الجمعة، 16 أكتوبر 2009





عبدالرؤوف بابكر السيد .
شاعر أفريقي . عربي . مسلم من السودان الأشم .
.. وليس القارئ محتاجاً أن أقول له هذا، لأنه سيجده مبثوثاً وحياً ناطقاً في كل قصيدة من قصائد هذا الديوان، والشاعر الذي لا تعرفه من خلال شعره لا يستحق أن يضاف شعره إليه
!!وفي محاولة سريعة جداً ، وظالمة جداً نحاول أن نضع خطوطاً عريضة تحت كل صفة من صفاته من خلال بعض النصوص ......

. _ شاعر :
ما الشعر ؟.. ما هو هذا الذي يستفزنا في الأعماق _ حتى يخلخل أعماقنا حين نكتبه، وحين نستمع إليه؟.. ما هو الذي لم تستطع يد النسيان الطاغية أن تصل إليه، ولم تستطع الماديات الجارفة أن تقطعه؟.. سيطول بنا الكلام جداً وجداً _ لو أردنا أن نتوقف لنعرّف الشعر، ولن نصل إلى شيء هو موضع اتفاق، ولكن الذي لا اختلاف عليه، أنّ الشعر هو نحن بكل ما فينا .. ومن هنا كان لكل أمة شعرهاً، وفنها الذي قامت عليه وجداناتها .. وربّما من هنا أيضاً كانت صعوبة ترجمة الشعر من لغة إلى أخرى، فهو إذا ترجم فَقَدَ خصائصه التي جعلته شعراء ولم يبق منه إلا " المعنى" الذي لا يجعله إلا كلاماً !! فالشاعر هو الطفل بتربيته ، وتربته ، وقراءته وقريته، وفهمه وشحمه ولحمه !! هو بكل ما فيه من صحةٍ ومرض، وهدوءٍ وحدة وسرعة وبطء .. كل ما في الشاعر، تجده مبثوثاً في شعره فإذا لم تجده فيه، فالشعر لا علاقة له بشاعره ولا بالشعر!! ولهذا ، فأنت تجد "عبدالرؤوف" في كل حرفٍ في القصائد..هو لم يغب عنك منه شيء إلاّ ما لا علاقة له بالشعر مما يستوي فيه الناس ، وربّما غير الناس !! يقول الشاعر في قصة (رقصة العشق):
" لو تكتبين النصّ فيّ ..
أو تقرئين الحرف في كلّ الجهات..
لو تسقطين السطر منه..
أو تكتمين البعد عنه..
فالحبّ دفقات من الإبداع
نبضات رقيقات من الإيقاع
تعطي للحياة البعد..
والما بعد فينا..
ترتّل الأنشودة العظمى فتشجينا
وتشجي القلب والأسماع أحلى الأغنيات
.."
أرأيت ؟ أسمعت معي أيها القارئ ؟
" وتشجي القلب والأسماع أحلى الأغنيات.."
.. ليس الشعر والغناء إذن وقفاً على القلب والمشاعر ؟ ..
.. وليس تعبيرٌ عن الشعور وكفى ..
إنه تعبيرٌ وزيادة ، و"زيادة " هنا ، هي التي جعلته شعراً .. فلو كان " تعبيراً عن المشاعر" .. فقط .. لكانت الأم الثكلى وهي تنوح أشعر الشعراء .. لكنه تعبيرٌ عن المشاعر وزيادة " تشجي القلب .. والأسماع "
و"الأسماع " هنا ، هي الزيادة المطلوبة .. الإيقاع " والصنعة " و"التأنّق في الصياغة ".. إنها الأمور التي تجعل الشعر " أحلى الأغنيات".. هل قلت لكم " التأنق في الصياغة "..أعني هل قلت " الصنعة " مثلاً ..بلى ورغم أنف النقاد الذين ينكرون الصنعة والتصنع، ويعتبرونها تكلفاً وجهداً لا طائل من ورائه!! ويهاجمونها هجوماً حتى يخرجوها من دائرة التعبير، ومن الحق، أن الصنعة ليست شعراً .
لكن الحق أيضاً، أن الشعر صنعة .. وإذا لم يكن صنعة ، وتأنقاً ، وجمالاً ، ورقّة ، وجرساً ، وإيقاعاً ، فهو ليس " أحلى الأغنيات " إنه " أغنيات " ولكنه ليس " أحلى الأغنيات " يقول عبدالرؤوف :
" قد يقبل العقل التبرج بالعبارة "
" .. لكن ما في القلب تطهير لما في الحروف..من رمز الإشارة " فالشعر هو في بعض ألوانه "تبرّح" .. أنه الحرف الذي تتبرج به عبارته .. العبارة تتبرج، كأنها " الأنثى تصدت للذكر " تحشد كل أسلحة تبرّجها كي تبدو جميلة ، وفاتنة ، ومغرية !!
.. والشعر ليس إلا بعض أنفاس الأنثى . وما الشعر أيضاً ؟
يقول عبدالرؤوف :
" قد يعتلي العقل الصغائر كلّها
لكن ما في القلب..ماء العين
ينبوع من الإيماء..
يختزن التوائم والشقائق والدقائق
من أمور النشأة الأولى.. وطيف الذكريات
ويحتضن النسيمات التي تمتد عبر الكون
لوحات التفتّح باللغات
"
ولو مضينا نستقريء الديوان على هذا النحو ، لما توقفنا عند حدٍ ، ولكننا اكتفينا بالإشارة ..
_ أفريقي :
تنبثّ أفريقيا في دم الشاعر تاريخاً وشعوراً ، فهي تلقاك في كل كلمة في الديوان غناء، ونداءً ، ودماءً وعناءً .
" أنت لو تدرين
- لوحات وإبداع من الآيات في جسد الحروف
غابات ، مساحات خرافية..
أنت مدّ .. وامتدادات وفيّة..
أنت يا وطني بك الإشراق أفراح نديّة..
أنت يا وطني المعاني كلها..
لا تخافي..
وامسحي لمسة الحزن المهدّد للفرح
أنت محراب وإيمان،
روايات مقدّسة، ومسبحة،
ولوحات من الإبداع جسّدت الحقيقة
أنت يا سمراء في الكون الحقيقة
..."
فهل تحس كيف تلامسك روح أفريقيا وأنت تتجول في رياض هذا النص تلمس هنا .. أفريقيا في كل حرف، وهذا هو الأهم..في نبض النص ، وتقطيع كلماته وقوافيه، في هدهدة الإيقاع الأفريقي الذي يخترقك من خلال النص.. وفي قصيدة أخرى يناغي الشاعر أفريقيا يقول :
" عيناك أجمل ما رأيت في المكان والزمان
موسوعة الأنهار والبحار والوديان
والخلجان والشطآن والإنسان والإنجيل والفرقان
والإيمان والمحبة التي تضمني بصدرها
قبيلة من حنان والأمان واحة من الحنان "..
ثم ماذا بعد ...
ثم هذه المناجاة حيث يترنم لأنه ..
" يحدّق الأطفالُ في الضلال والهدى..
البؤس يرتدون
يجلدون في البيوت من آبائهم
ثم يجلدون حين يكبرون،
الصغار يجلدون
الصغار والنساء يجلدون..
الصغار والنساء والرجال يجلدون..
لكنهم يحدّقون في المدى،
والعين في الجنوب،
والجنوب... والجنوب.
يا مارد الجنوب،
ثبت الأقدام في التراب واحتم،
بحكمة الأحراش، والغابات، والدروب.
بالحبّة السوداء، بالأعشاب،
بكل نبتة في أرضنا السمراء..
تعانق السماء
.."
وأفريقيا ، تجري في دم شاعرنا نغماً وتعبيراً متناغماً ، وإن أردنا فقط أن نتمتع ببعض .. الغناء من نصوص هذا الديوان .
_ عربي :
وهنا أيضاً لن نتوقف فمن العبث أن نتوقف ، واللغة المشرقة تطالعنا ، والإيقاع النابض يلقانا في كل حرفٍ راقصاً حيناً ، وبطيئاً ، أحياناً لكنه حي في كل الأحاسيس ، ولماذا نتوقف ، وكل قصيدٍ في الديوان يخبر عن مشاعره ، وعن عروبته النابضة ، وعن الأصل الممتد فيه بما فيه من الخير والشر ، والمقبول والمرفوض ، فهو عربيٌ فيما يكره وفيما يحب .
" الأصل ... كالنخل في أرض العرب
والأرض .. كالعرض في لغة العرب
يا ترى .. بي من أبي جهل نسب
.. يا ترى .. بي من أبي جهل غضب؟
"
وليس أبوجهل " بالنموذج " الذي ينتسب إليه لو أنه اختار الانتساب ، ولكنه النسب الذي لا نملك إلا أن نخبر عنه !!
وأنسابنا هي السوأة التي لا نملك إلا أن نفاخر بها .. وهي سوأة .. ففي مرارة أيامناً وفي هذا الزمن الأجرد .. لا يطالحنا إلا ألم أنسابنا الأصيلة.
" تشرق الأحلام تولد ... في القصيدة
كراسة الطفل الحزين
بها الألوان ، خارطة الخصام
بها الأيام ، والأرقام ، دائرة بلا إشراق
.. بها التاريخ أعمى
بها العينان مختلفان ، لا بصر ولا أحداق
"
ولن يصعب على القارئ أن يتذوق مرارة (خارطة الخصام) التي جعلت الألوان تشوه كراسة الطفل الحزين، ولا يعسر على القارئ أن يغرق في هذه الدائرة المظلة التي غاب .. إشراقها ، ولا في هذا التاريخ الأعمى فتلك بعض من بعض من مرارة عصرنا الرديء فإذا أراد االقارئ أن يطالع غربة الروح في دهاليز الألم ففي هذا النشيد النشيج مثل من ذلك :
" الله يا دار السلام
الله يا لغة السلام
والابتسام المر عند مغيبها
.. الله يا جمر المنام ويا كوابيس الظلام
.. الله يا نصف الإله إن انحني وإن استقام
هربت بلاد الوزر من أرضي بنهريها
.. وأهدتني بلاد العشق تهديها ، وقبلتها الحرام
.. لم تكن برداً على النار في وطني المهدد بالسلام
"
أجد نفسي ثقيل الظل جداً إذا طلبت من القارئ أن يتأمل هذا التعبير " وطني المهدد بالسلام " فإني ألمح الخيال فيه وثاباً، والسخرية قادحة ، وفادحة .. فكيف يكون السلام تهديداً، وهو الأمان ؟.. إنه السلام الذي يهديه القوي للضعيف، والسيد للعبد، والذكي للغبي، والقادر للعاجز، والخادع للمخدوع .. إنه " السلام " الذي تضربنا به طائرات الغزاة من أجل نشر "الأمان" في أرضنا !! وتلك بعض أوجاع العروبة ، في قلب عربي شاعر !! .
_ مسلم :
هذه أيضاً لن أتوقف عندها، فأنت أيها القارئ ستلاقيك النصوص والمفردات، والتعابير والأحاسيس القرآنية في كل كلمة، وفي كل حرف .. ومن أطراف ما صادفني من .. ذلك قوله في القصيدة السابقة عن الزمن الأجرد .
" زمن تحجرّ دمعه
نامت قوافيه ، اكتست زيّ الحجيج
.. حدّدت في كل عام ..
قبلة البيت .. وموقع التكبير والإحرام
"
والقوافي التي تكتسي زي الحجيج هي قوافي عارية أو تكاد .. وهي قوافي ترفع رايات الاستسلام البيضاء !! وهي بعد هذا وذلك لا تتحرك إلا في إطار معلوم ، وفي زمن معلوم .. !! كأنها تدار بالأزرار .
: وما رأي القارئ في هذه الصرخة العاتية
" اللهُ لو يرضى لنا..
مثل القطيع يهشّه الراعي..
ويحصره الطريق..
ما خاطب العقل في آياته حتى نفيق..
خلق الإلهُ الخلق أحرارا .. ولم يبن السجون.
خلق التراحم بيننا .. لكنهم خلقوا الأتون..
غرس الأخوّة .. والترابط .. والمحبّة
والتآلف.. والتزاوج .. والتمازج ..والحنين.
هم قسّموا باسم السلام ديارنا
هم شوّهوا باسم السياسة ذاتنا
هم دمّروا بالخوف كلّ حياتنا
هم نصّبوا الأوثان في أوطاننا
هم عمّقوا باسم الإله جراحنا
"
فهذه صرخة بألفاظها، بأخيلتها وأنفاسها، لا تكون إلا من مسلم امتلأت حياته بقيود أدعياء الفقه الذين حرّموا طيب الرزق ولذيذ الغناء !! وفواكه الشعر والشعور !! وهي صرخة تعني التمرد على قيود الأدعياء، ولا تعني الخروج عن قواعد الله سبحانه .
" نحن الإله له عبيد
لكننا في هذه الدنيا
نصوغ حياتنا وكما نريــــد .. "
_ سوداني :
كل شيء في هذا الديوان، وفي شعر عبدالرؤوف عامة، يحمل بصمة "السوداني"، من إيقاعه، إلى صوره، إلى روحانية صاحبه الفطرية، إلى تمرده العنيف .. واستنكار النصوص الشعرية السودانية منتشر في الديوان، في أغلب قصائده، من الأمثال إلى الأغاني..، إلى أسماء المدن والأماكن والشخصيات.
" وخرطوم هذا التسامح للكائنات
.. الصفات الأبيّات
البوادي ، الكهوف
الريا وكل الطبول وكل الدفوف
زغاريد هذي المحبة ، تطرد منك الحسد
وصوتك يستلب اللب ، عبر مسام الجسد
فا غرس روحي بقلب الحواضر والغائبات
"
فأنت هنا في حارة من حارات الخرطوم بكل أنفاسها وناسها وإحساسها، وأجناسها، تصافحك الزغاريد التي تطرد للحسد، ويلقاك ندياً هذا الصوت الذي يستلب اللب ، ويستقر عبر مسام الجسد سمعك وقلبك ، وهذه الطبول وهذه الدفوف .. وأنت في حارات الخرطوم التي تعبق بالتسامح، وتتضمخ بالصفات الأبيّات !!.. فالكلمات تم اختيارها بعناية لتمثل الأجواء بدقة .. والصباحات النديات التي يناغيها الشاعر منذ مطلع القصيدة لا تكون إلا في الخرطوم حيث المدنية التي تنام في أحضان النيل الندي !!
المعذرة ..هذه صورة مختصرة جداً ، ظالمة جداً جداً ، للشعر وللشاعر .. الشاعر الذي .. عشق الحرف، وأحب الكلمة، فعاقر الشعر مصبحاً وممسياً وما بين ذلك!! حتى استحالت حياته إلى شعر :
" هذا أنا أتدثر الكلمات .. التي نزفت من دم الأغنيات
أعيش الحياة كما أبتغي
.. أجوب القرى وكل العواصم
.. أقرأ فيك الملاحم
.. أخلق فيك الفضاء الذي ينتمي
لطعم ولون ومعنى الحياة
.."
حتى صار الحرف بجرسه ، وإيقاعه ، وموقعه ، همّا من همه في دمه ..
" للحزن محراب مقدس
أولى شعائره الصيام . عن الكلام
إلا كلام الله يطفئ جذوة من ناره
ليحمينا السلام
"
فتغزل في الحرف، كما تغزل بالحرف.. وعبّر عن الحرف كما عبّر به.. واستغرقته المفردة والجملة، والكلمة والمعنى، واللفظ، حتى تداخلت في مشاعره قبل أن تتداخل في فكره، وامتزجت في إحساسه قبل أن تمتزج في عقله، فصار الحرف كلاماً.. والكلام حرفاً، واتسع هذا بذلك، وضاعت الفواصل في عقل يكره الفواصل!!
ولهذا لم تضق نفسه، ولم تحنطه القيود والتقاليد، وفي ديوانه تعبيرٌ عن أصالته وعن عصره.. فمن بغداد إلى الهاتف المحمول، ومن دار فور إلى الإميل كلها أشياء عاشها وكلّها أشياء عاشت في شعره !!.. إنه الشعر .. نحب الناقة فنتغزل بها، وتأسرنا الطائرة فتغني بأوصافها، ولا رجعية في الأولى، ولا عصرية في الثانية !! إن الرجعية أن تقول شيئاً ليس منك .. إنما النظم في الشعر .. أن تدعي العصرية ادعاء فتصف مالا يعيش في .. داخلك وإن هو في عصرك .. وكفى .
عبدالرؤوف بابكر السيد .. شاعر أفريقي، عربي، مسلم، سوداني، أستاذ في اللغة العربية في جامعة التحدي خليج سرت، ولو لم أقل لك شيئاً من هذا كله لقالته لك أشعار عبدالرؤوف .. فعبدالرؤوف وشعر عبدالرؤوف شيء واحد !! وتلك هي مزية الشاعر، في الصدق الفني، التي إن فاتته، فليس يستحق أن ينصب له ميزانٌ في عالم الفن والجمال .. المعذرة ، أردت أن أقول، وأقول..ولكن المجال ضيق فعسى أن يكون الذي قلته "خارطة" صغيرة لعالم كبير !!.

عمر رمضان عمر
سرت / 21/ 2 / 2007 مسيحي


.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق