الأربعاء، 30 سبتمبر 2009

ديــــــوان الحــــــروف:
بحثاً عن المعلقة ..بحثاً عن عكاظ..!
أ.حسن أحمد الأشلم
نشرت بمجلّة تعالوا عن مكتب الإعلام بجامعة التحدّي العدد الأوّل سبتمبر 2008
بحثاً عن المعلقة:
عندما يجعل الشاعر الحرف دثاره ويدخل قوقعته؛ تتعدد فضاءات الغربة، وتتسع مساحة الاغتراب، ينفتح الأفق أمام فيض المشاعر واختلاط الأحاسيس، وتدخل الرؤى والهواجس منظومة المؤامرة لتراوغ أنماطاً مختلفة من القراءات والقراء المتدثرين بعباءات السلطان والصولجان والفضيلة والدين..، والحفاة العراة، والأنفس الصارخة في أذن الصمت، والقابعين على قارعة طريق الأمجاد المقددة، والتائهين في خارطة الحاضر الجليدي الصديدي المتسرطن..، والحالمين بالمستقبل الهلامي مشوه المعالم..، يقف الحرف مع الذات في دائرة التفاعل مع الرؤى والهواجس:( هاجس روحي بين يديكم وشكل الروح بشكل الحرف، والحرف بلا شكل من أشكال الماضي) ديوان الحروف ص10،.......




 ديــــــوان الحــــــروف:
بحثاً عن المعلقة ..بحثاً عن عكاظ..!
أ.حسن أحمد الأشلم
نشرت بمجلّة تعالوا عن مكتب الإعلام بجامعة التحدّي العدد الأوّل سبتمبر 2008

بحثاً عن المعلقة:
عندما يجعل الشاعر الحرف دثاره ويدخل قوقعته؛ تتعدد فضاءات الغربة، وتتسع مساحة الاغتراب، ينفتح الأفق أمام فيض المشاعر واختلاط الأحاسيس، وتدخل الرؤى والهواجس منظومة المؤامرة لتراوغ أنماطاً مختلفة من القراءات والقراء المتدثرين بعباءات السلطان والصولجان والفضيلة والدين..، والحفاة العراة، والأنفس الصارخة في أذن الصمت، والقابعين على قارعة طريق الأمجاد المقددة، والتائهين في خارطة الحاضر الجليدي الصديدي المتسرطن..، والحالمين بالمستقبل الهلامي مشوه المعالم..، يقف الحرف مع الذات في دائرة التفاعل مع الرؤى والهواجس:( هاجس روحي بين يديكم وشكل الروح بشكل الحرف، والحرف بلا شكل من أشكال الماضي) ديوان الحروف ص10،...... ينتفض الحرف يعلن تمرده،يبحث عن الديمومة يرفض أن يكون ماضوياً، أو استشرافياً حالماً؛ فرومانسية الحرف هي أكبر عدو للهاجس والرؤية، ومن ثم فلا مناص للحرف من اللهاث وراء محاولة تأبيد الراهن، انصهار الماضي والحاضر والمستقبل في حلقة مفرغة لا يدرى أين طرفاها.
ضمن هذا السياق يأتي تشكل نصوص الشاعر عبدالرؤوف بابكر السيد في ديوانه (الحروف)؛ بحركتها الزمنية الدائرية؛ حين تشير إلى الجرح؛ تلعقه.. تفتحه.. تنكأه.. ترتقه.. تعود إليه.. لا تتركه، ترسم خارطة الألم.. الصراخ والعويل، وعبر مساحات من الشهيق الدخاني والزفير الناري تنحت ملامح الفجر القادم؛ (الحرف إذن يحمل كل معاناة الروح ..والشعر الدفقات الأمواج، يدور كما الأمواج ولا ينضب..يقاوم مثل الريح.. يهدر كالرعد ويهدأ..يسكن مثل نسيم فجر يستشرف أسعد ما في الغد..) الديوان ص9 ، هذا الزمن بأذرعه- الماضي والراهن والقادم - المتأبي عن التمظهر الخطابي الزمني الفاضح، وإن حاول الشاعر أن يتلاعب بزمنيته فإن الحرف سيشي بكنهه؛ ففي نصوص عبد الرؤوف بابكر المتمردة تبرز التفاعلية القومية في رؤى الشاعر وهواجسه محققة اطرادها، الذي لا يمكن له أن يتكرس من دون الإحساس به من طرف خفي على خط الزمن الموضوعي؛ وهو الأمر الذي يمكن الزعم بأنه قد تحقق من خلال مساقين: الأول المناص الزمني الخارجي، أما الآخر فهو مساق البعد الزمني لبنية عناوين النصوص:
1- المناص الزمني الخارجي:
يؤرخ الشاعر مقدمة الديوان في 1/4/1988 ،بينما يؤرخ نشره في مارس 2007 ، ما يعني بأن تسعة عشر عاماً ستكون هي الفضاء الزمني لحركة الحروف والهواجس والرؤى، لكن هذه المساحة تمارس تمردها على التمظهر،مداً وانحساراً فأمام تاريخ التقديم: يتسع زمن كتابة النصوص، يدخل دائرة المجهول بشكل مقصود من قبل الشاعر، الذي رفض تأريخ إنجاز قصائده على خط الزمن الموضوعي، أما على صعيد تاريخ النشر فإن المساحة الزمنية ترتعش وتتردد حول تحديد تاريخ كتابة النص الأخير، مفسحة المجال لحركة النشر التي لا تتناغم - في الغالب- مع طموح الأديب في تحديد توقيت وصول نصه إلى المتلقي.
2- زمنية العنوان:
تحمل عناوين بعض القصائد مؤشراً على تشكل الزمن وموضوعيته؛ من خلال حداثية العنوان وهو ما يتجسد في عناوين من قبيل:
- عولمة.
- رسالة عبر الإيميل.
- رسالة عبر المحمول.
- رد برسالة قصيرة .
- رسالة مني قصيرة .
حيث تشبع العناوين السابقة شيئاً ما من نهم القارئ الساعي إلى ترهين النص زمنياً، باعتبارها منتمية إلى منظومة مصطلحية حداثية، تحمل ملامح فترة ما بعد الحرب الباردة، أو هي نتاج ثورة المعلومات البعيدة نوعاً ما عن الفترة السابقة لتاريخ التقديم، والقريبة جداً من تاريخ النشر؛ هذه القراءة الترهينية لا يمكن الإدعاء بأكاديميتها بل هي في دخيلة القارئ المطلق؛ ومن ثم يمكن الزعم بأننا أمام مساحة نصية مترجرجة، منفتحة، مكثفة، عميقة، متمردة، باحثة عن خلود الحرف والهاجس والرؤية، ومن ثم خلود النص؛ ذلك أن المكان العروبي المطلق والجرح الأزلي يرفضان التحنط عند لحظة محددة أو الوقوف عند محطة بعينها.
ما سبق يفرض على الشاعر أن يجعل نفسه على أهبة الاستعداد لمواجهة نهم القارئ للترهين، من خلال لعب الشاعر على عصا التوازن بين الهاجس والرؤية الذاتية من جهة؛ وهاجس ورؤية المتلقي الموضوعية المنفتحة من جهة أخرى؛ ليتحرك الحرف باتجاه الخلاص من أسر اللحظة، وبناء عالمه القابل للديمومة في الزمان والمكان، وهنا يكمن السر في خلود تلك الأعمال العظيمة التي استطاعت تجاوز حدود الترهين محققة إسقاطها وإشعاعها اللامتناهي. في المقابل يبقى التساؤل المشروع الذي فحواه : من أعطى تلك الأعمال ديمومتها و همش غيرها ؟؛ لاشك في أن السياسة تلعب دورها في كتابة التاريخ لكنها لم ولن تفلح في تخليد الأدب، وإلا فأين مكسيم جوركي أمام مد تولوستوي وديستوفسكي، وهل دار في خلد البحتري بأن متوكلياته ستخبو جذوتها أمام قوله: أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً، الإجابة في غاية السهولة والتعقيد على حد سواء، اختصرها بيرسي لوبوك في كتابه صنعة الرواية عندما تحدث عن سر خلود الأعمال الروائية العظيمة ممثلاً للأمر برواية الحرب والسلام، معتبراً أن سر عظمتها إنما يكمن في استطاعتها نقل مشاعر الناس أثناء الحرب، لتصبح لندن إبان الحرب العالمية الأولى متماهية مع موسكو إبان الحرب القيصرية، إنها تلك الأبدية التي تنقل الأديب من خانة تأريخ الحدث إلى دائرة البحث عما بثه ذلك الحدث من هواجس وأحاسيس لا يمكن أن تكون حكراً على جنس بعينه، كان هدف تولستوي هو تجسيد الإحساس الإنساني أثناء الحرب أكثر المعابر وحشية باتجاه الموت، ما طرحه لوبوك يمكن التعويل عليه في رصد سر خلود تلك الأعمال مجهولة المؤلف أو معلومة المؤلف (الخرافات – الأساطير – الملاحم – السير – الحكم - الروايات – المعلقات..).
ما قاد إلى هذه المحصلة هو ذلك الإحساس الذي راودني وأنا أتصفح سفر الشاعر عبدالرؤوف بابكر السيد؛ فصدمة القراءة الأولى لم تتمكن من تجاوز القصيدة الأولى في الديوان والمعنونة بـ ( وترية الهاجس والحرف) الديوان ص11؛ التي أزعم بأنها تتمتع بخصوصية ما عند الشاعر، ولهذا الزعم ما يبرره؛ فقد كانت قراءتي الأولى للنص في الديوان هي الرابعة خلال الفترة من 2005- 2008 ، القراءات الثلاثة السابقة جاءت من خلال التلقي عبر فضاء الاستماع من الشاعر مباشرة؛ في ثلاثة أزمنة وثلاثة أماكن مختلفة، القراءة الرابعة ممثلة في اختيار الشاعر باب الصدارة لها في الديوان يكرس الإحساس في أن لهذا النص عند عبدالرؤوف بابكر ما يعادل إحساس الشاعر عندما تصبح قصيدته في مقام المعلقة؛ فهي – بلا شك- ستكون الأقرب لتجسيد الهواجس والرؤى عند الشاعر،ومن ثم امتلاكها القدرة على احتواء الزمن، إنها كلمته للتاريخ، التي يظل إعلان ميلادها معضلة تواجه الشاعر؛ فلكي يتحقق ميلاد المعلقة لابد من عبورها بوابة التلقي، أن تفرض كينونتها من غير إكراه؛ وهنا تعود الذاكرة إلى ذلك الشاعر الذي يعبر الفيافي بذاته أو عبر راويته باحثاً عن تداولية تحقق للنص مبتغاه في أن يكون معلقة، منتقلاً به من المثالية الذاتية إلى دائرة البحث عن المثالية الموضوعية؛ عن سوق التلقي؛ عن عكاظ فضائها التداولي، الذي تحدد عند متلقي هذا النص – صاحب هذه الورقات – في أربع محطات عكاظية كان شاهداً عليها، بينما يظل عكاظ القصيدة الوترية منفتحاً على التعددية عند الشاعر منذ صياغة القصيدة وحتى وصولها إلى الكتابية الأبدية في مفتتح الديوان.
بحثاً عن عكاظ..!
عكاظ الأولى:
عكاظ الأولى كان في سبها وتحديداً في العام 2005 ضمن احتفالية تكريم الروائي العالمي إبراهيم الكوني؛ يومها كان اللقاء الشخصي الأول بالشاعر ، في تلكم الاحتفالية العكاظية وقف على المنصة يشدو بمعلقته (وترية الهاجس والحرف) بتساؤلاتها الجمعية الوجودية المصيرية الهادئة الصارمة:
ما بال الهاجس
يوغل بين مسام التربة يكتب فينا كيف نكون
نتعلم كيف؟
وفيم؟ علام؟
وأين نكون؟
من كنت تكون
من كان يكون
فالغربة عالقة ..تملأ فينا البعد..العمق..
النفس..اليوم..الأمس..فكيف نكون؟ الديوان ص11
لم يكن عكاظ يومها كما أراده الشاعر ، كان فضاء التلقي مشحوناً غير منسجم، المطر نزل في سبها وسط ذهول زوارها الذين خاب أملهم في أن يجري التكريم وسط أجواء صحراوية نموذجية كالتي قدمها المحتفى به في روائعه الخالدة، إضافة إلى اختصار برنامج الاحتفال في يوم واحد بدلاً من يومين، أما الجمهور فقد كان هجيناً؛ أمريكيون وروس وبولنديون.. ونقاد من الداخل والخارج كثير منهم هواة السياحة الثقافية، وزراء ورؤساء جامعات، وجمهور بعضه جاء ليرى الكوني، وآخرون كافرون بالشعر..، الضجيج واختلاط الأجناس جعل الشاعر يقاوم اللحظة ليأسر الحضور، أطلق أعيرته تدفقت كالمطر المجنون، انتفض الجسد الهزيل، الصوت الرخيم أبرق وأرعد؛أضحى شيخاً أخذته نشوة الجذب في الحضرة، فارساً يمتطى صهوة فرسه الجموح، كاشفاً للجموع عورة الأمة ونهاية نفقها الطويل، ناصحاً واعظاً كقس بن ساعدة باكياً مولولاً كما الخنساء، مغترباً كما السياب تائهاً بلا مرفأ كبقية السرب: محمود درويش، وأمل دنقل، وعلي الفزاني:
قد بدد حرفك روحك في هذا الكون
فماذا بعد؟
وفيم البعد؟
وأما بعد..
ولما بعد..
نصارع لجتها الكمد.. الأمد..
الأبد الساكن فينا الديوان ص12، 13
الخروج إلى الفندق سمح لي بسؤاله عن سر ذلك التناقض بين الإنسان والشاعر، الهدوء الذي انقلب عاصفة هوجاء، الصراخ، العويل، الترهيب والترغيب، الانكسار، الأمل، كيف يخمد كل ذلك في لحظة واحدة حيث العودة والانفراد مع الذات وسيجار الروثمان بعلبته الفاخرة، التي تغريني عند عبد الرؤوف فقط بالعودة إلى تلك العادة السيئة من جديد، أجابني وأعتقد بأنه كان مجاملاً وربما مقتضباً بصدق حدسي، أما أنا فقد أحسست بشيء من عقدة الذنب بعدم إكمال التساؤل، هل كان الهدوء وسيجار الروثمان بعد إلقاء المعلقة العكاظية نوعاً من إظهار خيبة الأمل من فضاء التلقي في ذلك اليوم؟!
عكاظ الثانية:
حمل معلقته هذه المرة ميمماً شطر خيمة الشعر التي نصبت هذه المرة في سرت وتحديداً في احتفالية مجلس الثقافة العام في ندوته حول حرية التفكير وحق التعبير في العام 2006 ، كان الجو مهيأً لليلة شاعرية مميزة؛ في قاعة الوفاء حضر الشعراء من داخل الوطن وخارجه، تعطر الليل بهطول المطر مدراراً، المرأة ملهمة الشعراء كان حضورها طاغياً روحاً وجسداً، أما أعداء الشعر فقد فعل المنظمون خيراً بأن فتحوا لهم أبواب المقهي في بهو القاعة ،كان تفاعل الحاضرين مع المعلقة أفضل من عكاظ الأولى، لكن هواجسه لم تلق الصدى المتوقع؛ فقد كان طابور الشعراء طويلاً، وضغط المنظمين على الوقت كان عسيراً، ومزاج الجمهور كان هروبياً باتجاه سماع أشعار الكأس وتأوهات العاشقين :
ومنذ قرون..
ونحن الصرعى للأفيون،
وقرص (الجون)
وحملة (نابليون)
ومقالة (مستر جون)
وآخر مبتكرات (البنتاغون)،
وال (C.I.A)..وال(B.B.C)
وال(K.J.P) وعيون حبيبي..
والهيبي البدوي التائه في صحراء ملاهي (بون) الديوان ص14

عكاظ الثالثة:
في العام 2007 وفي غريان كان الموعد الثالث في رواق المؤتمر الأدبي الأول الذي نظمته جامعة الجبل الغربي بالتعاون مع نقابة أعضاء هيئة التدريس الجامعي، لم تكن الأجواء مهيأة لسماع الشعر فارتفاع غريان عن سطح البحر لم يشفع لها مع قسوة الصيف ليصل الجو إلى حد الاختناق هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد كان على الشاعر أن يبذل جهداً مضاعفاً لاستمالة مزاج القاعة الذي هيمنت عليه سلطة الموزون المقفى، ليلتها انسحب رواد قصيدة النثر طواعية وقسراً تعرضوا للاستفزاز إيماء وجهراً، بينما اشتعلت الحواس مع الموزون المقفى، الذي تغزل في مفاتن حواء، وقرع طبول الحرب بإيقاعه المختزن في الذاكرة الجمعية من (ألا هبي بصحنك فاصبحينا ) إلى (وناب عن طيب لقيانا تجافينا)، صعد بمعلقته الوترية الموتورة في عكاظ الأولى والثانية، اخترقت أسطرها الأولى حصون المحافظين، وخنادق المجددين بشيء يشبه الشعر لكنه الشعر، بلا وزن ولا قافية لكنه بوزن وقافية، إيقاع سريع النبضات لكنه واثق الخطوات، خطابي ومباشر لكنه عميق كما الوشم على الجسد، حرارته بين الدفء والغليان تصهر الجميع ببطء داخل براح الشاعر؛ الذي أمسك اللحظة بإتقان، لقد ولدت للحظة المعلقة الخالدة، تبلور العكاظيون متعددو المشارب حول فيئها، أعاد الرؤى والهواجس من رومانسيتها إلى قلب الرحى؛ ليندمج الجميع مع قافلة الموتورين، ويتحول النص الثمانيني إلى نص أبدي يجلجل في الألفية الثالثة بلغة كل الآباد والعصور:
من عمق مسام التربة
هبت،كل جذوري من مرقدها..انتفضت،
لتلاحق بالأنفاس حروفاً مثقلة برماد الحزن المجنون..
هتفت.. وتهجت:
حرف الواو..
وحرف الطاء..
وحرف النون. الديوان ص16
حفر الحرف الروح، ليس الوقت وقت الجواري والخمر، وليس وقت التغني بغابر البطولات، ولا وقت الرموز والغموض والأحاجي الشعرية؛ إنه زمن الانجذاب تجاه المكاشفة :
والحرف شقيق الروح..
فكيف تخون الروح التوأم فيها؟
كيف تخون؟
لما هزم الحرف.....هزمنا
كان النظر أمام جدار الوهم كسيحاً،
لما شرده الخوف،
الجسد المتعب كان مسيحاً..
لما ذبحته اللهجة،
قمنا نبحث عنه فكان الروح جريحاً،
وفضاء الفرقة فينا كان فسيحاً.. الديوان ص22
حول الأمة المكلومة أفلح الشاعر في جمع الشتات، ومسح الغبار عن نظارات الحاضرين الوردية، ووضعت وترية الهاجس والحرف الجميع في قافلة واحدة الخروج منها يعني الضياع، والسكوت على ما يجري بداخلها هو الهلاك، يومها كان ملك الشعر المتوج، لم يكن مكتئباً ولا محبطاً كما حدث في عكاظ الأولى والثانية، كان في قمة النشوى؛ فقد تحقق للمعلقة عكاظها، بدا واثقاً من صدق نبوءته بأن الحرف شقيق الروح القادر على اختراق جدار الفناء الرهيب، أضحى الحرف الماضوي ابن اللحظة؛ ابن اللحظة بل ابن كل اللحظات المعبر عن عبثية الواقع:
أضحت ليلى إلسا
والمجنون هو المجنون
نيرون تجدد فينا
والسجان هو المسجون
دخل القصر ..
صعد العرش..
احتل الكرسي الملكي تربع عند السدرة
قال بصوت ناهٍ آمر
ما شئت وما قررت يكون. الديوان ص32
عكاظ الرابعة:
عكاظ جديدة أكثر ثراء وغنى جسّدها بإصدار ديوانه الحروف جاعلاً وترية الحرف درته المصون، أخرج نصه الأبدي ناقلاً إياه من شفاهية الروح والكلمة إلى عالم الكتابية، عابراً ومعبراً عن زمن ومكان جديدين قديمين، فأينما وليت وجهك ثمة جرح جديد الطاعن والمطعون فيه واحد، إنه الوطن في ديمومته؛ فالعكاظيون وإن تعددت سحناتهم كل في واحد؛ تائهون.. معربدون.. سلبيون.. لكنهم حتماً إلى صومعته عائدون:

نكون الرمل، نكون الحمل، نكون الشمل،
النخل نكون..الفعل نكون
نكون المرج، ومرجعيون،
عين الوادي، ووادي العين،
عين بن تيلي، عين السخنة، عين السفره،
نكون الجفرة، وعين فاكرون الديوان ص36
(...)
نكون الحد، نكون السد، نكون المد،
نكون سيوف الوطن..
الرد نكون..
الغصن نكون..
الحصن نكون..
ونكون العمق،نكون البعد،
نكون النفس، اليوم، الأمس، نكون.. الديوان ص37
إنهما الهاجس والرؤية وقد تطهرا من شعارات: العولمة، والتعايش، والتعاون، والتهاون، ومن ثم فإن أطنان القمح والقمع لن تفلح في سحق هذا الهاجس وتلك الرؤية المتحفزة للحظة الميلاد:
لن يهدأ هذا الهاجس ،
حتى يعلن فينا:
أن لاح الصبح،
انتصب الصرح،
انتصر الجرح،
الجرح الغائر منذ سنين..
لن يهدأ هذا الهاجس،
منذ توغل بين مسام التربة..
حتى يكتب فينا:

كيف نكــــــون الديوان ص38


.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق