الخميس، 15 أكتوبر 2009

هتاف العتمة قبل افتضاح أمرها *
دراسة تحليليّة لنص (طاهر رياض)
أ.عبد الرؤوف بابكر السيّد
الأستاذ المشارك بكلية الآداب – جامعة التحدّي


النص:
- 1 -

ورحمة ربي
لقد كان كهفاً صغيراً
وما كان غيري يخبي

ورحمة ربي ،
أنا الناقش الياسمين المبتّل
في صخره ،
وأنا صيده الفحل
كم خاب رمحي إليه
وعدت جياعاً
أكدر نبع البراءة
حتى المصبّ ..
ورحمة ربي !




. - 2 -

أنلني فماً
لو فماً
لأسب الكلام !

أنلني يداً
لو يداً
لأعض رخاوتها
وأزيح بها جلدها المتفسخ
كي لا تلوّح بعد برد السلام

أنلني طريقاً تضيعني
وحبيبا أضيعه
وقنوطاً بحجمهما ..
وقليلاً من الموت بين الزحام !

أتدري !
بي الشاطئ المرتجل عن صهوة البحر
والعشب أزرق ،
بي طعم كل الفصول
وكل الأضاحي ،
وبي رغبة في البكاء
وحج البيوت
وذبح الملائك
وبي أنت ..
أغفر ما قدمته يداك
وما أخرته يداك
وأرفع من عرشك المتهالك ..

تبعثر إذن سيدي !
أنت لست سوى نفخة في القطيعة
لست سوى خلوة في الركام

تبعثر هوىً ماذقاً ، ونساء بأفخاذهن السمينة ،
موسى مثلّمة
وافتضاضاً سريعاً لقدس المسرة

تعرف أن صراخي عليك
صراخ على النوم كي لا ينام !

تبعثر صحارى
ترمم أطفالها بالرمال
وتدفن أطفالها في الرمال
وتحثو على رأسها ما تبقى ..
ولا تتلفت وراءك
فالملح محتدم
والتماثيل منصوبة
والشهور حرام

تريد لتفتح عيني ،
تبصّرني بغيابي عني
وتأخذني ــ مثل طفل كفيف ــ إلىّ
وترحمني من شروري ؟

تريد لي الخير ؟ .. ما أطيبك !

أنا لا أريد سوى أن أقولك في السر
أن أكتبك
سوى أن أفتت روحي عليك
وأن أحسبك
وجعاً في الضمير ..

أنلني صراخا يليق بحنجرتي ،
سكتة تتحمل صيحات قلبي ،
مدىً خالصاً لسعار طيوري

وطف بي على كل قبر
وليل ،
إلى أن يكون تراب بلوني
ووهج بلوني
وعري بلوني
وحلم ينوس ينوس ينوس
بلون فجوري

- 3 -

لو أنك أحببتني مرة ،
آه .. لو مرة !
لتوسلت كأسي الصغيرة
بين شتات النفايات
- أعني المنافي -
وخلصتني من مراعي
- أعني خرافي-
وأسدلت دون الصحاة الغريبين
سـتري !

لو أنك أحببتني ،
كنت أخرجتنا صابئين من الوقت
علمتنا كيف نفرح بالموت
مندفعاً دفقة دفقة
من جفان العيون
ويجري

أتدري ؟
لو الأرض دائرة
والسماء محدبة مثل خوفي ،
ولو شاطئاي بعيدان
والماء ملعب جمر ..
إذن شمتني هامة
وتلمست ميلي الخبيث
على كل قبر ..

أنل سيدي أن أقول :
أنا كنت قربي !

أنل جرعة منك دامية
أحتسبها ،
ووسع عباءتك الأزلية
هيئ خزائنك الفارغات لنهبي

أن لن أكونك
ــ يا خجلي ! ــ
لن أكون سواي ،
ولكنني جائعا
جائعا
سأكدر نبع البراءة
حتى المصبّ

ورحمة ربي !


هتاف العتمة ( في ضوء منهج التحليل الفاعلي )

العنوان والانعكاس الداخلي في النص:

الحديث عن الانحراف في اللغة ، وتعويم الدالات ، وكسر المألوف ، حتى يتم التخلص من الاجترار ، ومحو اللغة نفسها تماماً اكتفاء بالتعييني والصريح والمباشر الذي يفقر الشعر والشعرية .. هذا الحديث قد أخذ مداه بالممارسة الفعلية إدماء لصخرة اللغة أو نتفاً لريشها حتى أصبح التكثيف والانزياح والانحراف الذي يعزز الوحدات التكوينية للنص من أهم مقومات بلاغة الغموض إثراءً للغة وتجديداً ودفقاً في عروقها .
من هنا جاء عنوان النص (هتاف العتمة قبل افتضاح أمرها) .. ليعطى مساحات وإمكانات هائلة للتأويل والقراءات ، وليحدد منذ البدء لغة النص الرمزي الإيحائي التأويلي فيدفع بك للغوص وولوج عتمة النص أو عتمة النفس أو عتمة الواقع ، عتمة الوقت (الزمن) . نبحث داخل النص فلا نجد العنوان بل نجد العتمة وهتافها خلال الدوال والإشارات التي ملأت فضاء النص عبر الحقول المتداخلة . [هتاف العتمة] وحدة تكوينية انحرفت دلالتها بمقاربة كلتا المفردتين ثم بمقاربتهما مع [افتضاح أمرها] فالهتاف صوت ، والعتمة سكون والافتضاح كشف وتعرية . والتساؤل لماذا لا يكون العنوان (همس العتمة قبل افتضاح أمرها) ؟ فالعتمة ينام فيها حتى الصوت ولا يفضح أمرها سوى الإصباح من جهة ومن جهة ثانية يصبح الصوت هو الوحيد الذي يسري فيها دون بقية الحواس ، وورود العنوان (هتاف العتمة) يوحي بارتفاع الصوت في النص بما لا يعرّيه تماماً .. أو التصريح القولي بالمعاناة دون كشفها تماماً وهو ما يؤكده الاستهلال بالقسم [ورحمة ربي] ثم تدخل الحركة في العتمة الماضوية والعتمة المعاشة .
وهتاف العتمة يسري عبر مفاصل النص وإشاراته كما يتجسد عبر وحداته التكوينية فيبرز الهتاف جزئية لحظية يحملها النص وتتجسد كثافة العتمة عبر إشاراتها المتعددة زمناً وحركة وغياباً ومكاناً

الإيقاع وتنوع القوافي:
التزم النص بإيقاع تفعيلة المتقارب فعولن ( //0/0 ) مما أكسب النص غنائية واضحة وموسيقى مسترسلة دون انقطاع رغم تعدد الأصوات وحركة القصيدة .. كما تنوع الروى لديه رغم التزام القافية بالمتواتر (ما يفصل بين ساكنيها حركة واحدة) .
فجاء بائي الافتتاح (ربي / يخبيّ / ربي / المصب / ربي)
ثم ميميا ً في (لأسب الكلام / برد السلام / بين الزحام)
وجاء كافاً في (الملائك / المتهالك)
ثم ميمياً مرة أخرى (الركام / كي لا ينام / والشهور حرام)
وجاء رائياً في (شروري / الضمير / طيوري / فجوري)
ثم فاءً في (المنافي / خرافي)
ثم رائياً مرة أخرى (ويجري / أتدري / جمر / قبر)
ثم عودة أخرى إلى الباء المفتتح للتساوق مع الختام في (نهبي / المصب / وربي)
وهي في هذا التنوع إنما تنوع في الحركة ، والخطاب نتلمسه في العتمة .. كما أضاف إلى غنائيتها إيقاعاً داخلياً تمثل فيما يزخره النص من الحروف المشددة (56) والمنونة (46) وحروف المد وهاء الضمير مما يشيع جوّاً من الحزن وصوت المأساة وسط العتمة يتمدد (هتافا) ولا ينفجر(صراخاً) .
ويلاحظ كثرة المفردات التي تحمل حرف (السين) 35 مفردة وحرف (الصاد) 18 مفردة إضافة إلى حروف الصفير والهمس مما أكسب النص انسياباً وتموجاً نغمياً متفرداً ، ويسهل رصد مقاربات (الصوتيم) وتناظره واختلافه وتعارضه .

حقول الإشارات ، وبنائية النص:
الحقول التي تتناثر عبر فضاء النص بشكل لافت يوحي بثقل المعاناة وتنوع عوالم الإنسان الداخلية ، كما تتمدد هذه الحقول على المدى في المفردات فتحدد أثر الخارج على الداخل ، وحجم الأصفاد التي تعتم وتثقل ما في الأعماق من أن يطفو فتتشكل العتمة كاملة داخل النفس وبالتالي داخل النص . حيث تنتشر الحقول كما يلي :

• حقل الإشارات الصوفية المتمثل في (ورحمة / ربي / المبتّل / أنلني / وبي أنت / البراءة / أغفر / ما قدمته / يداك / ما أخرته يداك / عرشك / سيدي / نفخة / خلوة / القنوط / الطواف / التوسل / الخلاص / الستر / الموت / الفرح بالموت / العباءة / الأزلية .) 23 إشارة .

• حقل الشهوة المادية (الهوى / النساء / الأفخاذ السمينة / الموسى المثلّمة / الماذق / الافتضاض السريع / قدس المسرة) 7 إشارات .
• وهذين الحقلين المتعارضين بين الروحي المتسامي والشهوة المادية ، يتواءمان في بنية تناسلية بحكم مرجعيتها الغيبية التي تتشكل دائما خارج الذات ، وخارج الكون ، وبجمعهما تصل المفردات إلى ( 30) مفردة .
• حقل مفردات البيئة (الكهف / النقش / الصخر / الصيد / الفحل / الرمح / النبع / المصب / الشاطئ / الصهوة / العشب / الرمال / ترميم / دفن الأطفال / حثو الرمال على الرأس .) ( 15 ) مفردة .
• حقل المفردات السياسية (السلام ــ حج البيوت ــ الأضاحي ــ ذبح الملائك ــ الملح المحتدم / التماثيل المنصوبة / الشهور حرام / المنافي / الأرض دائرة / السماء محدبة / شاطئاى بعيدان / الماء / ملعب الجمر / القطيعة / الركام) 15 مفردة .. وبجمع المفردات السياسية مع مفردات البيئة التي يمارس فيها المعجم السياسي فاعليته تصل المفردات إلى 30 مفردة .
• حقل مفردات الذات ، مفردات العتمة ، المعاناة والرغبة (الهتاف / أنا / الافتضاح / سب الكلام / عض رخاوة اليد / إزاحة الجلد المتفسخ / عدم رد السلام / الضياع / القنوط / الموت بين الزحام / الرغبة في البكاء / الصراخ

/ الجوع / الخيبة / التكدير / الطيبة / التبصر / الشرور / تفتيت الروح / وجع الضمير / الطواف على القبور والليل / التراب / الوهج / العري / الحلم / الفجور / الصابئ / الهامة / الميل الخبيث / الخوف) 30 مفردة .

هذه الحقول من الدوال المعيشة والتي تمثل الداخل إلى النص من الثقافة المكتسبة تتوازى في العدد لتؤثر بمجملها على مساحتين رئيسيتين في النص: مساحة الأنا ، ومساحة الأنا . أنا العلانية وأنا السر ، أنا الجسد وأنا الروح ، أنا الخارج والأنا الداخل ، الأنا المستدمج للبنية ، والأنا الصابئ المنفلت عنها أنا الوقت وأنا الضمير . وبحكم هذه الثقافة المكتسبة وسيطرة بنية التفكير السائدة التي خلقت هذا الانفصام داخل الفرد بين ما يمليه عليه الضمير أنا الداخل ، وبين ما هو معيش محكوم ببنية لها قيمها وآليات ضبطها ومرجعياتها . من هنا يتوازى حقل دوال العتمة المعاناة والرغبة ، التي يئن بها النص مع بنية الوعي التناسلي من جهة ومع حقل المفردات السياسية والبيئية من جهة أخرى .

محاولات الأنا
الداخلي ودعوتها

عدم استجابتها واستمرار هتافها في العتمة لومها للأنا
المعاناة والتمزق وطلب المساعدة الداخل
من أنا الداخل

محاولات الأنا الداخلي ودعوتها إلى (فتح العيون ــ التبصر بالغياب عن الذات ــ أخذ الإنسان إلى داخل نفسه ــ رحمته من شروره ــ إرادة الخير للإنسان) .

(1) عدم استجابة الأنا الخارجي (وصف الأنا الداخلي بالطيبة ــ ما أطيبك ــ لا أريد سوى أن أقولك في السرــ أن أكتبك ــ أن أفتت روحي عليك ــ أن أحسبك وجعا في الضمير ــ أنا لن أكونك
ــ يا خجلي ــ لن أكون سواي .
ــ سأكدر نبع البراءة حتى المصب) .
(3) هتاف الأنا الخارجي في عتمتها وطلبها المساعدة من أنا الداخل :
(أنلني فماً ، أنلني يداً ، أنلني طريقاً وحبيباً وقنوطاً وقليلاً من الموت
أنلني صراخاً ، سكتةً ، مدى ، وطف بي ، أنل أن أقول ، أنل جرعة
منك، وسع عباءتك ، هيئ خزائنك الفارغات لنهبي).
(4) لوم الأنا الخارجي وعتابها لأنا الداخل :
( لو أنك أحببتني مرة : لتوسلت كأسي في المنافي ، وخلصتني من
الرعي مع القطيع ، وأسدلت ستري عليّ
لو أنك أحببتني مرة : لأخرجتنا صابئين من الوقت ، علمتنا كيف
نفرح بالموت) .

ونلمس سيطرة الأنا الواقع وكبتها لأنا الداخل بديلاً لما يفترض أن يكون معاكساً لذلك ، ففي الوقت الذي تصف فيه (أنا) الخارج حالتها وحياتها وعتمتها بصورة تقريرية وصفية بأفعال ماضية ومضارعة . (كان ، خاب ، عدت ، أكدر ، أضيع ، أغفر ، أرفع ، تعرف ، أنا لا أريد ، سأكدر)
نجد مخاطبتها لأنا الداخل التي تلح في التوجيه من أجل التوحد ــ من واقع سيطرة البنية وقوة نفوذها تسيطر على غالبية النص بالأمر الطلبي :
(أنلني ، أتدري ، تبعثر ، لا تتلفت ، أنلني ، وطف بي ، أنل سيدي ، وسع عباءتك ، هيئ خزائنك الفارغات) .
إنها العتمة وهتافها الداخلي مع ذاتها، الضوء غير المتوحد أو ذاتها الداخل ، ولو توحدت الأنا لخرجت صابئة مارقة متمردة على هـذا الوقت المعتـم ..

الزمن وحركة النص:
مراوحة الحركة داخل الذات بين مساحتي الأنا الخارج وأنا الداخل تأخذ تناوباً وشكلاً بندولياً في حوارية تنم عن حالة التأزم النفسي التي تملأ الحياة عتمةً كما كانت في الكهف قبل رحلتها الحياتية المعيشة ، فبين ماضوية معتمة في الكهف وواقع معتم معاصر كذلك ، بين فرديتها في منبع البراءة وبين جمعيتها المكدرة للبراءة . بين أنا الخارج بمعاناته وبين أنا الداخل الذي انحسر دوره ليصبح وجعاً في الضمير، بين منبع البراءة و مصبها (نهايتها) . انطلقت حركة النص بالتعريف بالأنا الخارج ، توجه بعده الخطاب لأنا الداخل عبر إشارة (أتدري) .. ثم عاد بخطاب الأمر الطلبي من الداخل وتحديد موقعه من الذات الجمعي عبر إشارة (تبعثر) ، انكفأ بعدها مرة أخرى للتعريف وتبصير الأنا الداخل عبر إشارة (أتدري) مرة أخرى . عاد بعدها للأمر الطلبي (أنلني .. وطف بي) ثم انكفأ من جديد يبصر الأنا الداخل عبر إشارة (أتدري) مرة ثالثة .. وعاد للخطاب بالأمر الطلبي (أنل) . ثم حدد أنا الخارج موقفه الذي بدأ به مقسماً (برحمة ربي) في قنوط ويأس وعتمة لا تنيرها إلا رحمة الرب .
إن زمن النص يستحضر العتمة الماضوية عبر إشارات (كان كهفاً) و (كم خاب رمحي إليه) و (صحارى ترمم أطفالها وتدفن أطفالها وتحثو على رأسها ما تبقى) . كما يستحضر العتمة الحاضرة عبر المعاناة المعيشة والتي لا ينقصها سوى (الصراخ الذي يليق بالحنجرة) و(السكتة التي تتحمل صيحات القلب) وهذه المنافي التي يهرب إليها من جحيم المعاش في الوطن وعدم الخلاص أو الفكاك من قطيع الخراف الذي يهشه الراعي .. أما المستقبل فلا نجده في النص إلا في استمرارية الحال والسين التي لحقت ب (سأكدّر نبع البراءة حتى المصب) في خاتمة النص وليتولانا الله برحمته . ففي العتمة لا يرى الأنا الإصباح .. المستقبل رغم إمكانية تأمل قدومه ولكنها عتمة وليل طويلٌ طويل ، كاد أن يعيد (وما الإصباح منك بأمثل) فالمستقبل لن يكون إلا تكراراً إذا لم تتم محاكمة الماضي والحاضر .
استحضار الغائب:
في لغة صوفية مغرقةٍ في التجريد اعتمد النص الضمائر إشارات محورية للغة ، إغراقاً في العتمة من ناحية وتعميةً لعدم الافتضاح من ناحية أخرى ، وقد لاحظنا بإحصاءٍ دقيق أن ضمير الأنا (البارز والمستتر وما يلحق به من ياء المتكلم) قد وصل إلى (75) ضميراً . وضمير الأنت (وهو الأنا الداخلي) المخاطب بارزاً أو مستتراً أو كاف المخاطب وصل إلى (50) ضميراً ، وضمير الهو والهي بارزاً أو مستتراً إلى (21) ضميراً ، والنحن أو (نا) الدال على الفاعلين إلى (4) ضمائر .
ومن هذا الزخم الغائب بإشارات الضمائر التي تصل بمجموعها إلى (150) ضميراً ، نلاحظ أن (أنا النص) تستحوذ على النصف تماماً ، يعادلها ضمير المخاطب والغائب ونحن أو (نا) 50 + 21 + 4 (75) ضميراً . وهو ما يوحي بأن أنا النص هي الأنا المشحونة بالتوتر بشكلٍ يعادل ما لدى كل الضمائر الأخرى ، بل هي من جهة أخرى تتداخل معها وتتحاور خروجاً من الاختناق أو تنفساً وصرخةً وهتافاً كان نتيجة هذه العتمة التي تئنّ بالمعاناة والتي غرق النص فيها وكاتب النص وذاته المنفصمة، ونحن قراء النص بذواتنا المنفصمة كذلك .
وإذا كنا قد حددنا (أنا) النص أو الأنا الخارج لكاتب النص فإن الضمائر الأخرى وخاصةً المستترة تحتاج إلى من تعود إليه . (الأنت) أو (الأنا) الداخل المخاطبة بارزةً كانت أو مستترة أو مخاطبة والتي واجهتنا ( 50) مرة، وضح لنا أنها أنا الداخل المنفصم عن أنا الخارج .. وهاتان هما المساحتان الرئيسيتان الموغلتان في العتمة ، أما الضمائر المغرقة في الغياب والتي تصدم القارئ وتضع وعيه في اختبارات صعبةٍ لاستحضار الغائب عن النص ، في مجموعةٍ من الجمل التكوينية حاملة الضمائر : [في صخره] [وأنا صيده] [خاب رمحي إليه ] [ما كان غيري يخبي] [كنت أخرجتنا صابئين] [أنل جرعةً منك دامية أحتسبها] [وسع عباءتك الأزلية] [هيئ خزائنك الفارغات لنهبي] [سأكدّر نبع البراءة حتى المصب ] .
وهنا يصبح للتأويل الذي تدعمه بعض الإشارات دور ومعنى في القراءة التي ربما اختلفت عن قراءةٍ أخرى أو تلاحمت .. وفك الرمز كثيراً ما يعتمد على ثقافة القارئ وعلى أرضيته المعرفية ، ونظرته التي تحول كل غياب في النص إلى حضور . كالتساؤل حول الكهف الصغير الذي كان وما كان يخبئ غيره . إذا ما اعتمدنا النص مفجراً لمعاناة الإنسان وتمزقه في هذه الحياة فإن أول ما يتبادر إلى الذهن أن يكون هذا الكهف الذي كان يخبئه هو رحم الأم قبل أن تقذف به إلى جحيم هذه الحياة . والكثير من الشعراء الذين ضاقوا ذرعاً بالحياة وعتمتها ومعاناتها وهجيرها اعتبروا وجودهم جناية الآباء عليهم :
هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد
وأنا النص في ذات الديوان (حلاج الوقت) يؤكد ذلك ( * ) .
وفي تعريفه بذات الأنا الخارجة ينطلق النص بدءاً من المجهول ومن المعمّيات : [أنا الناقش الياسمين المبتّل / في صخره / وأنا صيده الفحل / كم خاب رمحي إليه / وعدت جياعا / أكدّر نبع البراءة حتى المصب].
والياسمين إشارة لورد عطر فواح (وقد ذهب الجوهري كما جاء في لسان العرب إلى أن المرأة المبتلة ــ بتشديد التاء المفتوحة ــ أي تامة الخلق ، والمبتل لا يوصف به الرجل وأنشد بيت ذي الرمة(رخيمات الكلام مبتلات) أي مقطعات له ..
وارتباط إشارة (الياسمين) مع إشارة (المبتل) يحيلنا إلى النساء المبتلات . ومع إحالته إلى إشارة (في صخره) ترتبط مع إشارة النقش والتصوير بما يوحي بالفن يتمتع به (الأنا) وهي ذكورية مرتبطة بمفردة (الفحل) الصيد للنساء غير الصائد لهن .. (كم خاب رمحي إليه) . ولكن عودته جياعا تحيلنا إلى الأنا الجمعية المكبوتة الشهوات ليكدر نبع (البراءة حتى المصب) والإشارة هنا تحمل تكدير الإنسانية في الإنسان وصفائها وبراءتها منذ الطفولة حتى منتهاها بعد أن حدث هذا الانفصام بين رغبة الداخل ومنع الخارج ، بين أعراف المجتمع وتقاليده السائدة وبين رغبته المعاصرة في تجديد الرؤية للحياة .. بين ما تبتغيه الذات وما هو سائد من تفرد الخطاب الثقافي السياسي الاجتماعي وسلفيته أعرافا وقوانين وقيودا واستبدادا . فليس أقل من تكدير الإنسان وصفائه، تكدير نبع البراءة بدءا من طفولته وحتى الكهولة ، ويتجسد التكدير برد الفعل الناجم عن الحقد والضغينة والكره ، ودخول الأطفال المعارك .

و [كنت أخرجتنا صابئين من الوقت] تجسد الرغبة في التوحد مع الذات والمروق والتمرد والعصيان من هذا الزمن الذى احتدم الملح فيه وتجرع الإنسان فيه المرارة والخيبة .. بل [علمتنا كيف نفرح بالموت] والنظر إلى الموت على أنه
ولادة جديدة وليس فناء .. ليس خوفا .. بل نفرح به خلودا متدفقا دفقة دفقة من جفان العيون .. ويجري .. [أنل جرعة منك دامية أحتسبها] لك أيها الضمير الذي نام وكاد النوم ينام حوله ، وتتمثل الجرعة الدامية في ما ترسله من تقريع وتأنيب [وسع عباءتك الأزلية] [هيئ خزائنك الفارغات لنهبي] انهش فيّ وقل ما تشاء فأنا لن أكونك .. أقول ذلك وأنا خجل، لن أكون سواي ..

بلاغة الغموض :
الغموض الذي اكتنف النص كالعتمة التي احتوته منحه طاقة تخييلية وإمكانات تأويلية تسمح بسبر غوره في قراءات متعددة ، وقد مارسنا هذا التأويل في هذه القراءة (للنص) ولكننا ولمزيد من الإيضاح نلفت الانتباه إلى استخدام (الشاعر) للوحدة التركيبية (عدت جياعا) في المقطع المفتتح و (ولكنني جائعا .. جائعا) في المقطع الختام .

واضح أن الجوع هنا تتركب منه دلالة مخالفة لمعنى المفردة المعجمي المادي ، فالربط بين (عدت) بضمير المفرد المتكلم (أنا النص) مع الحال الجمعي (جياعا) يتحرك بنا أولا إلى الأنا المستدمجة للبنية والمقهورة بضوابطها وآليات قمعها وهي تعني (عدنا جياعا) إقصاء للتفرد الذي تتوق إليه (أنا النص) وإثباتا للحال الذي كان ولا يزال عليه المجموع منذ أن كان المجتمع قبليا ينفذ الفرد ما تمليه عليه القبيلة وهو صاغر فالقوة هنا قوة القيم الجمعية سلبية كانت أم إيجابية وليست الفردية . أما العودة (عدت) باتساع الرؤية والتأويل فيمكنها أن تشير إلى خيبة العرب وعودتهم بعد اتساع رقعة بلادهم التي كانت تغطي رقعة واسعة من العالم القديم ثم بدأت في الانحسار إلى ما هي عليه عبر صحاريها ،وحتى فيما هي عليه الآن وقد أصبحت مطمعا للآخرين .. والجائع هو المنكسر المنهزم ، غير القادر على المقاومة (فالملح محتدم والتماثيل منصوبة والشهور حرام) .. الجوع يأخذ هنا معنى الحالة الناجمة عن الخيبة ، ومن ثم تتقارب مع تكدير (نبع البراءة) الطفولة المقهورة التعسة المهددة ، فكما كنا نقتل أطفالنا خشية الإملاق وندفنهم في الرمال ها نحن نقتل براءة الأطفال بتجريدهم منها كرصيد إنساني إلى دفعهم للقتال وإلقاء مسؤوليات الكبار عليهم ، ودفعهم إلى القتال ولو بالحجارة ، إنها الخيبة الجمعية ..
أما لماذا ختم النص بالخيبة الفردية وحالة الجوع أو الضعف الفردي بعد كل الصراع الذي مارسه ، والذي دفع به إلى الهجرة والتسكع بين المنافي منادما للكؤوس التي قد تخفف عنه هذا الألم الممض الذي كان نتاج القهر والظلم في الوطن فما ذاك إلا لأن الحال قد أصبح تجربة فردية استعصت عليه بحكم رفض البنية للتنوع والتعدد والاختلاف ، وإصرارها على الاستنساخ والحياة مع القطيع وفي هذا الركام من الخراب المادي والمعنوي الذي نعيشه رغم الهزائم المتكررة ، مما يفرض هذا الانفصام بين الأنا الخارج وأنا الداخل المقموع،وسيطرة أنا الخارج وفرض رقابتها علي أنا الداخل في وقت ينبغي أن يكون العكس لهذا وبحسرة قاتلة يقول ــ يا خجلي ــ أنا لن أكونك ــ لن أكون سوى هذا الفرد الضائع وسط القطيع ..
كما أنه استخدم (ولكنني جائعا) تأكيدا على أن الجوع هو هذه الحالة الناجمة عن الخيبة وليست خبرا عينيا لـ (لكن) ،إنها الحال المقدرة (ما زلت جائعا) ثم يؤكد بها (جائعا) مرة أخرى .. وليس أمامه سوى تكدير نبع البراءة ، والإسهام مع الحال الجمعي المفروض على الذات العربية المنفصمة ، بين واقعها وطموحها بين قوتها وعجزها .

قراءة إشارات الحقول في تداخلها:

وفوق هذا الانفصام يعيش النص تمزقا حادا ، يدلل على ذلك أنه يتكلم مع الآخرين غير راغب ، ويرد السلام على مضض ، ويعيش في عتمة الزحام متوحدا مع المجموع غير متحد مع ذاته غير متفرد ، نسخة مكررة وسط القطيع ، لذا يأمل أن يجد الفم الذي يلعن به هذا الكلام المتكرر المعاد الهامشي المألوف الذي يربطه لغواً بالآخرين فيفضّل سبّه والاحتماء بالصمت . كما يتمنى أن يجد اليد التي تمكنه شجاعته وجرأته لعض ضعفها ورخاوتها وإزاحة جلدها المتفسّخ كي لا تتمكن بعدُ بردّ السلام .. إنه يقوم بردّ السلام مع الآخرين .. سلام .. وليس بداخل النص سلام . ، سلام في وسط القطيع لا يحمل معناه أو سلام مع (عدو) لا يستحقه .. فالدّالة عائمة تحمل كل ذلك بدليل هذا الملح المحتدم علي الأفواه ، والمرارة الطاغية والإحباط والهزائم المتكررة في وقت تجد فيه التماثيل المنصوبة الآمرة الناهية في كل ساحاتنا ، وهي عاجزة عن الحركة ، عاجزة عن أن تردّ ضيما أو تسترد حقا .. فالشهور كلها حرام لا يقاتلون فيها بل يقتلون ..
والضمير[الأنا الداخل] في حالة من السكون والنوم ، لم يوقظ أحدا ولم يجعلنا متحدين مع أنفسنا وبالتالي صابئين مارقين متمرّدين من الوقت الليل أو الزمن الحالك . لذا فإن صراخي عليك صراخ على النوم كي لا ينام حتى لا تتكاثف العتمة وتزداد قتامتها ..
هذا الصراع والتمزق مع الذات وقراءة الداخل والوقفة مع النفس الميئوس منها ، الضائعة كضياع أي طريق يسلكها ، كما ضيّعتنا كل الطرق التي سلكناها ، وأضعنا من نحب فليس سوى القنوط وقليلا من الموت بين الزحام .
تبعثر إذن هوىً ماذقاً غير مخلص للود ، وتجاوز صفاء الوجدان إلى الشهوة ، إلى نساء بمقاييسنا الماضوية لجمالية الجسد ، لذا فلتكن هوى لتحقيق الشهوات ..
وتبعثر صحاري ممتدة من الشاطئ إلى الشاطئ من البحر إلى البحر من الخليج إلى المحيط لا تعرف سوى أن ترمّم أبناءها بالرمال / وأن تدفن أبناءها في الرمال / وأن تحثو ما تبقى على رأسها / بكاء وحزنا وقهرا ، ولا تتلفت وراءك فالحال التي تعرف ، الملح محتدم في الأفواه من مرارات الهزائم وعذابات القهر ، والتماثيل منصوبة نعبدها صاغرين والشهور ساكنة كلها أضحى القتال حراما فيها .
ويأخذ التمزق مداه ، والعتمة حلكتها ، ويتجذر الغياب و الضياع ، والقنوط واليأس . والرأس مثقلة بالكأس بين المنافي ، فلا خلاص والقطيع يقوده الراعي حيث يشاء .. لم نجدك أيها الضمير الغائب لتخلصنا ،لتحدث فينا الاختلاف والتعدد والتنوع إثراء للحياة فينا ، ليتجدد فينا الخطاب في قطيعة تامة مع السائد ولتأخذ المعرفة مساحتها. وأنت نائم لم توقظنا ، ولم تكن فاعلا بدواخلنا ، وجعلتنا نهبا لهوى الشهوات شتاتا كما كنا ، ــ هل يمكنني الانفلات وحدي ــ ياخجلي ــ أنا لن أكون سواي، هذا الفرد الضائع / الجائع / القانط اليائس ، ليس أمامنا سوى سيرتنا الأولى بتكدير صفاء براءة الإنسان .
إن العتمة التي نعيشها تهتف معلنة عن نفسها . وهاهي قبل افتضاح أمرها ، تشحن النص بالنداءات والصراخ والصياح عساها تفعل شيئا أو تغير واقعا .. وقبل أن يفتضح هتافها ، فتخنق الأصوات في ليل تطاول وناء بكلكله . فالشاطئ بعيد . ، ولم يعد منفذا وساحة لنا .. لقد ترجل عن صهوة البحر .. وترك البحر لقواعد غازية متخذة إياه ملعبا للجمر .. ساحة للقتال تنصب علينا النيران والحمم منه ومن كل اتجاه .

من خلال التجوال الذي سمح به فضاء النص وصلنا إلى تحديد سمات النص وملامحه وإشاراته عبر إحصائنا لحقول مفرداته والضمائر التي اكتنز بها وتشظى بها واستحضارنا للغياب عبرها وتحديد حركة النص وزمانه والمساحات التي تعيش العتمة أنا المجموع وأنا الخارج وأنا الداخل .. نصل إلى هذا الصراع المرير الذي يشكل إبرازه فاعلية تبرز بدورها عدم الرضا والتعرية والهتاف ليس وسط العتمة بل هتاف العتمة ذاتها قبل افتضاح أمرها ..

علاقات النص مع الإشارات المحور:
الكلمات أو الإشارات يتمحور حولها النص أو المفردات المركز التي تشع منها الإشارات أو تعود إليها يمكن التقاطها بيسر من مفاصل النص بحيث يتشكل منها السياق العام الذي تدور حوله كل الحقول أو الإشارات الأخرى في النص وتغلفه والذي يختزله العنوان القصيدة بتمدّده في كامل مفاصل النص ..

فاعلية (هتاف العتمة):
التحليل الفاعلي منهج يقرأ علاقات الفاعلية في النص وتناميها ، يقرأ النص باعتباره بنية فاعلية لغوية تتشكل من تفجير الطاقات الإبداعية للغة بقدر تباعدها واختلافها عن لغة العادة والمألوف في الكتابة التعبيرية ، وهو أول تمرد على البنية اللغوية السائدة ، وبالتالي يشكل اختلاف الحاضر عن الغائب في النص تلك المساحة الممتدة التي تسعى فاعلية المتلقي لإعمار الفراغ بينهما .
وباعتبار علاقات الفاعلية داخل النص تنشأ من كونه (بنية فاعلية لغوية) فإن تلمسها يأتي من خلال :
(1) تنازر بنيات الوعي .
(2) اغتناء بنية العبارة بالتشكيلات الدلالية والشحنات الانفعالية .
(3) نمو الفاعلية في بنية النص .
(4) بث الفاعلية في المتلقي .

وآلية المنهج بهذا الترتيب ينهج النبع من مبدئه حتى مصبه ، فالنص يصدر من مبدع وليس من فراغ ، هذا المبدع يحتاز على بنية وعي ويعيش بنية وعي أخرى في مجتمعه .. إحساسه ووعيه بالفاعلية يجعله صاحب رسالة أو مشروع ، ولكن هذه الرسالة أو ذاك المشروع تتآزر بنيات الوعي لديه لإنجازه أو تتنازعه تلك البنيات ، ومن خلال هذا (التنازر) يتشكل المشروع عبر البنية اللغوية المجسدة في النص حاملة لجسد وروح هذا المشروع .
وعليه فإن الانطلاق من دراسة الشاعر سواء من خلال سيرته الذاتية وبيئته الاجتماعية أو من خلال ما يحيل إلى تلك السيرة والبنية في النص لا يشكل مركز إحالة خارجي أو إسقاطا خارجيا بقدر ما يكشف عن تنازر بنيات الوعي داخل النص .. ويلقي الضوء على البنية التي انتجته .
أما بنية التشكيل اللغوي ، بنية العبارة واغتنائها الدلالي والانفعالي فإنه يشكل مساحة للقراءة (البنيوية والأسلوبية والسيميائية) وهي قراءة مبدعة يقوم بها قارئ مبدع يكشف بها عن بنائية النص وأسلوبه وعلاماته اللغوية والكتابية وما تحمله من تشكيل دلالي يؤهل لاحتواء الشحنات الانفعالية التي جسدها الحدس والتعبير ..

ثم ينتقل التحليل الفاعلي إلى تتبع نمو الفاعلية في بنية النص من خلال التنازر للوعي أو التشكيل للغة ليخلص إلى هدف (النص) وهو بث الفاعلية في المتلقي بما يشكل قصدية النص التي قد تختلف عن قصدية المبدع من خلال فعل القراءة الذي ينطلق كذلك من بنية قد تختلف عن بنية صاحب النص .
بذلك يصبح فضاء النص أكثر اتساعاً وغنيً ، كما يصبح النص أكثر تركيبا وتداخلا قابلا لتعدّدية القراءة .. وهدف التحليل الفاعلي المنطلق من الوعي بالفاعلية أن كل نص يصدر فاعلية وفق احتياز المبدع أو المتلقي لبنية من بنى الوعي ، ويتم الكشف عن اتّساع النص أو فاعليته بالنسبة للمتلقي في ضوء كسر أفق التوقعات أو البنية المغلقة أو المفتوحة التي يحتازها .. كذلك اكتشاف جماليات الإبداع في ضوء تمكن القارئ من أبعاد التشكيل اللغوي ..
أما فاعلية المبدع فيمكن النظر إليها في ضوء تمّرده على البنية السائدة لغوية كانت أو اجتماعية أو سياسية أو دينية أو ثقافية ، واحتيازه لبنية بديلة ، مدى ثباته ودفاعه عن مشروعه أو وعيه بالاختلاف ومن ثم اتخاذه التقية باحتمائه بالرمز والقناع وبلاغة الغموض . من هنا يصبح (النص) مشروعا إبداعا وإنشاء وتصديراً وقراءة وفاعلية ..
من خلال قراءتنا للنص ، وبما أن بنية النص متماهية مع بنية العقل فإن (هتاف العتمة) يحيل إلى أن (طاهر رياض) محتاز لبنية مخالفة لبنية الوعي السائدة في مجتمعه العربي ، إلا أنه وفي نفس الوقت مدرك لجبروتها وهيمنتها ، مدرك لما ينبغي أن يكون هو عليه ، ومدرك لصعوبة الانفلات الفردي الذي يشكل انتحارا إزاء السيادة المطلقة لبنية الوعي التناسلي .
وسواء امتلكنا سيرته الذاتية مسترشدين بها أو ما أحالنا النص إليه، يظل واضحا أنه مبدع منفلت رافض لما هو سائد مشكل ضدية للكلام السائد والسلام السائد والزحام القطيع .. ولكن إدراكه بهذه الضدية الفردية وضعته في موقف (التوتر ، والرغبة في البكاء وحاجته للصراخ ملء الحنجرة وللسكتة التي تتحمل صيحات القلب) وهذا الإدراك والوعي باختلافه عما هو سائد جعله يفصل بين هذا (الأنا) السائد ووعي (الأنا) الداخلي المخالف ، ودفع به لأن ينتهج أسلوبا صوفيا يوضح هذا التنازع بين البنيتين ما احتازه وما هو سائد
[أنا كنت قربي] [أنا لن أكونك ــ يا خجلي ــ لن أكون سواي] [تريد لتفتح عيني ــ تبصرني بغيابي عني ــ تريد لي الخير ؟ ما أطيبك !] .
وعي المبدع بفاعليته وبما هو سائد دفعه إلى الاحتماء بالضمائر والإغراق في الأسلوب الصوفي ، لتعرية البنية السائدة ، وفضح العتمة قبل أن تفضح هتافه .. وهي بكل تأكيد لم تشكل له الحماية الكافية ولا الأمن الذي هو بحاجة إليه .. لذا كانت الكأس الصغيرة في شتات المنافي ، والرغبة الكامنة في الخروج من القطيع والتفرد ، واستعصاء الأمر ، ومن ثم الرغبة في البكاء والصراخ واطباق الجوع عليه كالآخرين ..
هناك ثلاث بنيات للوعي تولد عنها نص (هتاف العتمة) وتجسدت فيه، المساحة الأكبر من حقول الدلالة توجهت ناحية البنية السائدة (بنية الوعي التناسلي) والتي أعلن النص انتصارها في الختام بقوله [أنا لن أكونك ــ يا خجلي ! ــ لن أكون سواي] ..
وتمثلت بنية الوعي البرجوازي من حيث الإشارة فقط في [هيئ خزائنك الفارغات لنهبي] وإن جاءت من حيث الدلالة في دائرة الاستعارة . أما بنية الوعي الخلاق فقد كانت الغائب الحاضر في تعرية البنية السائدة وفي مخاطبة الأنا الداخل [تريد لي الخير ؟ ما أطيبك !] وسوف نحاول تتبع تنازر هذه البنيات في دلالة النص ..
هناك هتاف مشروع للعتمة أو لمن تحتويه ، وهو مشروع (الأنا) الذي استوعب أن العتمة تلف البنية السائدة ، تلك التي لم تجد نفعا كل الخطابات في استخراجها من هذا الانغلاق ، واخراجها من هذا الكهف الماضوي والعتمة السحيقة .. وهو المشروع الذي تشبث به الشاعر عازما على التمرد بدءا من اللغة الصوفية المتمردة على الخطاب العادي المألوف الخارجة عن عقلانيته ، المشحونة بالرمز والضمائر والأقنعة ، موغلة في بلاغة الغموض ، مرورا بتعرية المجتمع الغارق في بحور الظلمات داخل كهف الماضوية العامل على تكدير نبع البراءة من البدء وحتّى المنتهى ..
والنص في مجال التعرية يضع عددا من الصور كاشفا لها مرتكزا على إشارات تستحضر الغائب فيه .
فسبّ الكلام كفر بما هو سائد من لغو وتكرار ومألوف ومعاد ، ناتج الخوف والقهر والاستسلام .. سب الكلام فعل اللغة ، ما تواطأ عليه المجتمع وتعارف عليه الناس ، ما اعتقلوا أنفسهم فيه واجترّوه عبر السنين .. ما صدئت معه الحروف ، ما نفر عن الجديد ، ما نقلنا إلى الماضي ولم يقطعنا عنه أو إليه .. سب الكلام كفر بما يحمل من معانٍ تلفها العتمة التي لم نجد منها فكاكا .. والكلام فعل اللغة ، واللغة حاكمة الفكر ، والفكر ماضوي مثلها لا يمت إلى العصر .. فالحضور هنا فعل اللغة وهو الكلام والغياب هو فعل الكلام ، أثره ودلالته .. لذا استحق أن يسب هذا الكلام فهل من فم يقوى على ذلك ؟ وطلب الفم الجديد من أجل القول الجديد ، وإن تعذر ذلك قبل بفم فقط يكون دوره سب هذا الكلام .. وهذا ما أحالت إليه علامة (لو)
وطلب اليد حتى لو لم تكن تلك اليد الفاعلة المليئة بالحيوية القادرة على الفعل والتجديد وصنع الحياة (لو يدا) لأعض رخاوتها وأزيح بها ما بها من جلد متفسخ مـن طول اختبائها [كي لا تلوح بعد ، برد السلام ] والســلام ( داخل مجتمعه أضحى فارغا من مشاعر الود وتحية جوفاء) و(خارج مجتمعه أضحى ضعفا أغرى الأعداء لفرضه استسلاما وخنوعا) .
إنها هذه اليد الضعيفة الخائرة التي لا تقدّم للحياة شيئا ولا هي بقادرة على رد ضيم حل بنا .. إنها مخبأة من الخوف حتى تفسخ جلدها تعيش عالة على سواعد الآخرين .. ألا تستحق أن تتجدد ..
ثم ألا يعري النص ضعف القول والفعل لدى هذه البنية السائدة ، فلا الفم ولا اليد تقوى ، فإن لم أجد صدق القول وقوة الفعل فالقنوط واليأس والموت بين الزحام .. تستوي كل الطرق حينها ، فلا أقل من موت لهذا المشروع أستطيع أن أكمل به حياتي مع الآخرين المستدمجين لبنية الظلام بنية القطيع الزحام وسط عتمة هذا الكهف الكبير ..
ويهمس أنا النص لأنا الداخل محددا بيئة هذا الكهف وخارطته التي تبتلع أمة بحالها قائلا :
[ أتدري ! :
بي الشاطئ المترجل عن صهوة البحر ( وترجل الفارس عن جواده دلالة
على تركه القتال والدفاع والمقاومة .. )
بي طعم كل الفصول ( امتدادا جغرافيا كبيرا ..
وكل الأضاحي ( امتدادا اجتماعيا و دينيا ..
وبي رغبة في البكاء ( من القهر ..
وحج البيوت ( الدينية منها السياسية ..
وذبح الملائك
وبي أنت ( أيها الأنا الداخل ، أيها الإله النفخة ..
أيها الروح الأزلي .. أيها الضمير الحي ..
أغفر ما قدمته يداك
وما أخرته يداك
و أرفع من عرشك المتهالك ..).]
ومما يجعل الأمر عصيا على تغلب (أنا الداخل) بنية الوعي الخلاق ، هذه السيادة المطلقة لبنية الوعي التناسلي التي تجعل السببية للأشياء خارج الذات وخارج الكون وتؤمن بأن الزمن له اتجاه مسبق وأن المستقبل هبة من الله ، ولذلك فلا مجال لصنع التاريخ الذي يفترض الإيمان بأن المستقبل تصنعه فاعلية الإنسان ..

لذا فإن بنية الوعي التناسلي السابقة للنص تستعصي عليه وترى فيه مجرد (نفخة في القطيعة) و (خلوة في الركام) وهو ما دعا النص إلى أن يخلص [أنا لن أكونك ــ يا خجلي ــ لن أكون سواي] .
والزمن في (هتاف العتمة) زمن واحد مستمر غير متجدد ، كهف لا يخرج عنه و(لو أنك أحببتني ، كنت أخرجتنا صابئين من الوقت) ..
فالمتمرد الذي يسعى بالصراخ على النوم كي لا ينام ، ولفاعليّة صناعة التاريخ وصياغة الحياة ما هو إلا صابئ مارق يستحق في قوانين البنية الموت إلا أنه في رؤية بنية الوعي الخلاق موت مفرح لأنه موت لخلق وإبداع، موت لميلاد جديد ، هدم للبناء ، موت سيندفع دفقة دفقة من جفان العيون ويجري .. فتتجدد الحياة وتشرق الشمس ، ويولد الإنسان المبدع على هذه الأرض .
إلا أن (أنا الخارج) يهمس :
تريد لتفتح عيني
تبصرني بغيابي عني
وتأخذني مثل طفل كفيف إلىّ
وترحمني من شروري ؟
تريد لي الخير ؟ ما أطيبك
أنا لا أريد سوى أن أقولك في السر
أن أكتبك
سوى أن أفتت روحي عليك

وأن أحسبك
وجعا في الضمير ..
ويتواصل الحوار (التعرية) الذي تحكمه اللغة بين (الأنا) الخارج ثابت الحضور وبين (أنا) الداخل النموذج ، والصيحات والصراخ والألم والجوع والخيبة والقنوط والعجز والخوف ، كل ذلك يثبت حالة حضور (الأنا) الخارج محور النص ومبدعه حاملة عجزها عن تحقيق تفردها أو توحدها ورغباتها في البكاء ، في امتلاك القدرة على التعبير باللغة أو التغيير باليد ، في التمرد على هذا الزمن الليل ، من أجل الفرح الذي يجري مندفعا دفقة دفقة من جفان العيون ..

ولكن الذي خلق (الأنا) الخارج هو (الأنا) الخارج بجمعيته هو البنية السائدة التي استدمجتها الغالبية ، بلغتها المتكلسة التي سعى (أنا النص) إلى كسرها والتمرد عليها .. لقد مارس التمرد عبر اللغة . والوقت تحكمه لغة جمعت مفرداتها من الصحراء ومجتمع رفض الخروج منها وثقافة جاهلية امتد أثرها في تشكيله ، فأين الذات الكامنة خلف الركام .. وهل لها أن تعي نفسها خارج اللغة ؟ أم تعي الكون خارج الوعي الذي تكون لها عنه بواسطة المفاهيم التي استوعبها العقل وشكل سجنا لها لا تتجاوزه ولا يسمح لها بتجاوزه ، أم أنها البنية السائدة وسيطرتها وقوة قبضتها وآليات ضبطها وقوانينها ومفاهيمها وقيمها .. وهل (الأنا) المسيج (للأنا) المحاصر لها يمكن أن يكون هو عينه الأنا الداخل ؟ بمعنى هل الخلق (للأنا) محكوم بوعي الأنا الخارج والذي بدوره تشكله اللغة وتحاصره ؟ وهل بالإمكان أن تواجه اللغة نفسها لتسمح لنا بالتعدد والتجدد والتفرد .. فالجوع الفردي في آخر مقاطع النص ، والجوع الجمعي في المقطع الثاني يدخلان الزمن في كهف لا تجدّد فيه وعتمة لا منفذ منها . وبتحنط الزمن وعدم حركته تصبح النتيجة المنطقية أن الإنسان لن يكون سواه رغم تعاقب القرون ومرور الأوقات، وكأنه خارج حركة التاريخ .
هكذا يضع النص (هتاف العتمة) الصورة للأنا الخارج الجمعي ــ وهو أمر مخجل لها ــ المحكوم بالتقاليد البالية وأعراف الماضي المهجّنة والمهترئة ، ولغة الماضي المتكلسة .. الصورة واحدة لا تجدد فيها فالخروج من الكهف الصغير الذي كان يخبئ الإنسان العربي الفرد ليس للحياة بل إلى كهف مظلم تلفه العتمة وجد الأنا الجمعي نفسه فيه ، لا إرادة ولا فعل ولا حول ولا قوة في كلا الكهفين المعتمين ..
النص إذن يحمل الحديث عن زمن جامد معتم غير متجدد ، فهل يبرر ذلك عتاب (أنا الداخل) التي لو أحبت الأنا الخارج لتوحدت معها ولخرجا سوية لضوء الشمس ولأخرجت الجموع صابئة مارقة من ماضوية في حاضر الوقت .. وهل تحمل العتمة نفس دلالة الظلمة أو الظلام والعمى وانعدام الضوء أو الرؤية ، ضلال البصيرة وانعدام الاستبصار ، إن الظلمة يمكن أن تحيل إلى الظلم بينما العتمة من (عتم على الشيء) أي طمره ، حجبه ، وأخفاه عن عمد ، والنص يحاول إبراز الجوهر المعتم عليه بتراكم السنين التي حجبت إضاءة الحاضر . والمروق عن هذا الزمن ، التمرد على صدئه وعتمته إنما هو رغبة في التمرد عن ثوابت الماضي وتكلس الخطاب وتحجّر اللغة وربما المعتقد كذلك .. فاستخدام إشارة (صابئين) يعود إلى (الصابئة) المتمردة عن الدين المارقة عن أساسياته ، واللجوء إلى رحمة الرب والقسم به يرد النص إلى حظيرة الإيمان . يخلق هذا الاختلاف التوتر الذي يبدع اللغة أو تبدعه اللغة . ، والاختلاف كذلك بين الفرح والموت و(نفرح بالموت) ثم بين اندفاع هذا الفرح دفقة دفقة من جفان العيون ويجري .. الموت الخلود . أم الموت الفناء والعدم ، موت الماضي لإبداع الحاضر ، انقشاع عتمة الزمن للتمتع بإشراقات الشمس ؟ ما الذي يخلق الفرح ؟ التخلص من الألم القابض على الأنا ؟ الصراخ وصيحات القلب والطواف على عتمة إثر عتمة وعلى قبر إثر ليل ..؟
ثم لماذا اللجوء إلى اللغة الصوفية وجلبها من إشراقاتها وتجلّيها بإثبات الحضور الغيبي (الميتا فيزيقي) في العتمة ؟ هل احتجاجا وسبّا للكلام المألوف العادي الذي يؤازر العتمة ؟ أم لأن هناك ما يصعب الإفصاح عنه أو به؟ أم لأن العتمة استحقت اللغة الرمزية لاعتمادها على الصور الذهنية والتصورات المجردة ؟ وما الذي يريد أن يقوله النص فيما هو خارج هذه الإشارات . بمعنى ما هو المسكوت عنه من خلال المصرّح به وما هي علاقات الفاعلية وكيفية نموها داخل النص من خلال بنائية النص اللغوية وأسلوبه .
أما عن بنائية النص واغتناء بنية العبارة بالتشكيلات الدلالية والشحنات الانفعالية .. فقد سبق أن عرضنا لها خلال تحليلنا له بنيويا وأسلوبيا وسيميولوجيا .

ويبقى من آليات منهج التحليل الفاعلي ما الذي يبثه النص من فاعلية ؟ واضح أن النص يتجاوز البنية السائدة .. يعريها ويفضحها قبل أن تكشفه فتمارس الكبت عليه . إنه دعوة للخروج من الكهف / العتمة / الماضي / القبر / الليل .. بوعي جماعي لا برؤية فردية يسهل القضاء عليها ..
النص يتجاوز البنية اللغوية السائدة متعمدا اللغة الصوفية المتمردة على المألوف بحكم ما تحمل من تجل يرتفع عن المعتاد والمعيش ، كما يتجاوز البنية الدينية مستخدما التشكيل اللغوي الديني ومتمردا صابئا على رؤية أن الزمن المستقبل محدد سلفا ولا يد للإنسان فيه .
والنص يتجاوز البنية السياسة التي حاصرها الأعداء وجعلوا شاطئها يترجل عن صهوة البحر وينحسر إلى الداخل حين أصبح الماء ملعبا للجمر بما تحمل سفائنهم العسكرية والحكام تماثيل منصوبة صامتة ساكنة ، والشهور كلها لديهم حرام لا قتال فيها ولا رد للعدوان ولا مقاومة .. ولذا كان احتدام الملح في الأفواه من الخيبة والهزيمة ..
والنص يتجاوز السلبية باللجوء إلى المنافي ومعاقرة الخمر احتجاجا أو الدخول وسط القطيع يسير به في الزحام كيف شاء .
والنص يتجاوز انعدام الصدق في الود غير الصادق من هوى ماذق وجنس غريزي ، كما يتجاوز القيم الجاهلية للصحراء التي أثقلت الكاهل وحدّبت الظهر ..
والنص يتجاوز فوق هذا كله ، الضعف فعلا للغة والضعف رخاوة لليد ، ويدعو إلى التجديد في القول والقوة في الفعل .
النص يتجاوز الركون والظلمة والماضوية والاسترخاء واليأس والقنوط ويدعو إلى الفعل والحرية وصنع الحياة وبناء المستقبل .
إنه صرخة ملء الحنجرة وصيحة للقلب وهتاف في وسط العتمة .. إنه فاعلية لغوية جريئة بليغة .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق