الأربعاء، 30 سبتمبر 2009

الرؤية والتشكيل الفني

قراءة في قصيدة
" وترية الهاجس والحرف "
للشاعر عبد الرؤوف با بكر السيد
د . حماد حسن أبو شاويش


إذا كان حقاً ما قيل من أن الشعر تعبير عن الوجدان ، فإن من الحق أيضاً القول إن الشعر نوع من الكشف وتوضيح الحقيقة . وإن من مهام الشاعر وفق هذا المفهوم - أن يرفع الحجب عما يراه في الحياة من تناقضات وغوامض كامنة - وهذا ما يلفتنا عند قراءة قصيدة ( وترية الهاجس والحرف ) إذ بدا الشاعر عبد الرؤوف با بكر السيد في هذه القصيدة الطويلة على درجة عالية من التواصل المستمر والمعايشة الحقيقية للواقع والأحداث .......



 مؤكداً نوعاً من التفاعل الوجداني بين ذاته وبين الوجود من حوله ، محققاً موقفاً فكرياً ونفسياً نحو الوطن الكبير الذي يسكنه ونحو قضاياه التي يعيش لها .
إن هذه الوترية بالإضافة إلى ما نشره الشاعر من دواوين كديوان ( الدموع المحال ) تؤكد رسوخ قدم الشاعر وقدرته على المضي قدماً في درب الإبداع الشعري بكل ثقة وثبات ، فهو صوت متميز نابض يعبر عن الوفاء والانتماء للوطن العربي الكبير وللإنسان في كل مكان ، ينشد للفجر القادم ويحلم بغد أفضل معبراً عن رؤية واقعية تتبنى في مضمونها رسالة وطنية وإنسانية وأخلاقية ، يلجأ من خلالها إلى نوع من الخطاب الشعري يتسربل بالرؤية الواعية وتشخيص الواقع المظلم .
إن وقوفنا عند هذه ( الوترية ) سيكون على مستويين اثنين :
المستوى الأول : رؤية الشاعر وأفكاره وموقفه أو ما يمكن أن يسمى مضمون النص .
المستوى الثاني : البناء الفني للقصيدة . أو ما يسمى بالشكل .
فالعمل الفني يتضمن شكلاً ومضموناً وكلاهما وجهان لعملة واحدة .
أما على المستوى الأول : مستوى الرؤية أو المضمون : فإن أول ما يلفت الدارس ( للوترية ) هو الشعور الحاد القاتل بالغربة والكشف عن مظاهر التردي والسقوط والضياع وعوامل الموت والتحدي التي تحاصر الأمة .
وبدت الغربة في القصيدة غربة أمة بأكملها عن كل مظاهر التقدم والتماسك والانبعاث. وجاءت الغربة في صور عديدة :
- الغربة في صورة تمزق عربي وحالة من التشرذم والانشطار الداخلي والخارجي ، والصراع القاتل كما في قول الشاعر :
نتلاحى ، نتهاجى ، نتمادى ، نمتلئ إحن
نتباهى ، نتشابى ، نتعابى ، نتغابى
لنكون دمى فنصير دِمن
.
وقوله :
أيا قابيل القابع فينا
كيف تراني
أيا إسماعيل - فداك الله -
نعاج الذبح اليوم
بكل مكان
......
وقوله :
لما هزم الحرف هزمنا
لما ذبحته اللهجة
قمنا نبحث عنه
فكان الروح جريحاً
وفضاء الفرقة فينا

- الغربة في صورة ضياع كلي لكل مقومات الإنسان والمجتمع والوطن ، ضياع على المستوى
الثقافي والسياسي والاجتماعي والفكري .
كما في قول الشاعر :
وجد الوطن . عمارات وسفارات وحكومات وإذاعات
وجراحات ومطارات ، بوابات ، جنرالات ، اعدامات ....
وجد الغربة طالت سعف النخل
وجد الوطن ارتحل من التاريخ
.
- الغربة في صورة المفارقات والتناقضات العجيبة وانعكاس الواقع ووضوح الزيف
كما في قول الشاعر :
بين الطلقة والزيتون
جذع النخلة كان النطع
لغة الزيف كان الشرع
حد السيف كان الوضع
فكيف أكون
والبيض كثير في وطني
لا يفقس غير دجاجات
بعباءات وعقالات
وعمامات بيضاء

- الغربة في صورة إحساس بالضياع وافتقاد الأصالة وانقطاع الارتباط بالجذور
كما في قوله :
والرحم المهجور بلا قابلة
والجذع المنسي لنخلتنا
الشامخ كان بأرصفة الصحراء
تجعد هذا الوجه بلا تجربة
بين الغبراء وداحس والميناء
-
الغربة في صورة التبعية الفكرية والسياسية والحياتية
كما في قوله :
الغربة في الرئتين
لأن هواءً صدئاً جاء إلينا

وقوله : ومنذ قرون ونحن صرعى للأفيون ، وقرص الجون ....
والهيبي البدوي التائه في صحراء ملاهي بون....
إن شاعرنا الرافض لكل أشكال القهر والاضطهاد وعمليات احتواء الذات وتطويقها وتذويبها يجد في الحرف والكلمة الشعرية وسيلة لامتلاك النفس والعصر والمصير ، كما يجد فيها عامل تواصل بالجذور والتاريخ والذات الأصيلة ، ففي مواجهة الاستلاب تصبح الكلمة هي التي تضيئ الطريق حتى في أشد الظروف قسوة وإيلاماً ، وهذا ما يكشف عنه عنوان القصيدة من البداية ( وترية الهاجس والحرف) وما تؤكده مضامينها الفكرية والمعنوية من خلال الاقتراب والتعمق في مداخلها وجوانبها المتعددة .
ويعد احتجاج الشاعر على الواقع احتجاجاً ثورياً ايجابياً ، وهو يخالف في هذا الموقف أو الاتجاه مواقف بعض الشعراء الذين يعلنون موقف الانسحاب من المواجهة ، والذين يدعون أحياناً الآخرين إلى هذا الانسحاب في مثل قول أحدهم :
ماذا يملك أن يفعله الشعراء
لقد سقط الشعر
فعد للبحر ... شرور مدينتنا تكفي
يا شاعراً مت منفرداً
طوبى للقتلى منفردين أمام ضمائرهم
( اعترافات مالك بن الريب / يوسف الصائغ )

وظاهرة التمرد والرفض من أبرز ملامح الوترية ، وهذا الرفض أو التمرد ليس هرباً أو انعزالاً ، فالشاعر- الذي يملك وعياً حاداً بما حوله - حين يرفض الجانب المظلم الزائف إنما يتخطى ذلك الحضور إلى حضور أكثر إشراقاً وأملاً ، ولعل ذلك يفسر ظاهرة السوداوية والقتامة التي تسود جانباً غير قليل من الوترية ومن غيرها من القصائد .
إن لشاعرنا ما يبرر تجهمه وقلقه وتبرمه وحزنه , فكل شاعر صادق يدرك أنه في قلب المعاناة وأنه لم يكن يوماً في بحبوحة نفسية أو ذهنية ، إنه يعيش عند ملتقى الأطراف المتناقضة والحالات الصعبة ، وكأن التوتر والقلق والمعاناة قد فرضت عليه فرضاً . والحق أن الشاعر الملتزم لا يستطيع أن يقبل ما في الواقع من ظلم وقهر لأن قبوله يكون نوعاً من مسايرة الزيف وهذا يعني الجمود والتحجر والموت ، أما التمرد ورفض الظلم بكل أشكاله فهو نوع من التطلع ، نوع من الفاعلية الحية ، نوع من خلق الإنسان لمصيره وتجديداً لحياته ونفسه .
إن هذه السوداوية أو القتامة عند شاعرنا لا تبقى هي الصورة النهائية أو الحاسمة في رؤيته وفكره ، فمن ذلك السواد المكثف ينبجس أحياناً الأمل وفيض من النور والرؤيا ، فشاعرنا الذي
يقول :
والعرف السائد بات هجيناً
الحرف سجيناً .. القلب حزيناً
طال الزمن الليل القمع
كذب الودع .. ثقل السمع
انطفأ الشمع .. انفرط الجمع

هو نفسه الذي يقول :
والحرف لأجل الخصب يقاوم
والروح تقاوم .. والطفل يقاوم
والنخل يقاوم .. والنبض يقاوم
.. ليلوح الصبح وينمو القمح
الوطن السمح ، يكون ، أكون ، أكون ، يكون
.. نكون حروف الوطن غدير
نكون تهامة .. نكون عسير
نكون الحد ، نكون السد ، نكون المد
......
لن يهدأ هذا الهاجس
حتى يعلن فينا :
أن لاح الصبح
انتصب الصرح
انتصر الجرح

ويبدو أن في هذا التوازي بين الأمل والحزن ما يشكل المعاناة النفسية التي يكمن فيها سر تجدد إبداع الشاعر ، وهذا نفسه يؤكد أن الشاعر قادر على الإتيان بالإثارة والدهشة في كل الأحوال ، فإلى جانب الصور القاتمة نلحظ نغمة أمل حلو مضيء وإيماناً صادقاً بحتمية بزوغ الفجر وزوال الظلام والانتصار على كل صور الشر والظلم ، إن الشاعر يحاول أن يرى النور في الظلمة ، والأمل في حومة البؤس والشقاء ، لقد حلق بأجنحته في فضاء الأمل والنور، ومن هاتين النغمتين نغمة الأسى والحزن ونغمة الأمل والرجاء تستمد الوترية جانباً كبيراً من جوانب نضجها وروعة مضمونها الوطني والقومي والإنساني .
والشاعر في هذه الوترية وفي أكثر شعره يبحث عن خلاص ليس لروحه فحسب ، ولكن للإنسان في وطنه الكبير وفي كل مكان ، ومن هنا فنحن نواجه ذاتاً تنشد للآخرين ولا تبكي أحزانها وحدها ، بل ترثي مرارة الواقع ، وهذا يؤكد أن رؤية الشاعر لا تميل إلى الالتفاف حول الذات والانشغال بالهموم الخاصة على حساب هموم الجماعة , كما يؤكد قدرة الشاعر على تشعير الحياة ، بمعنى كشف اللحظات الشعرية في الحياة والواقع ، مثله في ذلك مثل كل شاعر كبير يعود بنا إلى اللحظة التي يواجه بها الواقع ويصطدم بمعطياته اصطداماً شعرياً .
ما سبق كان على مستوى المضمون والأفكار والرؤية والموقف ، أما على مستوى التشكيل الفني فإنه تستوقفنا في الوترية خصائص أسلوبية مميزة لعل أبرزها الوضوح ، فليس فيها شيء من الغموض ، إذ ليس فيها عروق سريالية أو تهويمات غامضة يصعب الاهتداء إليها ، حتى الرمز كان غير مفتعل ولم يزيف إحساس الشاعر بل كان وسيلة للتعبير عن رؤية الشاعر وإحساسه الحقيقي ، وكان من السهل فهم دلالاته ومعانيه ومن الرموز البارزة :
" الحرف " الذي يعني الكلمة، اللغة، كمقوم من مقومات الشخصية العربية والرابط الروحي لها .
ومنها " اللهجة " التي تعني التبعثر ، التمزق ، الانشطار، الفرقة ...
" الأفعى " أي الشياطين البشرية : ( أن الليل وسم الشهوة والأفعى لما تسعى )
" شاء بناء السور وهدم الدور وحجب النور " ترمز إلى الظلم والبشاعة بحق الإنسان .
" مسام التربة " وهي الوطن والجذور والأصالة والهوية العربية :
من عمق مسام التربة هبت
كل جذوري من مرقدها انتفضت
......
ما بال الهاجس
يوغل بين مسام التربة

" ذبح طيور " أي قتل البراءة وسفك دماء المغلوبين .
" الرحم المهجور بلا قابلة " الجذور والقيم والأصالة ، بلا منقذ يحرص عليها .
لقد كان الرمز إضاءة لجوانب من الوجود المعتم بمثابة البرق الذي يتيح للوعي أن يستشف عالماً من الصدق .
ويلاحظ استخدام اللغة الشعرية استخداماً موفقاً بحرصه على البعد عن افتعال لغة متعالية صعبة ، فهو يستخدم اللفظ الذي ينقل الإحساس الحاد بالأشياء .
وقد وظف اللغة لتحمل دلالات متجددة تجاوز الدلالة الأولى ( أي حافلة بالإيحاء ) :
" القمر الشاحب ، خصلة هذا النيل علامة ، تخوم الليل " .
ومعجم الشاعر اللغوي يكشف عن امتلاك الشاعر لأدواته اللغوية امتلاكاً واعياً ، فكلمات الشاعر موحية دالة على أفكاره وعواطفه ومواقفه ، وهو معجم يتلون ويتنوع بتنوع التجربة فنلحظه في مواقف الاحتجاج والتمرد والغضب يستخدم ألفاظاً مناسبة لهذا الموقف مثل كلمات مثل : ضل ، شح ، اليتم ، اللعنات ، تكلس ، الحسرة ، وفي مواقف الإحساس بالإحباط والضياع يستخدم ألفاظاً مثل : إعدامات ، فرمانات ، خيانات ، خرافات ، وفي مواقف التحدي والأمل يستخدم ألفاظاً ملائمة مثل : نور ، فجر ، مصابيح ، شمس ، الروح .
أما النفس الموسيقي فإنه متدفق بصورة مطردة تعكس حالة نفسية ووجدانية حية ، وقد استخدم قالب القصيدة الجديد (الشعر الحر) ولعله أنسب للتدفق الوجداني وللدفقة الشعورية المتواصلة ، وليس المهم النوع أو الشكل وإنما المهم أن يكون الإيقاع متوافقاً مع إيقاع النفس .
ومن الظواهر الأسلوبية استدعاء بعض الشخصيات التراثية وتوظيفها واستخدامها تعبيرياً وفنياً لحمل بعد من أبعاد تجربة الشاعر ، أي أنها تصبح وسيلة تعبير وإيحاء في يد الشاعر يعبر من خلالها أو يعبر بها عن رؤيته المعاصرة كما في قول الشاعر : "أيا قابيل القابع فينا كيف تراني". وقابيل رمز لكل سفاح ولكل قاتل معتد جان ، وخصوصاً إذا كانت ضحيته تمت إليه بصلة قوية كما هو الحال في واقعنا العربي .
وقد أبدع الشاعر في استخدام كثير من الصور والأخيلة للتعبير عن أفكاره ومشاعره وكانت صوراً لا تخلو من الجدة والطرافة مثل : الحسرة تنهش فينا – الميناء امتص رحيق براءتنا – الحزن المجنون – الفرح تمدد – القمر الشاحب – الأرض الحبلى .
وجاءت الوترية شعراً مؤهلاً ببعض عناصر التقنية الدرامية كالمفارقة والحوار والمونولوج واللغة الحية المتنامية وذلك بغرض التأكيد على الموقف الانفعالي المؤثر كقوله :
والتربة كانت عطشى
والبذرة كانت دافئة كالهمسة

قالت :
أعرني أذن الليل
لأسمع نبض حياتي

ويتميز شاعرنا في هذه الوترية بنفس ملحمي طويل ممتد ، ولعل ذلك متصل بطبيعة انفعال الشاعر وإحساسه نحو القضايا المتشعبة القاسية التي تأثر بها وتعامل معها في النص ، كما أن لطبيعة الموضوع الذي تناوله وهو هموم الأمة وحالها وواقعها وروح التحدي دور واضح في ميل الشاعر إلى الإطالة والتوسع ، ثم إن القصيدة القصيرة لا يتسع مداها لانفعال الشاعر الواسع ولا توفي مثل تلك الموضوعات الواسعة حقها .
كما يلاحظ استخدام أسلوب السخرية المرة والتهكم وهو من أساليب النقد وتعرية الواقع مثل
قوله : رد الغزوة تلو الغزوة بالدعوات
كما تسود ( الوترية ) الناحية الاستطرادية . ولعل ذلك بسبب رغبة الشاعر في إشباع جو صوره ليزيد من القدرة الإيحائية للقصيدة .
إننا نلاحظ أن الصورة الواحدة تجر إلى استطرادات من الصور ، وهذا نوع من الطاقة الشعرية تتفجر مرة واحدة لتستدعي جملة من الأحداث مثال قوله :
طال الزمن ، الليل ، القمع
كذب الودع
انطفأ الشمع
انفرط الجمع

إن استخدام الشاعر بعض الصور التعبيرية المفاجئة يعتمد على التداعيات النفسية بواسطة الصور المتعاقبة يهدف إلى صدم الوعي وخلخلة الارتخاء للنمطية المألوفة للأداء وتجاوزاً للاستنامة الخدرية في الشكول التقليدية .
ويبرز أثر الثقافة الإسلامية في ( الوترية ) كما في إشارته إلى قصص بعض الأنبياء :
أيا إسماعيل ( فداك الله )
نعاج الذبح اليوم بكل مكان
وفكرة الفداء والذبح فكرة إسلامية استخدمها الشاعر لتأكيد المفارقة والظلم .
ونلمس نزعة صوفية في الربط بين الروح والحرف ، والحرف هنا هو الرؤية والكشف . ويتضح بجلاء أثر الثقافة التاريخية والسياسية وبخاصة الإشارة إلى قصة كليب ، والحجاج وعثمان والحلاج ، وبعض الأحداث السياسية في مختلف بقاع الوطن العربي من السودان إلى لبنان .
كما يتضح تواصل الشاعر مع الشعر القديم فنجد نفس المتنبي المتمرد والمعري الناقد للمجتمع، وتواصل الشاعر أيضاً برواد الشعر الحديث كالسياب .
إن امتلاك الشاعر لأدواته الفنية وقدرته على النفاذ إلى الجوهر ووضع يده على مكامن الداء ومواجع المأساة وعوامل وجودها جعله أكثر حرصاً على رفض الهزيمة والتصدي لعوامل الانكسار والتخاذل والسقوط .
وهكذا يأتي الشعر في هذا الزمن المثخن بالمعاناة ضرورة أساسية ضد عوامل الضياع والحصار والهيمنة والغطرسة ، وحضور الشعر لمواجهة هذا الواقع والكشف عن الزيف حضور لا بديل عنه لكي تظل الكلمة الصادقة أكثر ارتباطاً بالواقع وأكثر تمسكاً بالأمل . وهذه القصيدة خطوة جادة في هذا السبيل .
.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق