حيوان إذا نوى أن ينتقم.. 174 ( والضب إذا توسد الحجر )
الضب يسافر في السكينة والسكون
والجمل في المسافة
الضب يحيا في العمق
والجمل في الأفق
الضب يقوم برحلة في الباطن
والجمل في المدى
الضب يفر من مكان إلى آخر
والجمل يفر من المكان في الزمان .
خصائص وسمات أدب البرّية:
نتلمس خصائص وسمات أدب البريّة أو أدب الصحراء من خلال قراءتنا لديوان النثر البرّي في:
..مساحة التأمل الكوني للطبيعة والامتزاج والتفاعل والتوحد الوجداني معها.
..البعد الذي يخترق سمك الواقع إلى الآفاق الممتدّة المتجدّدة..
..الحرّية لدى الصحراوي المستمدّة من الفضاء الرحب والتي تتعادل مع مبرر الوجود، فلا قيد يقبله الصحراوي إنسانا أو حيوانا أو حتى الكائنات الصمّاء أو كائنات الخفاء . وهو مدرك ومتحمّل لما يترتب عليها من عواقب.
..بلاغة الصمت والسكون والهدوء الذي توحي به الصحراء وتلهم به أبناءها يتدفّق عبر المحبّة الشاملة والرؤى الفكريّة العميقة بشاعريّة المفردة وإشراقها الصوفي وأبعادها الدلاليّة حاملة لفلسفة الوجود.
..التقاء الإشراق الصوفي في الأسلوب بالزهد الصحراوي بصور الديانات والأساطير التي تشكل سيمياء الثقافة الأفريقية.
..تجلّي بنية الوعي الخلاّق من خلال القيم التي يستخلصها والعبر التي يستنتجها كمعادل طبيعي للتجربة وعمق التأمل.
المصادر والمراجع:
1 .. إبراهيم الكوني، ديوان النثر البرّي، دار التنوير للطباعة والنشر، تاسيلي للنشر والإعلام، ط1، 1991 .
2 .. الشيخ محمد الشيخ ، التحليل الفاعلي ، نحو نظريّة حول الإنسان، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، 2001 .
3 .. الشيخ محمد الشيخ، التحليل الفاعلي والأدب. ( تحت الطبع).
4 .. عبد الرؤوف بابكر السيّد، النص الأدبي الاستلاب والفاعليّة، (تحت الطبع).
5 ..هاري كريسكي، حوار مع التاريخ، مقابلة أجراها مع وولي شوينكا. www. Globetrotter.berkeley.edu/Elberg/soyink
Conversation with History:Institute of International studies,UC Berekely.
6 ..ليزي.ل.ستيرن، استخدام شوينكا لمفهوم اليوروبا عن الإنسان.
African Postcolonial Literature in English, in the Postcolonial web
www. Scholars>edu.sg/landow/post/soyinka/wsyorub.html.
7 ..عبد الله بخيت محمد، دراسات في الأدب السواحيلي،مكتبة النهضة المصريّة، ط الفجر الجديد،1987 .
(*)
وقف فوق الحفرة فدّّق قلبه بشدة
كانت الحفرة خاوية
أطبق فم الشرك على الشاة ، ولكنها استطاعت أن تخرج من الهاوية وتجرجر المصيدة إلى الجبل . اقتفى الأثر . على بعد خطوات خلّف الحيوان بعراً . تناول بعره وهرسه بين أصابع . بدأت تجف وتتيبس . البقرة تعود إلى يومين أو ثلاثة أيام . الأرجح أنها ثلاثة أيام . الحيوان وقع . نزل من الجبل ووقع في الشرك في نفس اليوم الذي نصب فيه " لعبته " . في مساء نفس اليوم . قطعان الودّان لا تزال تترعى في السهول إلاّ في الليل . تنزل في قطعان عادة وتعود لتعتصم بالقمم قبل انبثاق قبس الفجر . ولكن هذه الشاة لم تكن عضواً في قطيع . ربما انفصلت في الوادي المجاور وقررت أن تجرب حظها وحيدة .الودّان المسكين لا يعرف العزلة . لا يعرف أن المجازفة تبدأ لحظة اختيار العزلة . الخطر في العزلة . الحرية في العزلة أيضاً . الخطر والحرية إذن رفيقان قرينان . توأمان . وهذه هي الحيلة الوحيدة ، الحكمة الوحيدة التي لم يسمعها من الأم . ولم يتعلمها من الأسلاف . ولم يقرأها في رموز الكهوف . هذا هو المبدأ الوحيد الذي تعلمه بنفسه في الصحراء .
المعتزل قوي حقاً لأنه لا يستطيع أن يعتمد على أحد يهرع لإنقاذه عندما يقع في ورطة . عندما يقع في خطر . عندما يهاجمه ضبع . أو يلتف حول رقبته ثعبان ، أو يغويه السراب ويرميه بعيداً عن صراط القوافل . فيجد نفسه أسير غول اسمه : الظمأ .
ولكن هل يستطيع القطيع أن يفعل شيئاً ؟ هل يفيد التواجد بين الجماعة حسب شريعة الصحراء ؟ لا لا يفيد ولا ينفع بل يؤذي أكثر مما يفيد . لأن الأذى إنما يأتي أغلب الأحيان من الجماعة . العضو في القبيلة ، أو في القطيع ، يسترخى معتمداً على الجماعة ، وما أن تحل لحظة الامتحان ، ويحتاج أعضاء القطيع يكتشف أنهم أضعف من أن يساعدوا حتى أنفسهم .
يكتشف أنهم إنما كانوا طوال الوقت ينتظرون يد المساعدة منه هو لا أن يقوموا هم بتقديمها له . يكتشف أنه غريق يتعلق بقشة . يكتشف أنه مخدوع . والمصاب أن من لم يجرب الانتماء إلى الجماعة ، لن يستطيع أن يختصر الطريق ويتولى أمر نفسه بنفسه .
وشاة الودّان التي اختارت أن تنفصل عن القطيع وتبحث عن الكلأ في وادي " أميهرو " بدل الوادي المجاور ، هي عضو شجاع قرر أن يصنع مصيره ويتولى أمر نفسه بنفسه . وما وقوعها في الفخ إلاّ شهادة على هذه الشجاعة . وبرهان على مسؤولية الاختيار .
مقطع (8) من الفخ ( ديوان النثر البرّي )
.
لكن دعونا نتساءل أيمكن أن نسقط على كل الصحارى في العالم ما يمكن أن نتوصل إليه من سمات وخصائص؟ أيمكن أن نطلق على الأدب العربي قبل الإسلام بأنه أدب الصحراء؟ ألم يقدم لنا أدب صحراء الجزيرة العربية قبل الإسلام انطباعات حسّية ووصفا خارجيّا للمشهد لا يخرج عن التشبيهات ووصف المنظور الطبيعي في تشابه لم تخرجه عن الملل إلا قراءات النقاد والدارسين؟ هل قدّم لنا أيّ أدب في أيّ صحراء عمقا فكريا ورؤية فلسفيّة للحياة مثل ما قدّمه لنا المبدع (إبراهيم الكوني) عبر مفردته الشاعرة؟
إن الأديب في الصحراء قارئ بامتياز، إنه يحلّل ويقرأ صفحات مكتوبة من إبداع الصحراء. الصحراء هي الأديب والمبدع هو القارئ . الصحراء نص يدعوك لقراءته، فلا يقرؤه إلاّ مبدع، ثم يأتي دورنا نقرأ قراءة المبدع له. إنها لا تكتب أدبها في بنيها بل يقرؤه بنوها قراءة قد ترتقي بها وبالحياة فيها.. وقد تدفن رمالها ما يكتب عنها.
الذي يعرف سرّ الصحراء هو من يبدع في القراءة، فيقدمها لنا . والقراءة فن إبداعيّ تخضع لبنية الوعي التي يحتازها الفرد، بنية الوعي الخلاق وحدها القادرة على القراءة الإبداعيّة. إذا أخذنا بأن المعرفة هي ناتج علاقة الوعي بالوجود، فإن القراءة ناتج علاقة الوعي بالإبداع.
كثيرون ينظرون إلى الصحراء ، إلى هذا الجفاف، هذا العراء ، هذا الموات الذي لا نبت فيه ولا خضرة ولا حياة، فكيف يكون فيها أدبا نابضا ، حيّا ، فاعلا.
سأعرّف أولا ـ وأنا أقرأ أدب الصحراء من خلال (الكوني) في ديوان النثر البرّي(1) ـ بمنهج القراءة الذي انتهجته، ثم التأمل لدى ابن الصحراء ، وعبقرية المكان .. وعمق الرؤى السماويّة في الثنائيّة وثالوث المقابلات .. بعده أتناول معنى الضياع والعزلة والحياة في (الفخ)، وسر كراهيّة أهل الصحراء للشبع واستنطاق الكائنات في العمامة الزرقاء، وأسطورة الصحراء والجمل، ثم الاعتزال والانعتاق والحرّية كقضيّة فكريّة هامّة جدا وشائكة من بين الأعشاب الشوكيّة في هذا النثر البرّي.
ولن أبعد كثيرا وأنا أتلمس الأفق الأفريقي في قراءة (الكوني) واستعباد البنية وأخطار الحرّية وثمنها ، أنتقل أخيرا إلى فاعليّة البنية اللغويّة ، ثم نرتّل سويا بعضا من مقولات الديوان، متلمسين خصائص وسمات أدب البرّية أو أدب الصحراء من خلال هذه القراءة.
منهج القراءة :
لم تعد القراءة الخارجية للنص ولا قصدية المؤلف هي المحور الأساسي للقراءة النقدية المعاصرة ، فالجوهر الذي أعلا من شأن النص ومنحه الأدبية هو تصديره الفاعلية للمتلقي .. والقراءات المتعددة هي التي تكسبه ثراءً وتجعله أكثر خصوبة ..
ففاعلية المبدع وفاعلية النص يتم تلمسها واكتشافها من خلال فاعلية القارئ، والفاعلية هنا تعني البنية التي يحتازها المبدع أو يصدرها النص أو يقرأ من خلالها المتلقي . سواء أكانت بنية وعي تناسلي أو برجوازي وكلتاهما بنيتا وعي قصور أو بنية وعي خلاق وهي بنية مفتوحة يعي الإنسان نفسه من خلالها كائناً محباً ومبدعاً ومعطاءً مهمته أن يثري الحياة بالمعنى الشامل لهذه الفاعلية .
ويتكئ منهج القراءة المستخدم على مقاربة التحليل الفاعلي(2) الذي يعتمد على تركيب لعقل الإنسان من حيث النواة التوليديّة التي تحدد له وعيه بذاته، ومن ثم دوره في هذه الحياة وفاعليّته. حيث تتكون البنية من وجدان (جملة العواطف والمشاعر والقدرة على الحب) وجنان (القدرة على الفهم والاستدلال والتحليل) وذات ( وعي البنية لذاتها) . غير أن هذه البنيات تختلف في وظائفها بناء على طبيعة المرجعيّة النهائيّة لكل بنية . فبنية العقل المغلقة(وجدان مغلق) إذا كان برنامجها للعطاء محدود يقصر عملية الحب والعطاء في دائرة ضيّقة تشمل الشخص وأسرته وربما عشيرته أو طائفته. وتكون بنية العقل مفتوحة إذا كان برنامجها للعطاء مفتوحا يحقق الإثراء الشامل للحياة. في هذا الإطار يعتبر التحليل الفاعلي كلا من بنية الوعي التناسلي ، وبنية الوعي المادّي بنى مغلقة ، وأن البنية المفتوحة الوحيدة هي بنية الوعي الخلاّق. ويخوّل انغلاق بنية العقل إقصاء واستغلال واضطهاد كل من هو خارج الحدود الجغرافيّة لبرامج عطاء البنية. ويتم ذلك عادة بحجة التفوّق الدينى أو اللغوي أو العرقي أو الحضاري .. من خلال الادعاء بامتلاك الحقيقة.(3)
وعي القصور الكامن في التعصب والانحياز للذات وادعاء امتلاك الحقيقة والاستعلاء على الآخر يتجسد في بنية الوعي التناسلي أو البرجوازي في حين أن الوعي المفتوح المنعتق من أسر البنى المغلقة تتألق به بنية الوعي الخلاق لدى الفرد ولدى المجتمع .
وسنحاول من خلال هذه المنهجية المنطلقة من تعريف الإنسان بأنه فاعلية يثري الحياة باحتيازه لإحدى هذه البنى ويعي نفسه والحياة من حوله من خلالها أن نقرأ إحدى نصوص المبدع ( إبراهيم الكوني ) متلمسين الفاعلية بين شخوصه منقبين عن البناء اللغوي والأسلوبي كاشفين عن ( تنازر ) تنازع أو تآزر بنى الوعي ، قارئين لفاعلية النص أكثر من شرحنا لقصدية المؤلف(4) . باعتبار أن النص الأدبي هو بنية فاعلية لغوية تخيلية وهي أخصب وأثرى وأكثر اتساعاً من بنية الفاعلية الواقعية ..
الكوني والتأمل الكوني
حمل الصحراء في قلبه وهاجر بها .. وفاء منه لها وبحثا عن واوها سعى لاختراق مسامها وتطلع لأفقها وجذب عشقا بها فطوع الحرف لها بعد أن أخذه التأمل فنقلها من منفاها إلى العالم .. اختصر الطريق على من هفا قلبه لها .. وأراد أن يقوم بجولة سياحية فيها .. قرأها لهم قراءة أعمق وصورها لهم تصويرا أدق .. فوجدها العالم في ( ديوان النثر البري ) الذي فاق (ديوان الشعر العربي ) وصفا وقراءة ومساءلة وتأملا في أسرارها وسحرها .
زرنا معه المغارات ، ورأينا ما أزاح ( اخنوخن ) عنه التراب والأملاح والطين. وجدنا وجوها محفورة في الحجارة وجموعا محفورة في الصخر وشاهدنا رسوما ملونة لرجال مردة يرتدون أقنعة ، يطاردون حيوانات اختفت من الصحراء ، وخيالات الجن على الحجر .. مخلوقات منحوتة بفن بديع على صخور الكهوف .. وتعرفنا على أعشاب الصحراء وأشجارها وحيواناتها فكانت بحق فردوسا تجري في وديانه سيول خالدة .. اقتربنا كثيرا من خــلال (الكوني) من أهل الباديات .. وأهل الخافيات .
من هنا كانت فاعلية المبدع وهي تتجلى في اكتناه المجهول الصارم .. كوكب الصحراء كوكب آخر له أهله وطبيعته وطقوسه وكائناته الحية منها والجامدة . عالم يجهل العالم ماهيته ويتعامل معه بحذر ورهبة وخوف .. كان سهلا على المبدع وهو ابن من أبناء هذا الكوكب وهذا الفضاء أن يغوص فيه فكرا ووجدانا وأن يترجمه بيانا بكل جلاله ورهبته وقداسته وجماله وامتداده واتساع آفاقه.. وتبدت لنا علاقات الفاعلية في كل شاعرية الديوان من حيث الجدل والحوار والوضوح والأسرار .. الشخوص في نصوصه لم تغفل الضب والودان والغزلان والرتم والثعبان والروابي والكثبان والجن والإنسان والقبلي والسراب والشقاء ،والحكمة والبيان.
مزج ( الكوني ) اللغة الصوفية بالحرف الباحث عن الحقيقة والمعرفة . وتجلى العشق في الوجد الصوفي القارئ للعرفان بلغة الإشراق ..
تلك أهم قسمات هذا الديوان الذي حاور الفناء والشقاء في نغم أسطوري، واختزل الصحراء بوديانها وسهولها وكثبانها ورمالها وواحاتها .. لقد منح الفناء حياة جديدة . إنه ابن الصحراء أبى إلا أن يكون وفيا لها ولكن على طريقته التي كان لابد له فيها أن يفجر قضايا إشكالية فكرية عميقة تتنازر فيها بنى الوعي لدى شخوصه .. بما في في ذلك الضب والودان .
العنوان وعبقرية المكان
تتمثل مفاصل الديوان في الشاعرية النثرية ، والنثرية البرية ، والتأملية الكونية وعالم إبراهيم الكوني .. استحقاقات العنوان تأتي من كونه مليئا بالشاعرية والصور الفنية والمفردات الغنية بالدلالات والتراكيب الحبلى بالثراء الفني ..
العنوان يحمـل عبقرية المكان وفاعلية المبـدع ، فقـد كسر أفق التوقع من مفـردة (ديوان) حينما تمددت فيها مفردة (النثر) غطاء ينتشلها من المألوف ثم كسره مرة أخرى حينما تمددت مفردة (البري) فاكتسب صيغة فنية حاملا جذبا صوفيا وبلاغة بيانية وأسراراً جمالية .. لقد تجاوز به الكوكب الفريد إلى كل الكواكب والأمكنة ليس وصفا فحسب كما هو في ديوان الشعر العربي القديم بل بنية تكوين كوني امتزج مع الطبيعة ليغني وجودا حرا عكسته شخوص الديوان وشخوص الكوكب وكل البشر العاشقين للحرية والفضاء والامتداد . المتمردين على القيد أرضا وعطية وامرأة.
كما حمل الديوان شاعرية النثر الذي ينتثر في البرية كنجومها .. فالشعر كما ورد على لسان العراف الحكيم هو : " لغة المجهول وصوت الحوريات وتميمة الجنيات وشكوى القبلي وسر الترفاس وإيماءة الزهرة في شجر الرتم . وبدون الشعر لا يستطيع الصحراوي أن يقهر السراب المتآمر مع الأفق ..
ها هي عبقرية المكان تترجمها فاعلية المبدع حين يتواصل الموال الشجي الحزين حيث :
يتوقف السراب عن العدو
يتراجع العراء ..
يقبل الأفق ..
تقترب السماء من الأرض ..
ويسكت الكوكب الصحراوي لينصت ..
أما عندما يتوقف الموال فـ :
يهرب العراء من العراء
يتوالد الأفق من الأفق
يركض السراب ويتلاعب بلسان اللؤم والسخرية
تبتعد السماء في الفضاء
وتهرب الصحراء من الصحراء
وتلبس المتاهة قناع القساوسة الصارم .
كما تتجلى عبقرية المكان على امتداد مساحة الديوان ، وهو يقدم الإنسان الصحراوي بفكره وفنه ورؤاه ، بحبه وعشقه ووجده ، فيصف المسـرح بأدق تفاصيله :
فالصحــراء تتمدد
والعراء الفسيح قاس لا ينتهي
والأفق لئيم لا يستسلم
والبرزخ ممدود
والسراب يمد لسانا لعوبا
ـ لا يتوقف عن الغمز والتغنج والإغواء
والخلاء مكابر
والسماء جرداء صارمة
والسحب عزلاء تائهة
لذا كان الصيام عن الكلام ، والمساحات الهائلة من الصمت متاحة للتأمل الغياب في السكون والثبات فوق السرج ، والسفر مشدودا إلى الأفق العنيد غير عابئ بدعابات السراب .
هذه العبقرية التي تجسدت في الصمت والسكون والهدوء والمهابة والجلال والمدى تقاطعت مع فاعلية المبدع الذي طاف وتنقل من كوكبه وبكوكبه إلى كوكب المدن خلال كتابة ديوانه ( الدار البيضاء ـ موسكو ـ ليما سول قبرص ـ طرابلس ـ مالطا ) ليعكس لنا الاختلاف في الكوكب بين الصحراء وأهلها والواحات وسكانها وكيف لسطوة المكان أن تشكل الإنسان وفق لونها وشكلها ومدها وجذرها وفكرها وحرفها حاملا لها بين العواصم والمدن ، عارضا لمعرضه الفني ، قارئا لديوانه البري ..
في الديوان نجد بعض الأشواك البرية التي كفانا الكوني قسوتها حيث حملت مفرداته الشاعرية بذور الحب والعشق لينثرها في الكون كله .. نحب معه الصحراء ويشدنا إلى ساكنيها لنعشق كما يعشقون حياتهم العميقة الواسعة والممتدة في أفكارهم وأساطيرهم وشرائعهم ورؤاهم وإبداعاتهم ..
كما نجد أشواكاً صوفية غرسها في الديوان رابطا بين الصوفية الخروج والصحراوية الخروج والزهد الصوفي والزهد الصحراوي .. من خلال الأرض التي يرفض الصحراوي أن يصبح عبدا لها وعبدا لعطاياها .. والبدن الذي يرفض الصوفي أن يصبح أسيراً له ولغرائزه ..
لذلك شكل الخروج والزهد وعشق الحرية قاسما مشتركا بين الصوفية وأهل الصحراء .. كذا التمرد على ما استقرت عليه عادات الفكر المألوف الأرضي بل وما خطه الشرع السماوي .. فيما يتعلق بالاقتران بالمرأة .
( هذا الوحي السماوي الوحيد الذي على الإنسان أن يكفر به ) وبين شريعة الواحات وعقيدة الصحراء نجد الاختلاف الذي يشكل تقاطع علاقات الفاعلية في النص والحوار الذي يمنحها بعدا للنماء والتفاعل .
الثنائية وثالوث المقابلات في وطن الرؤى السماوية :
يعكس ديوان النثر البري قضية فكرية جامدة وجامحة في الوقت ذاته جمودها يأتي من الثنائية والاختلاف المقابل للحياة والموت ، للتدفق والثبات للحيوية والجماد .. ومن أصوات النطق في الأبجدية وغيرها .. وأما جموحها فقد عالجه الكوني من خلال خطابه للزمن والوطن ومحاورته للأساطير ومعانقته للنصوص الكونية التي تكتب الحياة دون أن يقرأها أحد ..
هذا الجموح للحركة والسكون يأتي من كون الحركة لها دلالتها والسكون نقيضها له دلالته كذلك .. الحياة لها دلالتها وفاعليتها والموت نقيضها له دلالته أيضا . الكلام بحركته له دلالته والصمت بسكونه له دلالته كذلك . فكيف بحركة الصحراوي الدؤوبة ، والتنقل والخـروج والسفر والترحـال والبحث الدائم في الصحـراء عـن ( واو ) البعيدة بعد كانو والأقرب من حبل الوريد. الحركة المتمثلة في الصحراء بدلالتها المليئة بالحيوية والفاعلية والحرية والسكون المتمثل في الواحة المستعمر للأرض والمستعمر منها بما يحمل ذلك من دلالة استقرار وإنتاج وإعمار ..
كلاهما يجعل النص زاخرا بعلاقات الفاعلية .. تلك التي تمددت بين البادية والريف بين القرية والمدينة بين الشرق والغرب .. ورغم بعض التداخل في بنى الوعي الذي فرضه هذا التمازج والتواصل بين البني خاصة تلك البرجوازية إلا أننا نستطيع أن نتلمس علاقات الفاعلية في هذا الفاصل الممتد بين برزخ الصحراء وأفقها وبين الانتماء إلى الأرض والسكون إليها في الواحة .بين بنية وعي مفتوحة تتوق إلى: الحرية وتتأبى على القيد والعطية والأرض وحتى الاقتران بالمرأة ، ـ ليس لشئ إلا لأنه يشكل قيدا .. والإنجاب إلا إذا كان ذرية للحرية ، رافضا دفع الإتاوة ، ساخرا من الجذور إذا كانت جذور ذل .. كافرا بالسماوي إذا حد من حريته .. متمثلا النبل والشجاعة والقوة باحثا عن الحكمة عاشقا للأفق .. محاولا الكشف عن المجهول.
الصحراوي هذا المتمرد التواق إلى كل ذلك يمثل قيم بنية وعي متمردة ليست هي بنية الوعي التناسلي الذي يسعى لإثراء الحياة بفاعلية التناسل (فالتناسل في الواحات ينجب عبيدا للأرض) . والبقاء في الواحة لاستثمار الأرض يدفع به إلى اكتناز الثروة ومن ثم يقصيه إلى بنية الوعي البرجوازي الذي يرى فيها ذات القصور .. فلا التبر ولا التراب ولا المرأة ولا الإنجاب .. كل ذلك لا يلبي طموحه ، ولا يجسد فاعليته فاعلية الحب والإبداع والعطاء والحرية والأفق ..
أي بنية وعي يحتازها هذا الصحراوي الرافض لدفع إتاوة الحياة قيدا كان ذلك بالأرض أو المال أو ارتباطا بالمرأة وإنجاباً للذرية .
إنه يبحث عن ذاته وعن وطنه السماوي (واو) البعيد بعد كانو والأقرب إليه من حبل الوريد .. يبحث عن فاعليته في هذه الحياة بالخروج والخروج دائما .. بالترحال والترحال والسفر .. إنه في برزخ العراء وفي برزخ بين بنى الوعي .. البني القاصرة التي يتمرد عليها والبنية المفتوحة التي يتوق إليها .. تجذبه بنية وعي القصور بهذا التعصب ، وتجذبه بنية الوعي الخلاق بتعلقه بالأفق الممتد ..
هذا الأفق ( الذي تراه البنية القاصرة ) صديق السراب يتهامسان ويتآمران ويرتبان المكيدة .. يتعلق به باحثا عن المجهول مستكشفا لآفاق آخر متحديا لهذا التآمر وتلك المكائد . ولكن الحكيم حاول أن يخرجه من حزنه وأن يمنحه بعض الإشارات الضوئية المعرفية التي تنير له الطريق وتخرجه من هذه العتمة وتفتح له أبواب الأفق وتحسم له هذا النزاع بين القيد الوجودي والتوق الصوفي .
بين هذه الفاعلية المحدودة الأثر القاصرة وتلك الفاعلية الممتدة التي تعطى ولا تأخذ .. تمنح ولا تكتنز. بين هذه الفاعلية التي تتمتع بالحرية الكاملة وتلك التي تدفع الإتاوة وتقبل بالقيد تنازلا لمقتضيات الوجود .
هذا التنافر، هذا التنازع بين بنيات الوعي.. سعى الحكيم ..العرّاف ..النبي ( ليس الموحى له من السماء) سعى إلى تقديم هذه الإشارات من أجل أن تتآزر البنيات لدى هذا الصحراوي التائه فيختار بنية وعي خلاق تقارب الواقع .
لم يرده عن عشقه للأفق ، وحنينه للصحراء ، وعشقه للمجهول بل عليه فوق ذلك أن يحاول قول الشعر .. إنها دعوة للإبداع ثم اقترح عليه ( علام المجهول ) " الوجد نعمة أخرى أسقط في الوجد وارقص مع النغم " إنها دعوة للحب.
حتى شيخ الطريقة حدثه عن الحنين والمجهول والسراب والفناء والشعر والغناء ، ولكنه أكد له ضرورة الخروج للالتحاق بنعيم المعرفة ( فمن لم يخرج لم يجرب ومن لم يجرب لم يعرف ومن لم يعرف لم يشق ومن لم يذق طعم الشقاء لم يدخل باب الفردوس ) إنها دعوة للعلم والمعرفة .
وعندما قرأ الشيخ أفكاره قال له :( اعلم أن الداخل إليك لن يكون جليسك بحق ما لم يخرج من سجنه . من نفسه . واعلم أن الخارج منك إلى الدنيا لن يهتدي إلى السراط ويعرف ماذا يريد مالم يتحصّن بنفسه من السوي)
إنها دعوة لمقاومة النفس ومجاهدتها و(السوي) هنا ليس سوى تلك البنية السائدة التي تسّوي بين أبنائها بقوانينها وتحكمهم بأعرافها وتقاليدها وتلجمهم بضوابطها وتلزمهم بقيمها ومن خرج عن ذلك فليس بسوي إنه الجنون لديها .. والجنون فعل تحرير من إمبريالية وسطوة بنية الوعي السائدة ..
وعندما دعاه الشيخ إلى الخروج و المخالطة والمعاشرة ومعرفة الآخر ليعيش الحياة خرج إلى الناس و" لم يكن يعلم أن الأنثى هي الشرط الأول للخروج والزواج هو الإتاوة الأخرى التي يدفعها كل من أراد أن يعاشر الناس ويمارس الحياة " .
حرث الأرض وامتهن الفلاحة . اجتهد في عمله ففاز بثقة صاحب الأرض صادقه وزوجه ابنته الوحيدة . جاهد نفسه في الأرض ، وفي الناس سنوات أخرى .. تعلم معنى أن تزرع وتجلس في الكوخ منتظرا الإحسان من الأرض وعرف أيضا وجه الشبه بين المرأة والأرض"
وعندما " صمم أن يحطم القيد .. اكتشف أن المرأة تشده إلى الأرض بسلسلة أطول من السبعين ذراعاً .. أنجبت له الولد كي تستعبده بالنسل كما حاولت الأرض أن تستعبده بالخبز" جليُّ هنا وفق منهج التحليل الفاعلي أن كلاً من المرأة والأرض ليسا سوى هاتين البنيتين القاصرتين بنية الوعي التناسلي وبنية الوعي البرجوازي بما يحملان من خصائص .
ومادامت هذه حال الدنيا تصبح هاتان البنيتان بتنازرهما يفجران الكثير من الإشكالات والكثير من الصراعات ويزرعان الكثير من الشر بحكم تعصبهما واعتقادهما بأن كل واحدة منهما تمتلك الحقيقة وحدها. فقط في حال تآزرهما مع بنية مفتوحة يكمن الحل .
كان عليه كما أوضح الشيخ أن يعي أن الألم هو الحياة وأنه شرط الميلاد وشرط الوصول إلى بنية الوعي المفتوح .. وبنية الحب والإبداع والعطاء الشامل " فإذا لم يتألم الإنسان فقد مات غافلاً " وكثيرون أولئك الأحياء الأموات .. بينما البني السائدة (المغلقة) السّوية كما تدعى تقول العكس : " من مات بلا ألم فقد عاش حياته سعيداً "ولو كان الأسوياء يعرفون معنى الألم لما كانوا أسوياء .
السير أيضاً طريقة من طرق المجاهدة واكتساب الوعي : ( هاجر .. سر من الأرض .. وامض .. أعبر .. ولا تتوقف ).
وهنا دعوة للامتداد بالمعارف عبر مجاهدات الهجرة والتنقل والبحث والخروج لتفتح الأرض البكر أبوابها .. أرض الرؤى والسكينة .. وطن الرؤى السماوية .
( الفخ ) ومعنى الضياع والعزلة والحياة
بين شرائع الأرض وأعراف السماء شرعت عبقرية الكوني في قراءة الفردوس الأرضي " الكوكب الصحراوي " بتجسيد الأسطورة ومنحها دلالات تتوازي معها وتتقاطع مع عادات الفكر وتتباعد مع ما هو سائد وتتوافق مع الطبيعة بشكل كلي ....
نص "الفخ" في ديوان النثر البّري، نصب لي فخاً كقارئ وصدّر لي فاعلية (وتلك غاية الأدب) تمنيتُ أن أعيشها ولا أفصح عنها لولا عادة القراءة وهزَّ ما هو مألوف منها ..
استلقيت فترة بعد أن أكملت مطالعتها وبدأت في قراءتها فإذا بي أمام كوكب درّي كنت غافلاً عنه، وتلمست علاقات من الفاعلية لم أقف عندها كثيراً من قبل والتي كانت تختزل بعبارات وجمل تمحى سريعاً ولا تسترعى الانتباه إلا في مواقف تستدعي مضغ تلك الجمل أو التفوه بها :
.. من نصب فخاً لأخيه وقع فيه .
.. من حفر حفرة لأخيه وقع فيها .
.. إن الله يُمهل ولا يُهمل . الخ..
في الكوكب المترامي الأطراف (الصحراء) عالم من الكائنات اكتشف الكوني صلات القربى بينها لا انفصال هناك بين الحجر والشجر والجبل والوادي والجمل والودّان والإنسان والجان والسيل والسراب والروابي وحرارة الهاجرة والهجرة ... كل شيء في الصحراء يتألم ويفرح حتى الأرض الخرساء .. الحجارة .. ذرات الرمل ..
..الحطّاب يأخذ نصيبه من الخدوش لأن الحطب لا بد أن يأخذ نصيبه من معصمي الحطّاب قبل أن يحرق بالنار .. وإذا كان العود أخضر فتلك جريمة أن يقطعه الحطّاب ليتدفأ به .. إنه يعادل أكل الإنسان للحم أخيه الإنسان .
.." شجر حيوان إنسان .. نحن من صنع هذه الألقاب الغبية وما تسميه شجراً مخلوق مسالم لا ينطق ولا يتكلم ولا يبادر بسوء ولكن هذا لا يعني أنه ليس أذكى مني ومنك ومن أي إنسان " أجابت أم ( اخنوخن ) بيقين .
يبدو أن سكون الصحراء يجعل من الصحراوي يتلمس بحسه وسمعه كل حركة وبتأمله كل حقيقة غير عالمنا المليء بالضجيج والضوضاء والصخب والأضواء الأمر الذي لا يتيح لنا إرهاف السمع ولا يمنحنا مساحات للتأمل وقراءة ما تقوله كائنات الصحراء وما نشاهده من حيوانات أخرى بيننا .
في عالمنا غرور، اعتمد الإنسان نفسه المخلوق الوحيد على هذه الأرض، والذي سخرت له بقية الكائنات لأطماعه يعبث بها كما يشاء دون أي تواصل وجداني بيننا وبينها فالوجدان مات فينا غير ابن الصحراء الذي لا يعقل الطلح أو الودّان أو وصايا الأولين بعقله وإنما يحسُّها بوجدانه ويتحسَّسها ببدنه كذلك .
فالجمال حتى في الليل لها قدرة خفية على الإحساس بوجود أهل الخفاء حين تتوثب بحركة استنفار وقلق وتوتر وترفع رقابها في العتمة وتتلفت في عصبية .
..( الرجل النبيل لا يقيد جمله أبداً ) نصيحة على لسان الزعيم الحكيم .
فالجمل المقيد بعقال يمشي مسافات أبعد من الجمل الطليق ؟
الجمل المقيد يمشي إلي الأمام ليل نهار ولا يتوقف عن الحركة لأنه يشعر بالقيد فيحاول أن يتحرر من القيد بالتنقل بالحركة بالسعي المستمر إلي الأمام يصبح القيد هاجساً وجعاً سيفاً مسلطاً على الرقبة فيحاول أن يقهره بالسعي .. يجاهد بقطع المسافات في سبيل الخلاص.. يعبر الصحراء لينال في العبور الحرية.. الجمل المقيد يغفل حتى عن الكلأ الذي جاء من أجله.. يخترق الوديان الخضراء دون أن يتوقف.
يدخل السهول المفروشة بالعشب ليعبرها إلي العراء إنه لا يري سوى الأفق لأن حريته في المضي إلي الأمام وخلاصه في الأفق ولكن الأفق لا ينتهي إلاّ ليبدأ أفق آخر، فيجد الجمل نفسه وقد قطع مسافة خرافية بين يوم وليلة .. لأن الجمل لا يسعى وإنما هو في سباق جنوني مع الأفق مضى وقت طويل حتى فهم ( اخنوخن ) أن الرجل الحقيقي هو الذي يترك جماله ترعى في المراتع طليقة لأنها لن تحتاج في ذلك الحال لأن تسابق الأفق كي تتحرر من القيد . والثنى الطليق يستفز الجمال السجينة ويضاعف شقاءها بالقيد، وإذا تضاعف شقاءُ الجمال بالقيد فإن هذا سيجعلها تضاعف هروبها من نفسها ظناً منها أنها تهرب من قيدها .
سر كراهية أهل الصحراء للشبع :
الشبع في شريعة الصحراء هو الشيطان الذي يصنع الشر. إذا شبع الإنسان فلا يرجى منه خير. إذا شبع الإنسان تفرغ للمكائد . وبادر بالظلم وأبدع في اختراع الشر... إذا شبع الإنسان بشَّع كل شيء وحول حتى التسلية البريئة إلي جريمة .. فقد " ترجل ( اخنوخن ) وترك الجمل يرتع في أشجار الوادي تتبع آثاره عندما جاء منذ أيام وقرر أن يتسلّى بصنع الفخ ولا يعرف الآن سبباً لهذا العمل غير التسلية ..
الوديان فازت في أواخر الشتاء بالسيول .. النوق توالدت مضيفة إلي قطيعه اثني عشر حواراً . وحمل له الرعاة بشارة أخرى من المراعي وقالوا له إن ماشيته تكاثرت وتكاد تتضاعف بالجديان . ( تاسيلي) تفيض بالحليب والسمن والزبد والأجبان هذا العام. مؤونة السنة الماضية لم تنفد من المطامير فماذا دفعه لصنع الفخ غير الملل والتسلية . أغرته وفرة الخير فصنع فخاً للصيد وأطاح بشجرة كاملة حتى يتمكن من تركيب لعبته المشؤومة .
في وقت يقضي ميثاق الصحراء بأن يوافق من يعيش فيها ويلتزم بقوانينها ألا يسفك الدم وألا يصطاد أنثى نضوجاً تحمل جنيناً وألا ينزع عشبة من جذورها ولا يقطع غصناً من شجرة خضراء .
الودّان المسكين لا يعرف العزلة ...
لا يعرف أن المجازفة تبدأ لحظة اختيار العزلة
الخطر في العزلة ولكن الحرية في العزلة أيضاً
الخطر والحرية إذن رفيقان قرينان توأمان
المعتزل قوى حقاً لأنه لا يستطيع أن يعتمد على أحد يهرع لإنقاذه عندما يقع في الخطر عندما يهاجمه ضبع أو يلتف حول رقبته ثعبان أو يغويه السراب ويرميه بعيداً عن صراط القوافل فيجد نفسه أسير غول اسمه الظمأ ...
شاة الودّان التي اختارت أن تنفصل عن القطيع وتبحث عن الكلأ في وادي " اميهرو " بدل الوادي المجاور هي عضو شجاع قرر أن يصنع مصيره ويتولي أمر نفسه بنفسه، وما وقوعها في الفخ ( الذي نصبه اخنوخن ) إلا شهادة على هذه الشجاعة وبرهان على مسؤولية الاختيار.
خالف ( اخنوخن ) ميثاق الصحراء وخان العهد ( عندما شبع ) ولم يلتزم بشريعة الصحراء ولا بأسطورة الرباط المقدس الذي يجعل من كل كائنات الصحراء إخوة ينتمون إلي الأصل الواحد ...
حُق عليه العقاب ..
والإذلال هو ما يليق بالصحراوي إذا اختار بلا سبب أن ينضمّ لعشيرة الأشرار .. الذل في عرف الصحراء أشر من الموت .. الذل عار والعار أسوأ من الموت ...
احتمى ( اخنوخن ) من حملة التعذيب بقبر الأم .. أصبح يقضي لياليه متوسداً قبر الأم .. حوّل القبر إلي مأوى يعتصم به في الليالي من العقاب . هجر الوديان والكهوف وصنع من المقبرة بيتاً يأوي إليه في كل ليل .. أصبح يحتكم إلي الحرم ( قبر الأم ) هذا الحصن تحول إلي سجن
تحول ( اخنوخن ) إلي أسير في هذا الحصن وجد نفسه مشدوداً إلي حجارة القبر مثل معزةٍ مقيدة إلي الوتد بحبل أصبح الحرم سجناً بعد أن كان خلاصاً وملاذاً له من عقاب الجلد اليومي من أهل الخفاء ..
وإذا كان للمعزةِ سيد يأتي لها بحزمة عشب فإن القدر جعل منه عبداً بدون سيد هرب من عبودية العصا وعار الضرب ( من أهل الخفاء ) ليجد نفسه طفلاً يحتمي بتلابيب الأم وعبداً لحجارة قبر ...
.. نبش القبر وحمل معه الرفات تميمة احتفظ بها في جراب السرج كي تؤنسه في وحدته ...
إلا أن الرباط المقدس الذي يجعل من كل كائنات الصحراء إخوة ينتمون إلي الأصل الواحد .. لم يجد عنه فكاكاً ...
فاجأه السيل .. هذا الغول الذي لا يرحم .. تلقفه اللسان الوحشي وفرَّ به عبر الوادي
في صباح اليوم التالي وبعد المعاناة القاسية اكتشف ( اخنوخن ) أن الشجرة التي أنقذته من الموت ووهبته الحياة هي نفس الطلحة التي جرَّدها من الأغصان الخضراء وأطعمها للنار كي يتدفأ بها ...
الشجرة أعادت له الحياة، ولكنها أخذت منه تميمة الحياة ... أخذت منه رفاة أمه .. جمجمة أمه التي كان يحتمي بها من العقاب .
قضى شهراً كاملاً وهو يتفحص الوديان ويفتش الشعب بحثاً عن جمجمة أمه .. عاقبه الصوت بدلاً من السوط .. ظلَّ يركض، أحس أنه كائن غير الصحراوي، حاول أن يلتقط الهواء سدت السكِّينة الناريةُ كل المنافذ والأوعية والقنوات والأوردة. جحظت عيناه .. دارتا في محجريهما في تحية وداع مهداة إلي الملكوت الصحراوي في الأفق.
أحاط لثامه برقبته، لم يلحظ كيف سقط طرف اللثام وتعلق بنتوء بارز شرس في الصخرة .. أطلق أنيناً طويلاً موحياً كأنه جمل يذبح .. وقفز قفز من القمة لم يسقط إلي الأرض . القدر الذي حوّل اللثام في رمشة إلي فخٍّ تلقفه قبل أن يبلغ السفح شهق طلق التنفس ودَّع النفس فاستقر في فعلتيه تسليم وخلاص، وبسمة غموض .
نفس الغموض الذي نطقت بع مقلتا الأم المشدودة إلي الفخ المعلقة من رجليها الخلفيتين في الجبل .
إنها غضبــة الصحراء... معنى الضياع والعزلة والحياة ...
فقد الأم ولكنها تركت له الصحراء أو تركته أمانة في عنق الصحراء عهدةً في يد الصحراء، خان العهد فتنكرت له الصحراء أمُّه الثانية ... أمُّه بالتبنِّي قتل الأم الأولى .. الأم التي جعلته يحس بصلة القرابة بينه وبين الصحراء ..
بينه وبين كائنات الصحراء
بينه وبين الجن
بينه وبين الودّان
بينه وبين شجرة الطلح
بينه وبين طائر الوقواق
أحسَّ أنه لا يبكي عزلته ولا تيتمه ولا فقدان الأب والأم وإنما يبكي غضبة الصحراء
يبكي ضياعه الأبدي
هذا البكاء في ديوان النثر البري تقابله البكائيات في ديوان الشعر العربي إنه بكاء الضياع الأبدي ..
العمامة الزرقاء :
وفي بحثه عن فهم الكائنات الصحراوية يستنطق ( الكوني ) هذه الكائنات حتى الصماء منها راسماً أسطورة هذا الكوكب الصحراوي في حوار تتلألأ حروفه كومضات النجوم وتتخفى معانيه متلفحة العمامة مخترقة السر ، سابرة الغور .. فالجبل المدبب جنوب الحمادة الحمراء الذي صلّى طويلاً وطلب في صلاته الصامتة عمامة من السماء تقيه صفعات القبلي وتحميه من حريق قرص النار المعلق فوق رأسه لتجعل منه شبيهاً جليلاً بأهل الصحراء النبلاء .
سمعت الحمادة الحمراء شعائره الصامتة فحدثته وحاورته متفقة معه بأن الآلهة ترفض من يشاركها في الكبرياء كما ترفض السماء رأساً ينافسها في الارتفاع فمن أراد أن يجاور الآلهة ويحتفظ بالعُلا عليه أن يفهم طبيعة الأشياء .
حرَّك الكوني شخوصه في حوار وحركة استجاب الجبل لحاجة الحمادة وطلبها بأن نطح السحابة بعد اعتراضها بالعمود المنصوب على رأسه فأصابها بجرح بليغ بدأت تنز الماء وتبكي .. اعتذر الجبل لها بعينين دامعتين وخاطبها بطلب الغفران إنه جزء من استحقاقات الحياة على هذا الكوكب .. شربت الحمادة حتى ارتوت فأجابته إلى طلبه وذلك بأن أخرجت أثقالها وسلطت على الجبل الأقهب بركاناً قاسياً استمر يلفظ الحمم عدة شهور . تعذب الجبل وغاب في الظلمات ولد من جديد فأوقفت الحمادة حمم أحشائها .. تلونت قمته بالزرقة وجد نفسه أخيراً يرفع رأساً متوجاً بعمامة زرقاء .
إنها رسالة من ( الكوني ) في تبريره للأشياء والمرجعية السببية لها فليست خارج الكون ، إن المرجع السببي هي الذات نفسها فلا الدعوات إلى السماء ولا الانتظار إنها استحقاقات الحياة وفاعلية الذات فيها .
المبتدأ في سفر الشقاء..
وفيها سطر ( الكوني ) أسطورة الصحراء والجمل والعهد الذي قطعه بأن يحمل عنها الإنسان مقابل حصانة تهيّئها له ضد غول الصحراء ( الظمأ ) .. وصبراً على الماء تخصه به من دون الحيوانات كلها .. هذا العهد الذي كتب في اللوح المحفوظ .. كان المبتدأ في سفر الشقاء لأن الجمل تمنى أن تحمل الصحراء عنه الإنسان وتعيد له الظمأ .
الاعتزال والانعتاق والحرية..
قضية فكرية هامة جداً وشائكة وتشكل إحدى الأعشاب الشوكية في هذا النثر الثري .. تلك هي قضية الحرية والانفصال والاعتزال ، مفهوم الحرية يقتضي النظر إليه من ناحية فكرية فلسفية ماذا يعني وأين يكمن الخطر فيه ، هل غطاء الوحدة يشكل أماناً ولكنه يسلب الحرية ، وهل الحرية تقتضي العزلة ولكنها تشكل خطراً ؟
يقول الكوني في ( الفخ ) الذي نصبه (اخنوخن) لشاة الودّان :
" قطعان الودان لا تنزل لترعى في السهول إلا في الليل . تنزل في قطعان عادة ، وتعود لتعتصم بالقمم قبل انبثاق قبس الفجر . ولكن هذه الشاة لم تكن عضواً في قطيع . ربما انفصلت عن القطيع في الوادي المجاور وقررت أن تجرّب حظها وحيدة. الودّان المسكين لا يعرف العزلة،لا يعرف أن المجازفة تبدأ لحظة اختيار العزلة . الخطر في العزلة والحرية في العزلة أيضاً . الخطر والحرية إذن رفيقان " قرينان " توأمان وهذه هي الحيلة الوحيدة ، الحكمة الوحيدة التي لم يسمعها من الأم ، ولم يتعلمها من الأسلاف ، ولم يقرأها في رموز الكهوف . هذا هو المبدأ الوحيد الذي تعلمه بنفسه في الصحراء . المعتزل قوي حقاً لأنه لا يستطيع أن يعتمد على أحد يهرع لإنقاذه عندما يقع في ورطة عندما يقع في الخطر . عندما يهاجمه ضبع . أو يلتف حول رقبته ثعبان أو يغويه السراب ويرميه بعيداً عن صراط القوافل فيجد نفسه أسير غول اسمه الظمأ . " ص 50
ويواصل الكوني مناقشته لهذه القضية بتأمل عميق :
" ولكن هل يستطيع القطيع أن يفعل شيئاً ؟ هل يفيد التواجد بين الجماعة حسب شريعة الصحراء ؟ " ص51
ثم يقرر :
" لا . لا يفيد ولا ينفع . بل يؤذي أكثر مما يفيد . لأن الأذى إنما يأتي أغلب الأحيان من الجماعة. العضو في قبيلة . أو في قطيع يسترخي معتمداً على الجماعة . وما أن تحل لحظة الامتحان ويحتاج لمساعدة أعضاء القطيع يكتشف أنهم أضعف من أن يساعدوا حتى أنفسهم . يكتشف أنهم كانوا . طوال الوقت ينتظرون يد المساعدة منه هو لا أن يقوموا بتقديمها له . يكتشف أنه غريق يتعلق بقشة . يكتشف أنه مخدوع " ص 51
ثم يعود (الكوني) ليقرر أنه ليكتشف ذلك لابد أولاً من أن يعيش في القطيع يقول
" والمصاب أن من لم يجرب الانتماء إلى الجماعة ، والقطيع لن يستطيع أن يختصر الطريق ويتولى أمر نفسه بنفسه . وشاة الودان التي اختارت أن تنفصل عن القطيع وتبحث عن الكلأ في وادي (إميهرو) بدل الوادي المجاور . هي عضو شجاع قرر أن يصنع مصيره ويتولى أمر نفسه بنفسه .
وما وقوعها في الفخ إلا شهادة على هذه الشجاعة . وبرهان على مسؤولية الاختيار" ص 51
تلك إحدى القضايا الهامة التي نثرها الكوني في ديوانه مستلهماً لها من التجربة .. فهل تتوافق عادات الفكر في فهم العزلة على أنها شجاعة وليست انتحارا .. وفي أن الكائنات الحية كائنات اجتماعية وخاصة الإنسان وأن اجتماعيته صحيح أنها تسقط جزءاً من حريته بمقابل هذا الانتماء ولكنها تصون وجوده وتحفظ حياته ...
قد نتفق نوعاً ما في أن القطعان البشرية الآن يهشّها الراعي وفي الوقت نفسه تسعى هذه القطعان أن تحقق حريتها ولكن من خلال انعزالها وانفصالها .. والشجاعة هنا تعني الانتحار دون مقابل كما فعلت شاة الودان .
أما الدائرة السرية للاعتزال فقد شكلها (الكوني) في تأملات الضب في جحر البيات الشتوي .
لقد عرف أن الصيام ليس تميمة لعلاج الهوى وحده ، وإنما هو الذي يرجع له الفضل في إكساب المناعة ضد الموت . ولا يعرف أولئك البلهاء الراكضون وراء الشبع والامتلاك أن صيامه هو سر خلوده إذ لاحظ بالتجربة أن الجوع يصفي الدم ويطرده من البدن وعندما يختفي الدم في العروق والأوردة ، أو عندما يتراجع إلى الحد الأدنى ولا يتبقى منه سوى قطرات . فإن الموت يهرب مع سائل الدم ، ولحياة تستر من مكان آخر غير الأوعية أو الأوردة أو العروق ..
" كاد يفك رموز المعادلة السحرية . كاد يقول أن مفتاح اللغز في الاعتزال . المعتزل خالد لأنه ميت وميت لأنه صائم وصائم لأنه ممتنع ، وممتنع لأنه قوي وقوي لأنه وحيد ، ووحيد لأنه زاهد لأنه فان والفاني هو المخلوق الخالد . في هذه النقطة تقفل الدائرة السحرية لتبدأ من البداية وأهل الصحراء البلهاء الذين يجهلون المفتاح يدورون في فراغ المتاهة ويحلمون بالخلود بدون قرابين ولا يعلمون أن الخلاص أقرب لهم من حبل الوريد . لا يعلمون أن الخلاص هو الزهد في الخلاص . كما أن الحياة هي في رفض الحياة . وهو مخلوق خالد (أي الضب)لأنه يتلذذ بالفناء ويجد متعة بالصيام أو الغياب في غيهب القبر . ومن أراد الحياة من أراد الخلود يا بلهاء فليفعل مثلي .ص160
" لم يدرك أن النار لا تأكل إلا من يأكل . والسكين لا تقتل إلا البدن المسكون بالدم . والموت يهجر البدن الميت لأنه لا يجد ما يتغذى عليه . والعدم يفر من جسد تيبّست فيه الأوردة والأوعية والعروق . والحياة تتعلق بمخلوق يعتبر الآخرون أن لا حياة فيه .
بهذه الخاتمة تنقفل الدائرة السرية " .ص 16
الأفق الأفريقي في قراءة الكوني..
هارى كريسكى من معهد الدراسات العالمية – بيركلي في مقابلة مع وولي شوينكا سأله عن رؤيته حول المزايا الأساسية التي تجعل الشخص كاتباً ؟ فأجاب " أن يفرق الإنسان نفسه في خضم متنوع من الخبرة والظاهرات ، بعبارة أخرى القدرة أن يهب أو يرهن وعيـه وإحساسه لمظاهر الحياة من حوله . إنها أساسيات عمق التفكير " (5)
ذلك ما قرأناه في قراءة (الكوني) لمظاهر الوجود حيث التقى الإشراق الصوفي بالزهد الصحراوي بصور الديانات والأساطير وسيمياء الثقافة الأفريقية ومعطياتها التي ترسم في مجملها الموت كذروة رحلة إلى الحكمة . فالكائن الذي يموت يكمل وعيه بحياته أو يعبر الخطوات في اعتلاء وخروج .. فالموت يكون جواب الحياة .. والمرور من الولادة إلى الموت يستلزم حشد التورية والخرافات والألغاز في التوحد .. هذا الجمع والتوحيد إضافة إلى الصور تقود القارئ لأن يعتقد في أن تلك الحياة ما هي إلاّ اللغز أو النكتة التي تحل بالموت . فالثمار التي تنتظر هي في نهاية الحياة .
شوينكا يعلى أو يمجد الموت بوصله بوضوح بأهمية الظاهرة في الاعتقاد اليوروبي(6) :
التلال ، الأرض ، المطر ، وطرق الحياة ، كل زمرة تشكل مصدراً خاصاً للطاقة .. فهناك عوامل فعالة خصوصاً في علم لاهوت المجموعة العرقية .. التلال قد شرفت تقليدياً كبيوت الآلهة ، لبضعة أسباب فقد قدموا حماية رائعة خلال زمن الحرب ، وكانوا بحجم الإلهام رهبة ، واستحوذوا على الفكر بكثافة النباتات الغامضة بكونها بيوتاً للحيوانات والأرواح الطائشة وحافظوا على الحضور السرمدي ، كما عرفوا أن يدوموا أطول من أجيال البشر.
فالتل وسيمياء الصخر وقمة الجبل وأصابع الشوكة على التل الحجري والأرض كبيت لبقايا الأسلاف . والموت الأقرب إلى الأرض المقدسة من الحياة . حملت كلها كما حمل المطر أهمية عظيمة في دين اليوروبا بطقوسه الأكثر شكلية في أرض اليوروبا .
أمّا عند ( الكوني ) فالأفق الأفريقي في قراءته لكوكب الصحراء الكبرى ، أو الفردوس الأرضي لا يبعد كثيراً عن تلك الأساطير وإن كان العمق والإيحاء والدلالة تزيد من عمق العراء والصحراء في تدوين الأسطورة .
والأساطير هي قراءة إبداعية لمنظومات الكون ، هي دلالات وتفسير لعلامات وسيمياء ومظاهر وآيات الكون . و ( الكوني ) سعى من خلال قراءته العميقة عمق الصحراء إلى نقل الوجود المغلق الأخرس إلى حالة شفوية منفتحة أمام لغة يستوعبها الجميع . إنه يستنطق الأصل والماقبل فيخضع كامل الكوكب كعالم متفرد معزول إلى خطاب نقرأ من خلاله الدلالات الغنية بصورة فنية لاستكناه هذا العالم اللغز وسبر أغواره .. عالم المتناقضات .. حياة الموت وموت الحياة . الانعزال والاتصال ، الفردوس الأرضي بوحشيته وقسوته وبحنانه ورقته ، بضوئه وأشعته بظلامه وعتمته .. يعيش فيه الضب معتزلاً صائماً زاهداً متماهياً مع الصحراء .. ويحيا فيه الغزال والودان والإنسان مليئاً بالحيوية في هذا العراء .
وبين الميلاد والفناء لغة الطبيعة الصحراوية العصيّة التي لا تنداح إلاً لابنها طيّعة مستسلمة لقراءته الإبداعية ناثراً فكره البرّي في ديوانه .
من هذه البرية نلتقط ما يربط هذه القراءة بالأفق الأفريقي .
.. واو التي يبحث عنها الأب وابنه والصحراوي عموماً هي أبعد من كانو وأقرب من حبل الوريد ص9 .
..لست أنا من اخترع الشريعة . والزعيم يكف أن يكون زعيماً في تلك اللحظة الجنونية التي يخالف فيها تعاليم الأسلاف .
.. أنت لا تعلم أن لي أبنة من امرأة زنجية عقدت عليها في كانو منذ زمن بعيد كنت أقوم برحلة تجارية وأنا في عمر الهوى والحماقات . راقت لي فتزوجتها . أنجبت بنتاً والبنت الآن في عصمة زنجي .. ولي حفيدة زنجية ، هل تصدق أن حفيدتي زنجية .
.. في تلك اللحظة فقط نزل الإلهام وعرف التاجر القديم الذي قطع الصحراء منذ كان فتى يرافق الأب إلى جنوب القارة . أن التجارة أيضاً باطل لأنها لا تساوي قطرة ماء.
ونحن نربط بين (واو) و(كانو) و(المرأة الزنجيّة) و(الابنة) التي هي في عصمـة الزنجي و(الحفيدة الزنجية) نربط كل تلك الإشارات مع تقديس الأفارقـة (للأسلاف) وهو ما ورد كثيراً في ديوان النثر البري .
(قبور الأسلاف) التي تنبئ بالمستقبل.
(إدبني الذي يخفى رفات الأسلاف) ص 32
(وجدت مزبورة في جدران الكهوف حيث حفرها الأسلاف)ص44
(رفع رأسه إلى السقف وتلهى بمشاهدة الجموع التي أتقن الأسلاف حفرها في الصخر) ص45
(صعد المرتفع المزروع بمقابر الأسلاف) ص63 .. تعاليم الأسلاف .. إلخ
أما الديانات الأفريقية التي دائماً ما ترتبط بالأسلاف فيجسدها عدد من الأدباء الشعراء الأفارقة .. حيث رسم ويلي شوينكا في قصيدته ( الدورة Last Turniny ) رسم الموت كرحلة عقلية وفيزيائية فالشخص الذي يموت يكمل وعيه بحياته أو يعبر " الخطوات في اعتلاء " .
الموت يكون جواب الحياة .. المرور من الولادة إلى الموت .. الموت يكسو ثقب الحياة .. الموت أكثر ثمرة من الحياة والشخص الحي الميّت الذي يحاول أن يجني كل الحياة.. يجب أن يصلي قبل أن يفقدها إلى الأبد .
شوينكا يرى أن الحياة ليست ثمينة كتلك ، .... الرحلة إلى الموت في " طريق الأعشاب الضارة " الطريق مليئة بالنباتات القاحلة .. عندما يموت الأحياء يصلون " بيّارة الحياة " حيث التمر الوفير ، الحياة هي عشبة ضارة ، ذلك أن الناس يتعلقون بها بشكل يائس لكن الموت على الرغم من كونه محملاً بثمار الفردوس فمازالت أسباب الميتة تعود إلى العصر بالأيادي الهزيلة .. وهنا كما يبدو يقترح شوينكا أن لا موت ولا حياة بل هي خبرة إيجابية كاملة .
ومعظم الشعوب الأفريقية يقوم نظامها الاجتماعي على أساس دقيق من النظام التدريجي، الذي يشمل الموتى والأحياء، فلكل مرتبته الخاصة، وأعلى مراتب هذا النظام يختص بها الأسلاف العظام الذين أسسوا القبيلة، ثم يليهم في المرتبة من الموتى الجد الأعلى للأسرة، ثم أسبقيتهم في الوفاة، ويأتي بعد هؤلاء جماعة الأحياء على الترتيب.(7) إنها الخبرة الإيجابيّة الكاملة.
وفي ديوان النثر البري نلتقط الإشارات الكثيرة جداً .
.. عندما يتعب كوز الطين ويبيد وتقترب الساعة التي يتحرر فيها عصفور النور من وزره فإن الأرض لا تأخذ إلاّ كوم العظام . أما العصفور فيطير إلى واو . ص15
.. لن يترك خلفه نسلاً . القيد مسلط على رقبته من السيف .. إذا أخذه معه إلى واو
ضمن له السكينة .. و .. الخلاص الأبدي ص26
.. ظل الأب يتأمل القمة النفيسة .. الرأس الحقّي الساعي للالتحام بالله الجنين المتمرد على سلطة الأرض . التواق للتحرر من كوز الطين والخروج إلى خلاء الحرية ..
.. أفلت الطائر من القفص وطارت شعلة النور . بقى كوز الطين هامداً متحداً ،
مستسلماً للتراب . في العراء الحزين الخالد اكتمل نزول العتمة ص 38 . ال
استعباد البنية وأخطار الحرية..
يستوقفنا ( الفخ ) مقطـع (8)* من بين أعشاب البر ليطرح أمامنا قضية جد عميقة .. عمقها ينطلق من كونها الحكمة الوحيدة التي لم يسمعها من الأم . ولم يتعلمها من الأسلاف ولم يقرأها في رموز الكهوف .. والمبدأ الوحيد الذي تعلمه بنفسه في الصحراء ..
خروجاً من عادات الفكر التي صممت الحياة الجمعية وأرست ثوابت النظرة القطيعية الجمعية من كون الإنسان كائناً اجتماعياً لا يستطيع أن يعيش بمفرده أو يلوذ بقداسة صمته .. عليه أن يحتمي بالقطيع ليؤمن نفسه من الضياع .
فالودان المسكين لا يعرف العزلة
لا يعرف أن المجازفة تبدأ لحظة اختيار العزلة
الخطر في العزلة
والحرية في العزلة أيضاً
الخطر والحرية إذن رفيقان .. قرينان .. توأمان
والمعتزل قوي حقاً لأنه لا يستطيع أن يعتمد على أحد يهرع لانقاذه عندما يقع ي الخطر
إذن الهدف هو الحرية ، ولا يستطيع أن يجازف ليتحمل هذا الخطر إلاّ من اتصف بالشجاعة وقرر أن يصنع ويتولى أمر نفسه بنفسه مبرهناً على مسؤولية الاختيار ..
وتأييداً لهذه الفكرة يتساءل المبدع : هل يستطيع القطيع أن يفعل شيئاً ؟
هل يفيد التواجد بين الجماعة حسب شريعة الصحراء ؟ ويجيب : لا . لا يفيد ولا ينفع بل يؤذي أكثر مما يفيد . لأن الأذى إنما يأتي أغلب الأحيان من الجماعة .
العضو في قبيلة أو في قطيع يسترخى معتمداً على الجماعة وهي أضعف من أن تساعده.
والإسقاط هنا يتمثل في كيفية الخروج من القطيع .. التحلي بالشجاعة .. مخالفة السائد واعتزاله والتمرد عليه .. اكتساب المشروع المخالف للبنية السائدة التي تحكم القطيع بأعراف وتقاليد وموروث وعادات هي أسّ البنية السائدة..
فالشجاعة إذن في التحرر من أسر القطيع الخائف أبداً والذي يعتقد أن البنية ستحميه وتوفر له الحماية ثم يكتشف الخدعة والزيف . هذه البنية المغلقة والقاصرة والحاكمة والمتحكمة والحارمة لأفرادها من الحرية تخدع الجموع بأنها هي المأمن والملاذ ، وفي حين أنها ترعبه وتغرس في قلبه الخوف وتحذره من المجازفة والعزلة ، وتحول بينه وبين الشجاعة والحرية واتخاذ القرار الجرئ ، فإذا ما خالفها كادت له وأنبته وعاقبته وتخلت عنه .
وإذا ما انعزل فإنه يكون بذلك قد اتخذ قراره بنفسه ويتحمل كامل التبعات التي تترتب على هذا التصرف حتى ولو كلفه حياته .
الإسقاط هنا في الجرأة والشجاعة والمبادرة والمبادأة ومخالفة القطيع الذي يشكل حماية وهمية .. لأن القطيع الخاضع للبنية والمستعبد لبرامجها وضوابطها يغرس فيه الخوف وينتزع منه روح المبادرة والمجازفة والحرية.
والمصاب أن الإنسان – كما الشاة – لا يعرف التمرد ولا يتوق إلى الانعزال دون أن يجرب قسوة الانتماء ويكتشف الحماية الوهمية ولو أدرك الإنسان ذلك لاختصر الطريق على نفسه إلى نفسه وأدرك أن قيمته في داخله ، وحريته يحققها بإرادته وشجاعته وأنه يمكنه أن يبدع ويثري الحياة دون الخضوع لسيادة البنية ودون الركون لاستعبادها ودون قيود التعصب التي تفرضها عليه .
فالبنية السائدة الحاكمة للجموع تحدد له مساره وفاعليته . والخروج عن المألوف والسائد يحمله عناء مواجهة الأخطار . لكنه يكسبه نفسه ، ويمنحه حريته ، ويسترد به شجاعته وقوته . في حين أن البقاء في القطيع يستعبده ، ويغرس فيه الخوف موهماً أياه بأن ذلك يجنبه الأخطار ويشكل له الحماية .
والانتماء الذي يشكل هوية تقليدية لقطيع وفق محددات تاريخية جهوية لغوية دينية عرقية ، هو انتماء لا إرادي وجد الإنسان نفسه فيه وهذا الانتماء لا يعني بأي حال من الأحوال قدراً لا فكاك منه .
صحيح أن مخالفة السائد والتمرد على المألوف والخروج من القطيع واختيار العزلة بل واحتياز البنية البديلة المفتوحة به الكثير من المخاطرة والمجازفة لكن به أيضاً الشجاعة والحرية والتألق والإبداع والتفرد والتميز والانعتاق..
صحيح أنه قد يقع في الفخ ولكن بشجاعته قد يحرض الآخرين لبناء شخصياتهم المتفردة وكينونيتهم المستقلة وإبداعاتهم المتميزة .
بقى أن نشير هنا إلى أن القطيع من الشياه قد لا يتأثر بخروج شاة منه ولكن البنية السائدة في المجتمع ستلحق بك الأذى إن خالفتها أو تمردت عليها أو سلكت طريقاً غير ما يحقق لها مهامها وأغراضها ..
وطريقها يتمثل في التعصب والاعتقاد بامتلاك الحقيقة والالتزام بالأعراف والتقاليد والعادات .. وإذا قبل الفرد أن يكون ضمن هذا القطيع سيقبل حتماً أن يهشه الراعي وأن يسلك به الطريق الذي يحدده له ويطعمه العشب الذي يقوده إليه .. وعليه أن يقبل بالقيود التي يفرضها عليه وأن يتحمل الأذى الذي سيلحق به وأوله انعدام شخصيته وفقدانه لحريته ، وقيمته التي يحددها له الآخر .
من هنا كانت فاعلية المبدع بهذه الإشارة التي اكتسبها بنفسه لم يجدها في تراثه الذي خلفه الأسلاف ولا من الجموع التي عاش معها .. و ( الكوني ) في تأملاته للحياة الجمعية في الصحراء لا يصورها لنا بقدر ما يدعو مركزاً على الانعتاق والاعتزال والخروج بما يحمل من دلالة ومخاطر .
لقد حصر فاعلية الإنسان الصحراوي في التوق إلى الانعتاق والحرية إلى الآفاق .. إلى العراء .. إلى الخروج من كوز الطين . حصر الفاعلية في التأمل والحوار مع كل الكائنات للتوصل إلى المعرفة وحل إشكال الوجود . بالدعوة إلى التمرد على القطيع من أجل التعدد والتنوع والثراء والتجدد والحرية .. وعرّى البنى المغلقة بأن حريتها مقيدة وتكسب الضعف وتفرض القيود وتشكل استرخاء يضعف الفاعلية ويجعلها قاصرة وضيقة ومحدودة الأفق .
فاعلية البنية اللغوية :
وما يهمنا هنا ليس ورود المفردة بهذا الزخم المتناغم مع مئات المفردات المشبعة بالألف الممدودة . ولا التناسب في الاستخدام والتساوي في العدد بقدر ما يصلنا من دلالة هذا الاستخدام حيث يشير إلى أن الكوني لم يعشق الصحراء بحد ذاتها فحديثه عنها محدود جداً إذا ما قيس بصفاتها أو بساكنيها . وتكفي الإشارة إلى أن أكثر ورودها مضافة إلي حيث وردت ( 89 ) مـرة مثل :
( ابن الصحراء ، يد الصحراء ، أهل الصحراء ، عشق الصحراء ، عقيدة الصحراء ، ما وراء الصحراء ، حدود الصحراء ، سكون الصحراء ، هواء الصحراء ، تعذيب الصحراء ، سكان الصحراء ، تقلبات الصحراء ، شريعة الصحراء ، كائنات الصحراء ، أمام الصحراء ، عنق الصحراء ، غضبة الصحراء ، جسد الصحراء ، عرف الصحراء ، حياة الصحراء ، سفر الصحراء ، قبيلة الصحراء ، أصحاب الصحراء ، كنوز الصحراء ، ملاك الصحراء ، فتنـة الصحراء ، ضيوف الصحراء ، استضافة الصحراء ، قدرة الصحراء ، كفاءة الصحراء ، ، عبور الصحراء ، قساوة الصحراء ، ملـذات الصحراء ، امتداد الصحراء ، سيد الصحراء ، وجه الصحراء ، طبيعة الصحراء ، بدن الصحراء ، غبار الصحراء ، أحلام الصحراء ) وهكذا .
وذلك يعني أن الاهتمام بساكني الصحراء وتأثرهم بها ومشاعرهم تجاهها ، وأعرافهم وشرائعهم فيها ، وتأملاتهم لها ، واتقاءهم لغضبها وتسامحهم معها ، وتبنيهم لها وعشقها .. شكل ذلك المنطلق الذي اهتم به ( الكوني ) بإبرازه وتجسيده ، فتحدث وتغنى بكل الكائنات التي تعيش في الصحراء أكثر من حديثه عن الصحراء نفسها .
المنطلق إذن هو الإنسان والكائنات التي عايشها وعاشت معه وكيف نفسه معها وخلق الأساطير لاحتوائها وتأثر بها وعشقها فتميز في هذه البنية عن غيره .. وتشكل من خلالها صفاءً وأفكاراً ومشاعر ورؤى ..
ألهمه مجتمع الصحراء الصور الفنية الزاخرة التي حشدها على امتداد تراكيبه ونثره الشعري .. باحثاً ومنقباً عن الحقيقة عن ( واو ) الضائعة ... فتنازرت البنيات من خلال طرحه لفلسفة الضب التي تدعو إلى قطع الأمل والاعتصام برؤوس الحجارة والرؤية المفتوحة للودان الذي يدعو إلى الأمل والحياة
الإيقاع الذي اختزنه ( الكوني ) وسيطر على أسلوبه ، هو غنائية الألف الممدودة قافية وإيقاعاً وحشداً لمفردات تنم عن تكوين وجداني خلقته وشكلته الصحراء بمدها وامتدادها ، بعرائها وأفقها .. فامتلأ النص بها من ( هباء ، شعراء ، وأهل الخفاء ، والرقاب الهيفاء ، والمساء ، وأهل الصحراء النبلاء ، والعمامة الزرقاء ، والحمادة الحمراء ، وطبيعة الأشياء ، ونقاء الهواء ، والغطاء والرمضاء ، الشقاء والبقاء والانتشاء ، الوراء والصفاء والنداء والبكاء والكبرياء الماء والكتلة الممسوسة السوداء . الالتقاء والإغواء وميزان الأشياء . الفناء والغناء والخباء والبلهاء . الأسماء والعطاء والبقاء . الأعضاء والظلماء . الجزاء والامتلاء والحكماء .. سلطان الضياء ، الأبرياء والأرض الجدباء وتفتح الأثداء وإدرار السماء والحجارة السوداء.. الغشاء والانتماء . العزاء والفقهاء ، وسلالة الأنبياء . ذرات الهباء وصلاة الرجاء ، الشتاء والنساء والأشقياء ومشية الخيلاء . العراء والخلاء والفضاء ..)
حتى معظم الديوان كتبه في ( الدار البيضاء ..
وسيطرة هذا المد بألفه على أسلوبه وإيقاعه منح النص انطباعاً جمالياً أوقل خاصية جمالية مرتبطة بمعشوقته الصحراء .. وبنموذج إحصائي تتبعنا مفردات ( السماء ، الخلاء ، العراء ، الفناء ، الفضاء والأفق ) حيث وردت السماء (90) مرة والخلاء (20) مرة والعراء (40) مرة والفناء (20) مرة والفضاء (15) مرة والأفق (60) مرة وهي بمجملها (245) في حين وردت مفردة ( الصحراء ) (316) مرة .. بما يصل المجموع إلى ( 561) مرة في وقت استخدمت فيه كلمة الواحة ( 10) مرات فقط في مجمل الديوان ..
ومفردة الصحراء التي وردت (316) مرة مركبة وفق تركيبات مختلفة مقصودة بذاتها مبتدأ أو فاعلاً أو نائب فاعل أو مفعولاً به 77 مرة
وتركيباً وصفياً ( صحراوي ) 71 مرة
كما وردت مجرورة بحرف الجر 79 مرة
ومجرورة بالإضافة 89 مرة
ونقرأ من خلال التميمة البرية القديمة ما يلي :
( إن كل مخلوق مسؤول عن اختياره ، والقـدر لن يكتب الحرية لمن اختار القيد واستسلم منذ البدء ) ص127
ومن خلال طرحه للخروج من أسر البنية والانفلات من القطيع كانت قراءته لشاة الودان التي اختارت الحرية وتحملت نتاج اختيارها بشجاعة .
ومـن خلال دعوته للخروج عن البنية السائدة رغـم قســوة هذا المشـروع فـ ( الطريق المرسوم دائماً مستباح ولا خير فيه ، يهرب من أمامه العشب ويختفي الترفاس .. الترفاس يهرب من كل المساحات التي تعبرها القوافل )
ومن خلال دعوته لبنية منفتحة غيرقاصرة أو منغلقة، بنية وعي خلاق فـ ( المخلوق الذي وجد في نفسه الرجولة لأن يسخر من السيوف ومن حملة السيوف قال إن الرجولة الحقيقية هي أن يضبط الرجل هواه ويسيطر على رغباته ) .
من ديوان النثر البري نعرض بعضا من مقولاته التي تقول:
..القدر لن يكتب الحرية لمن اختار القيد واستسلم. ص 127 المبتدأ ي سفر الشقاء .
..العتمة قناع يحجب الكبرياء .
..لا شئ في الحياة بلا ثمن. (القبلي في حواره مع النخلة).
..إن طبيعة الأشياء تقول : لا يلقح القبلي النخلة إلاّ إذا صرع في طريقه أخرى
لا يولد مخلوق إلاّ إذا تنحى له مخلوق آخر عن مكانه.
( القبلي في حواره مع النخلة )
..الصحراويون لا هدف لهم إلاّ الارتحال تحرراً من وزر المكان مؤثرين الأسفار خلاصاً من قيد الزمان. ص 165 ( عودة الضب إلى منفاه السفلي )
..الصبايا دائماً مركز اللقاء .
نقطة التقاطع .
ينبوع الحزن والفناء
يقطع الصحراوي القارة الخالية من أقصاها إلى أقصاها ويعود إلى نقطة
الانطلاق إلى
الصبايا .
يخرج إلى الغزوات في سبيل الصبايا
يصد الغزاة دفاعاً عن الصبايا في سبيل الصبايا
يسقط في الوجد تدلّهاً وعشقاً للصبايا
يغني في الخلاء حنيناً للصبايا
يولد ليحب الصبايا
ويموت خوفاً من فعل ربما بدا عاراً في نظر الصبايا
الصبايا في الصحراء ، قدر الرجل ، إلهات الصحراء .
وعندما يرفعن الحناجر بالغناء الفاجع فإن كل شئ لا بد أن يرقص في الصحراء
الرجل يرقص ، المهري يرقص ، الجن يرقص ، السراب يرقص ، وحجارة الجبال أيضاً تلين
وترق وتسقط في الوحد .. و.. وترقص .
ص 109 – 110 باتا تنتهك الحرم وتهرع إلى خباء العريس
..أهل الصحراء لا يجاهرون بالحقائق
يجاهرون بالدعابات وحدها
أما الحقائق فيهمسون بها لأنفسهم
يهمسون بها بينهم وبين أنفسهم
إذا أردتم أن تعرفوا الحق من الباطل في كلامهم .. راقبوا طريقهم
فإن انحنى أحدهم وتكلم في إذن الآخر فإنه نطق بالحق. 115 باتا تنتهك
..الصحراء هذه المعمرة الحكيمة المعتزلة عن الخلق ، العارية تعاهدت مع الظمأ .. تصحرت وطاب لها الخلاص والخلوه .. تناجي الله في ملكوت السكون .
لا تحب المخلوقات المكابرة ، التي تتشبه بالإنسان .. حيث طردت كل الحيوانات المكابرة كالزراف ، الأسود ، والنمور ، والفيله . وتركت الوديعة منها كالغزال والأرنب والفأر ومع الجمل أقامت العهد معه بعد أن قبل عرضها .. يحمل عنها الإنسان مقابل أن تعفيه من غول الصحراء ( الظمأ ) .. ( المبتدأ في سفر الشتاء )
..يظل الإنسان إنساناً حتى يشرف على اليأس .. والإنسان أشرس حيوان إذا نوى أن ينتقم.. 174 ( والضب إذا توسد الحجر )
الضب يسافر في السكينة والسكون
والجمل في المسافة
الضب يحيا في العمق
والجمل في الأفق
الضب يقوم برحلة في الباطن
والجمل في المدى
الضب يفر من مكان إلى آخر
والجمل يفر من المكان في الزمان .
خصائص وسمات أدب البرّية:
نتلمس خصائص وسمات أدب البريّة أو أدب الصحراء من خلال قراءتنا لديوان النثر البرّي في:
..مساحة التأمل الكوني للطبيعة والامتزاج والتفاعل والتوحد الوجداني معها.
..البعد الذي يخترق سمك الواقع إلى الآفاق الممتدّة المتجدّدة..
..الحرّية لدى الصحراوي المستمدّة من الفضاء الرحب والتي تتعادل مع مبرر الوجود، فلا قيد يقبله الصحراوي إنسانا أو حيوانا أو حتى الكائنات الصمّاء أو كائنات الخفاء . وهو مدرك ومتحمّل لما يترتب عليها من عواقب.
..بلاغة الصمت والسكون والهدوء الذي توحي به الصحراء وتلهم به أبناءها يتدفّق عبر المحبّة الشاملة والرؤى الفكريّة العميقة بشاعريّة المفردة وإشراقها الصوفي وأبعادها الدلاليّة حاملة لفلسفة الوجود.
..التقاء الإشراق الصوفي في الأسلوب بالزهد الصحراوي بصور الديانات والأساطير التي تشكل سيمياء الثقافة الأفريقية.
..تجلّي بنية الوعي الخلاّق من خلال القيم التي يستخلصها والعبر التي يستنتجها كمعادل طبيعي للتجربة وعمق التأمل.
المصادر والمراجع:
1 .. إبراهيم الكوني، ديوان النثر البرّي، دار التنوير للطباعة والنشر، تاسيلي للنشر والإعلام، ط1، 1991 .
2 .. الشيخ محمد الشيخ ، التحليل الفاعلي ، نحو نظريّة حول الإنسان، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، 2001 .
3 .. الشيخ محمد الشيخ، التحليل الفاعلي والأدب. ( تحت الطبع).
4 .. عبد الرؤوف بابكر السيّد، النص الأدبي الاستلاب والفاعليّة، (تحت الطبع).
5 ..هاري كريسكي، حوار مع التاريخ، مقابلة أجراها مع وولي شوينكا. www. Globetrotter.berkeley.edu/Elberg/soyink
Conversation with History:Institute of International studies,UC Berekely.
6 ..ليزي.ل.ستيرن، استخدام شوينكا لمفهوم اليوروبا عن الإنسان.
African Postcolonial Literature in English, in the Postcolonial web
www. Scholars>edu.sg/landow/post/soyinka/wsyorub.html.
7 ..عبد الله بخيت محمد، دراسات في الأدب السواحيلي،مكتبة النهضة المصريّة، ط الفجر الجديد،1987 .
(*)
وقف فوق الحفرة فدّّق قلبه بشدة
كانت الحفرة خاوية
أطبق فم الشرك على الشاة ، ولكنها استطاعت أن تخرج من الهاوية وتجرجر المصيدة إلى الجبل . اقتفى الأثر . على بعد خطوات خلّف الحيوان بعراً . تناول بعره وهرسه بين أصابع . بدأت تجف وتتيبس . البقرة تعود إلى يومين أو ثلاثة أيام . الأرجح أنها ثلاثة أيام . الحيوان وقع . نزل من الجبل ووقع في الشرك في نفس اليوم الذي نصب فيه " لعبته " . في مساء نفس اليوم . قطعان الودّان لا تزال تترعى في السهول إلاّ في الليل . تنزل في قطعان عادة وتعود لتعتصم بالقمم قبل انبثاق قبس الفجر . ولكن هذه الشاة لم تكن عضواً في قطيع . ربما انفصلت في الوادي المجاور وقررت أن تجرب حظها وحيدة .الودّان المسكين لا يعرف العزلة . لا يعرف أن المجازفة تبدأ لحظة اختيار العزلة . الخطر في العزلة . الحرية في العزلة أيضاً . الخطر والحرية إذن رفيقان قرينان . توأمان . وهذه هي الحيلة الوحيدة ، الحكمة الوحيدة التي لم يسمعها من الأم . ولم يتعلمها من الأسلاف . ولم يقرأها في رموز الكهوف . هذا هو المبدأ الوحيد الذي تعلمه بنفسه في الصحراء .
المعتزل قوي حقاً لأنه لا يستطيع أن يعتمد على أحد يهرع لإنقاذه عندما يقع في ورطة . عندما يقع في خطر . عندما يهاجمه ضبع . أو يلتف حول رقبته ثعبان ، أو يغويه السراب ويرميه بعيداً عن صراط القوافل . فيجد نفسه أسير غول اسمه : الظمأ .
ولكن هل يستطيع القطيع أن يفعل شيئاً ؟ هل يفيد التواجد بين الجماعة حسب شريعة الصحراء ؟ لا لا يفيد ولا ينفع بل يؤذي أكثر مما يفيد . لأن الأذى إنما يأتي أغلب الأحيان من الجماعة . العضو في القبيلة ، أو في القطيع ، يسترخى معتمداً على الجماعة ، وما أن تحل لحظة الامتحان ، ويحتاج أعضاء القطيع يكتشف أنهم أضعف من أن يساعدوا حتى أنفسهم .
يكتشف أنهم إنما كانوا طوال الوقت ينتظرون يد المساعدة منه هو لا أن يقوموا هم بتقديمها له . يكتشف أنه غريق يتعلق بقشة . يكتشف أنه مخدوع . والمصاب أن من لم يجرب الانتماء إلى الجماعة ، لن يستطيع أن يختصر الطريق ويتولى أمر نفسه بنفسه .
وشاة الودّان التي اختارت أن تنفصل عن القطيع وتبحث عن الكلأ في وادي " أميهرو " بدل الوادي المجاور ، هي عضو شجاع قرر أن يصنع مصيره ويتولى أمر نفسه بنفسه . وما وقوعها في الفخ إلاّ شهادة على هذه الشجاعة . وبرهان على مسؤولية الاختيار .
مقطع (8) من الفخ ( ديوان النثر البرّي )
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق