الثلاثاء، 29 سبتمبر 2009

الأدب الأفريقي وإشكاليّة المصطلح
أ‌. عبد الرؤوف بابكر السيّد
الأستاذ المشارك ــ كلية الآداب ، جامعة التحدّي ـ سرت، ليبيا













مقدّمـــــــــــــة:
لم يعان أدب من بين الآداب العالميّة معاناة الأدب الأفريقي، الذي واجهته من التحدّيات المادّية والمعنويّة، والصعوبات والعقبات، بدءا من الوسيلة المتمثلة في اللغة مرورا بالقمع السياسي قبل جلاء الاستعمار وبعده، وانتهاء بالدور والغاية التي سعى لتحقيقها استجابة لتلك التحدّيات.
لقد واجه ما لم يواجهه أي أدب في العالم.. فمن مرحلة الاسترقاق إلى مرحلة قمع اللغات المحلّية ومحاربتها إلى تعدّد اللغات الأجنبيّة التي مزّقت أواصر أبناء القارّة، سعيا لاستلاب فاعليّة الشخصيّة الأفريقيّة، وبالتالي أوربتها، إلى محاربة المعتقد، والتبشير الكنسي، إضافة إلى قصور البنية والتخلف والتخبط الذي نال من القارة حتى بعد مرحلة الاستقلال.
من هذه المجالات يشدّنا الأدب الأفريقي المعاصر، المرتكز على المثاقفة بين جذور الثقافة الأفريقيّة وإسهامات الثقافة المعاصرة. سواء أكان ذلك باللغات الأفريقية أم باللغات الأجنبيّة الغازية . أنتجه أبناؤها وهم داخل قارتهم أم هم في المهجر والشتات.......



. الأدب الأفريقي وإشكاليّة المصطلح



مقدّمـــــــــــــة:
لم يعان أدب من بين الآداب العالميّة معاناة الأدب الأفريقي، الذي واجهته من التحدّيات المادّية والمعنويّة، والصعوبات والعقبات، بدءا من الوسيلة المتمثلة في اللغة مرورا بالقمع السياسي قبل جلاء الاستعمار وبعده، وانتهاء بالدور والغاية التي سعى لتحقيقها استجابة لتلك التحدّيات.
لقد واجه ما لم يواجهه أي أدب في العالم.. فمن مرحلة الاسترقاق إلى مرحلة قمع اللغات المحلّية ومحاربتها إلى تعدّد اللغات الأجنبيّة التي مزّقت أواصر أبناء القارّة، سعيا لاستلاب فاعليّة الشخصيّة الأفريقيّة، وبالتالي أوربتها، إلى محاربة المعتقد، والتبشير الكنسي، إضافة إلى قصور البنية والتخلف والتخبط الذي نال من القارة حتى بعد مرحلة الاستقلال.
من هذه المجالات يشدّنا الأدب الأفريقي المعاصر، المرتكز على المثاقفة بين جذور الثقافة الأفريقيّة وإسهامات الثقافة المعاصرة. سواء أكان ذلك باللغات الأفريقية أم باللغات الأجنبيّة الغازية . أنتجه أبناؤها وهم داخل قارتهم أم هم في المهجر والشتات.
لقد استوقفتني في كثير من الأحيان إشكالات اللغة في الأدب الأفريقي قدر إشكالات المصطلح الذي حاول المستفرقون تشكيله، والمستشرقون الإشارة إليه، والأفارقة والعرب الكتابة عنه، من نفس المنظور الغربي الذي صمّمه وروّج له وسعى للدفاع عنه. وقدر ما استوقفتني أحكام الغرب عن أفريقيا إنسانا وأدبا وثقافة، وكأن إنسان هذه القارّة مختلف عن بقيّة البشر ودونهم مرتبة في الخلق؛ بقدر ما استوقفني هذا التعالي الذي مارسه الدارسون من مستفرقين ومستشرقين، و أذهلتني تلك الفوارق التي خلقوها عن عمد ، واستجاب لها الكثيرون من أبناء القارة، كون الصحراء جسرا للتواصل بين شمال القارة وجنوبها،وكونها عازلا للفصل كما يدّعون.
وأكثر ما أخذته على الدارسين العرب هو إهمالهم دراسة هذا الأدب بالعمق الذي تتحدّد فيه معالمه وتتشكّل تيّاراته وتتضح فنونه وتتكشّف اتجاهاته وتبرز فاعليّته ، ليحتلّ مكانه ضمن الآداب العالميّة ، وليثري مكتبتنا العربيّة الفقيرة منه.
فالأدب هو النظام العالمي الوحيد الذي خلق وحيدا دون قرار ، وظلّ محافظا على قيم بنى الوعي باعتباره بنية فاعليّة لغويّة تخيّليّة، تتسع لما هو أكبر من بنية الفاعليّة الواقعيّة، كما أنّ خطابه مركّب تستوعبه كل بنى الوعي، وهذا سر خلوده.
أهمّية الدراسة:
إن ما يدفع بي إلى البحث والتنقيب والتحليل في أدب قارتنا السمراء ومبدعيها، هو محاولة جسر الهوّة بين شمال الصحراء وجنوبها، لإبراز دور المستفرقين في الفصل التعسّفي بين أدب أفريقي كتب بالعربيّة عن أدب أفريقي كتب بلغات محلّية أو بلغات أوربيّة دخيلة من برتغاليّة وفرنسيّة وانجليزيّة، واعتماد أدب الشمال الأفريقي أدبا ينتمي إلى الأدب العربي، ولا صلة له بأفريقيا كما يزعمون، إضافة إلى إسهامنا نحن في شمال القارّة بالعزوف عن دراسة وتدريس مادة الأدب الأفريقي ضمن مناهجنا الدراسيّة ، رغم ما تعجّ به مكتبتنا من دراسة للأدب العربي بكل عصوره ومقارنته بالآداب الأوربيّة. وهو قصور أعتقد أنه أسهم إسهاما كبيرا في توسيع الهوّة بيننا وبين أبناء القارة جنوب الصحراء.
لاينسب الأدب إلى اللغة مثلما ينسب إلى المجتمع أيا كانت لغته، أمّا إذا ما انتمى الأدب إلى فضاء أرحب كالقارة مثلا رغم تعدّد اللغات فإنه ومن الطبيعي أن ينسب إليها بحكم المجتمعات التي تعيش فيها.. هكذا كانت الآداب العالميّة وفق فضاءاتها الكبرى.. فالأدب الأوربي متعدّد اللغات واللاتيني كذلك والآسيوي أيضا.. ولكن عندما تعلّق الأمر بالأدب الأفريقي نشأت إشكالية في المصطلح، لم يكن منشؤها موضوعيّا بقدر ما سعت البنية القاصرة إلى خلقها على خلفيّة التفرقة العنصريّة التي مارستها.
وما يدفع بنا إلى تعزيز الاهتمام بهذا الأدب ودراسته بلغاته المتعدّدة بما فيها العربية، هو انطلاق الثقافتين شمال الصحراء وجنوبها من بنية وعي مشتركة، وارتباطهما بأنساق ونظم اجتماعيّة، واتسامهما بسمات وخصائص مشتركة رأينا ضرورة إبرازها من خلال هذه الدراسة . إضافة إلى ضرورة البحث حول إشكالات اللغة والهويّة، من أجل تحديد الهويّة الأفريقيّة الكونيّة، بديلا عن الهويّة التقليديّة التي تحدّدها بنى وعي القصور السائدة الآن في العالم.
منهج البحث:
سيظل أيّ منهج من المناهج النقديّة عندما نتناول أدب قارّة ، قاصرا عن أن يحيط بالتحليل والقراءة لبنية الفاعليّة اللغويّة التخيليّة، ما لم نستند إلى تحديد بنية الوعي الواقعيّة السائدة والتي تحتازها مجتمعات وشعوب هذه القارة. فأدب هذا الفضاء كغيره من الفضاءات تتعدّد فيه المجتمعات، وترتبط ببنية وعي تسود كامل القارة . ويحتاج إلى منهج التحليل الفاعلي[*]]بأبعاده المختلفة ، التاريخيّة، الاجتماعيّة، والنفسيّة للبنية التي تسيطر أو تسود في هذه المجتمعات، إضافة إلى إبراز تنازع وتآزر بنى الوعي، الأمر الذي يخلق تراكبا في الخطابات الأدبيّة.
وبما أن ثقافة أي مجتمع من المجتمعات لا تعدو كونها تراكب خطابات لبنى الوعي، فإن التحليل الفاعلي هو المنهج المؤهل ــ كما يرى الباحث ــ تحليليا ونقديّا من فرز هذه الخطابات، وتحديد ما وراءها من بنى الوعي التي أسهمت في هذا الخطاب أو ذاك . إضافة إلى شموليّة المنهج المتكئ على نظريّة حول الإنسان بوصفه فاعليّة من حيث وعيه بالذات الفاعلة تناسليّة كانت ،همها التكاثر والإنجاب ، وتوفير البشر كمّيا. أو برجوازيّة مادّية همها الجمع والاستحواذ على الخيرات الماديّة مستبيحة الآخر في سبيل ذلك. أو خلاقة يعي الإنسان نفسه كائنا مبدعا خلاقا محبّا للآخر همّه العطاء الشامل لإثراء الحياة البشريّة قاطبة.
والمنهج مؤهل لتحديد تنازر بنى الوعي (التآزر والتنازع) من خلال قراءة النصوص الإبداعيّة لتحديد هويّة الإنسان ومنطلقاته الفكريّة وإبداعاته ومن ثم تحديد فاعليّته.
منهج القراءة:
لم تعد القراءة الخارجيّة للنص ، ولا قصديّة المؤلف هي المحور الأساس للقراءة النقديّة المعاصرة، فالجوهر الذي أعلا من شأن النص ومنحه الأدبيّة هو تصديره الفاعليّة للمتلقّي، والقراءات المتعدّدة المنطلقة من بنى للوعي مختلفة، تكسبه ثراء وتجعله أكثر خصوبة، ففاعليّة المبدع وفاعليّة النص يتمّ تلمسهما من خلال فاعليّة القارئ.
والفاعليّة هنا تعني وعي البنية للذات التي يحتازها المبدع أو يصدّرها النص أو يقرأ من خلالها المتلقّي، أكانت بنية وعي تناسلي أو برجوازيّ ، وكلتاهما بنيتا وعي قصور، أو بنية وعي خلاّق وهي بنية مفتوحة يعي الإنسان نفسه من خلالها كائنا محبا ومبدعا ومعطاء، مهمته أن يثري الحياة بالمعنى الشامل لهذه الفاعليّة.
وعي القصور الكامن في التعصب والانحياز للذات وادعاء امتلاك الحقيقة والاستعلاء على الآخر يتجسد في بنية الوعي التناسلي أو البرجوازي ، في حين أن الوعي المفتوح المنعتق من أسر البنى المغلقة تتألق به بنية الوعي الخلاق لدى الفرد والمجتمع.
وسنحاول من خلال هذه المنهجيّة المنطلقة من تعريف الإنسان بأنه فاعليّة يثري الحياة باحتيازه لإحدى هذه البنى ، ويعي نفسه والحياة من حوله من خلالها أن نقرأ نصوص الأدب الأفريقي خلال رحلتنا البحثيّة، متلمسين الفاعليّة بين مبدعيه منقبين عن بنية الفاعليّة اللغويّة التخيّليّة، كاشفين عن (تنازر) تنازع وتآزر بنى الوعي، قارئين لفاعليّة النصوص باعتبارها بنية فاعليّة لغويّة تخيّليّة ، وهي أخصب وأثرى وأكثر اتساعا من بنية الفاعليّة الواقعيّة
جغرافيّة المصطلح:
المصطلح دائما ما يحدّده أهل العلم والاختصاص وفق محدّدات لها ما يبرّرها، ليحمل كامل أبعاد الدلالة التى يرمز به إليها ، أو تفرضه طبيعة المجال وتوافقها مع المفردة من حيث المعنى سواء بالتخصيص أو التعميم.والمصطلح العلمي " أداة من أدوات التفكير ووسيلة من وسائل التقدّم العلمي والأدبي. وهو قبل كل ذلك لغة مشتركة، بها يتم التفاهم والتواصل بين الناس عامّة أو على الأقل بين طبقة أو فئة خاصّة في مجال محدّد من مجالات المعرفة والحياة... وإذا لم يتوافر للاصطلاح العلمي هذه الأحكام وهذه الدقّة فقد مبرّر وجوده وتعطلت وظيفته."1
لقد تعوّدناــ كما يقول د.ناصف ــ أن ننظر إلى المصطلحات باعتبارها أدوات تملكنا، لا نملكها ولا نصرفها " وغاب عنا شيء كثير في زحام السلطة المخادعة التي أعطيت لفكرة المصطلح. ومن المطلوب أن نفهم هذه السلطة باعتبارها توجيها لا تحديدا، إيماء لا تعريفا، تداخلا إلى جانب التمايز. يجب أن نتعلم كيف نمارس ذوب المصطلح كما تعلمنا كثيرا مع الأسف تحكم المصطلح. يحتاج المصطلح إلى السياق أكثر مما يحتاج السياق إلى المصطلح."2
لذا فقد درجنا في مجال الأدب أن ندرس الآداب العالميّة وفق فضاءاتها، فنجد الأدب الأوربي، والأدب الأمريكي، والأدب اللاتيني، والأدب الآسيوي..ولكنا عندما نتحدث عن الأدب الأفريقي تنجم عدّة إشكالات في تحديد المصطلح أو في أبعاد ومحدّدات دلالته. وذلك ناجم عن وقوعنا في فخّ مسميات وتحديدات غربية، هي التي أطلقت بعنصريتها مصطلح (الأدب الأفريقي) دلالة على الأدب في أفريقيا جنوب الصحراء باعتبار الصحراء الكبرى محدّدا جغرافيا وطبيعيا فاصلا وعازلا.. وباعتبار الأدب شمال الصحراء ينتمي إلى فضاء آخر هو الفضاء العربي والثقافة العربية.كما لم يتم تحديد انتماء الصحراء ذاتها.
حين أراد الغربيون تناول الأدب الأفريقي بالدراسة، مارسوا لونا من عدم المنهجيّة أولا ،ولونا من التعالي ثانيا، ولونا وهو الأخطر، من التقسيم لشطري القارة بشكل قسري، لتحقيق أهداف وغايات وأطماع ليست من العلميّة والموضوعيّة في شيء. أي أنهم وظفوا العلم والثقافة ودراسة شعوب هذه القارّة من منظورهم السياسي، وذلك من خلال:
ـــ المستشرقين، الذين تعهّدوا بدراسة وتحقيق الأدب العربي أو أدب شمال الصحراء، وذلك بعد أن انكبّوا على ما تمّ نهبه من مخطوطات عربيّة قديمة.. حقّقوها ودرسوها وأفادوا منها. ومن خلال:
ــــ المستفرقين، الذين يُجمعون على أن الأدب الأفريقي هو أدب المناطق التالية جنوب الصحراء، وهذا الإجماع نشأ من " أن أفريقيا قارّة تقسمها الصحراء الكبرى إلى قسمين مختلفين كل الاختلاف: قسم يقع شمالها ويسمونه(أفريقيا العربيّة الإسلاميّة) وآخر يقع جــنوبها ويسمونه(أفريقيا جنوب الصحراء ( South of the sahara Africa ) أو ( أفريقيا السوداء) "3.
وهذا أمر يعتمد على قسمة جغرافية طبيعيّة، لا يزيد عمرها على قرن من الزمان، ولكنها ــ وكما يشير إلى ذلك د.على شلش4 ــ وضعت في ظل إطار سياسي استعماري واضح الهدف هو تشطير القارّة، وتدعيم تجزئتها، والانفراد بكل شطر على حدة، فلم تكن الصحراء الكبرى هذه فاصلا حقيقيا بين الشمال والجنوب قبل السيطرة الاستعماريّة. بل كانت طريق الهجرات والقوافل والتجارة بين الشمال والجنوب. ولم يكن العرب أبناء الشمال في عزلة عن الزنوج طوال قرون حتى القرن التاسع عشر الذي تمت فيه السيطرة على شطري القارة. فقد حكم على تجارة الصحراء بالموت في أواخر القرن التاسع عشر نتيجة للصراع الدولي.
لقد تعمّد المستعمرون جعل الصحراء الكبرى عازلا وحاجزا طبيعيا في حين أنها لم تكن كذلك فقد" أشار الرحالة جوزيف تمسون في عام 1886م إلى أنه كانت هنالك تجارة أوربية واسعة عبر طرابلس إلى ما وراء الصحراء تتمثل في الملابس والخردوات والأدوات المعدنيّة، وكتب القنصل العام البريطاني جاقو تقريرا في عام 1897م أوضح فيه أنّ واردات طرابلس من الشمال كانت في تدهور مستمر منذ عام 1863م لبضعة سنوات، وذلك نتيجة للتسهيلات التي وفرت بسبب استخدام الممرات المائية على نهر النيجر وبنيوي والتي مرت عبرها البضائع الأوربية مباشرة متخطية الطرق الصحراوية المنطلقة من طرابلس جنوبا"5.
ويعلق علي شلش على جغرافية المصطلح بأنه " إذا صحّ أن نأخذ بالقسمة الجغرافية ... كقسمة مجرّدة من الأغراض السياسية وغيرها فلا يمكن الأخذ بها على صعيد الأدب، لأن انتشار الثقافة العربية والإسلاميّة جنوب الصحراء الكبرى، وتغلغلها في ثقافات الشعوب الزنجيّة هناك، قد شكلا مؤثرا مهما من المؤثرات في الثقافة والأدب، وهو ما تبيّن اليوم بعد تحرير القارة واستقلالها وبداية البحث في تراثها الشعبي بصفة خاصة.ومن جهة أخرى لا يمكن أن نسحب الجزء على الكل فنقول إن الأدب الأفريقي يبدأ بعد الصحراء الكبرى، ونخرج منه الأدب العربي في الشمال، بحجة أن [ أفريقيا الشمالية منطقة أدبية منفصلة تمام الانفصال، تنتمي إلى العالم الإسلامي والعربي] كما قال المستفرق الإنجليزي جيرالد مور"6.
ومصطلح(الأدب الأفريقي) إذن من حيث الجغرافيا، إذا نظر إليه من حيث هو فضاء قارّي متعدّد اللغات والثقافات، عندها يمكن الركون إليه ، واعتماده وفق أبعاد الآداب العالميّة المختلفة. أمّا إذا ما استخدمت الجغرافيا الطبيعيّة والتضاريس، بحيث أضحت الصحارى والجبال والممرات المائيّة والجهات هي التي يمكن أن ترسم الحدود لهذا المصطلح، فذلك أمر لا يستقيم لعدّة أسباب:
1 ــ الحواجز الطبيعيّة التي تفصل أجزاء آسيا من حيث سلاسلها الجبليّة المترامية الأطراف، لم تحل دون إطلاق مصطلح الأدب الآسيوي، وفق الحدود القارّية.
2 ــ إذا كانت هذه الحواجز والتضاريس تخلق ثقافات متعدّدة متنوّعة كما نجد في الهند والصين وأواسط آسيا وجنوب شرقيّها فكذلك لم يحل الأمر دون إطلاق مصطلح الأدب الآسيوي على مجمل آداب هذه القارّة.
3 ــ تعدّد الأديان في آسيا أكبر بكثير ممّا هو في أفريقيا، فبها أكبر الدول الإسلاميّة ، وبها عدد هائل من الديانات الأخرى. ولم يحل تنوّع وتعدّد المعتقدات الدينيّة دون إطلاق الأدب الآسيوي ليشمل كامل فضاء القارّة.
4 ــ التعدّد اللغوي الذي ينتشر عبر القارّة الآسيويّة أو عبر القارّة الأوربيّة، لم يحل كذلك من إطلاق مصطلح الأدب الآسيوي ، والأدب أو الآداب الأوربية.
5 ــ الصحراء.. هذا العملاق القابع في وسط القارة، ليست أرضا خلاء بل لها أهلها وساكنوها ومبدعوها.. شكلت منذ القدم حلقة وصل بين شمال القارة وجنوبها.. مهيبة ، رهيبة ، مرعبة لمن لم يعشها ويعايشها. استعصت قراءتها على المستفرقين والمستشرقين على السواء، فظنّوا أنها عازل ، ولم يأبهوا بها كثيرا، بل عندما شقّت عليهم وكانت طرقها لا يعرفها إلاّ أهلها وأبناؤها، حوّلوا طرق التجارة عنها إلى مسالك أخرى .. وفي قراءتنا لأدب الصحراء نكون قد كشفنا للعالم حقيقة واقعنا الذي يجهله، وعليه أن يعيد دراساته من جديد حول الأدب الأفريقي، الذي يشمل الصحراء وشمالها وجنوبها.
الكتلة القارّية إذن والفضاء القارّي ، مهما تنوّعت وتعدّدت الاختلافات في الثقافة والمعتقد واللغة والعرق ، هو الذي يحدّد أبعاد المصطلح.. فماذا إذن عن (الأدب الأفريقي)؟.
واضح أنّ حدود المصطلح تدخّلت فيه عوامل استعماريّة ومركزيّة أوربيّة حملت على عاتقها بعد استباحة هذه القارّة واستعمارها واسترقاق بنيها ونهب ثرواتها، أن تقحم السياسة بلا مبرر، وأن تتعمّد هذا الخلط الذي وقع فيه العديد من الدارسين مستفرقين وأفارقة. فالباحث والناقد الروائي ابن جنوب أفريقيا حزقيال مفاهليلي استخدم هذا المصطلح غير الدقيق من " أن الشمال العربي المسلم لا علاقة له ــ من الناحية الثقافيّة ــ بالإنسان الأفريقي"7. ألا يحقّ لنا أن نتساءل ماذا عن جنوب الصحراء المسلم؟ هل لا علاقة له بالإنسان الأفريقي؟ إنه نفس التوجّه الذي ذهب إليه المستفرق جيرالد مور من أن هناك ثقافتين مختلفتين بين جنوب الصحراء وشمالها. والمستفرق الألماني يان هاينيزيان يعلق على قضيّة المصطلح عام 1967 بقوله" أفريقيا مصطلح جغرافي لا ثقافي، وثمّة منطقتان ثقافيّتان مختلفتان، لكل منهما تاريخ مختلف وتقاليد مختلفة، فمن ناحية يوجد شمال أفريقيا، ومن الناحية الأخرى يوجد ما يسمّى "أفريقيا الزنجيّة" أو "أفريقيا السوداء" أو " أفريقيا غير الإسلاميّة" أو "أفريقيا جنوب الصحراء"وقد كان بين شعوب هاتين المنطقتين جميع أنواع العلاقات على امتداد آلاف السنين، ولكن بقيت الاختلافات بينهما كما هي. فشمال أفريقيا اليوم جزء من المنطقة الثقافية الإسلاميّة التي انتشرت في السودان، وهي منطقة ذات ثقافة مختلفة ، حيث أنتجت الاثنتان طائفة متنوّعة من أشكال التهجين ، أما المنطقة الأخرى فليس لها اسم مقنع"8.
ونلاحظ أنه رغم إنصافه للمصطلح بأنه ينبغي أن يكون جغرافيا يشمل القارّة لا ثقافيا يمزّقها، ولكنه يركز على الاختلاف الثقافي والديني بين منطقتين الأمر الذي ينبغي أولا أن لا يحجر على المصطلح تنوعه الثقافي ، وثانيا أن الامتداد الإسلامي جنوب الصحراء يدحض فكرة أنه في الشمال فقط. ومن جهة ثالثة لم تدرس الآداب العالميّة على أساس الدين كأن نقول الأدب المسيحي والأدب الإسلامي، والأدب اليهودي ، والبوذي ..الى غير ذلك. لأن المجتمعات لا يشكل الدين إلاّ جزءا من المؤثرات في النتاج الأدبي لها. فالعادات والتقاليد والبيئات والطبيعة والموروثات والأساطير والاجتماعيات والحالة الاجتماعية والثقافية والمشاعر الفرديّة وأساليب التربية إلى غير ذلك ، كلها تتداخل وتنصهر لتنتج أدبا. ومن ثم يصبح من غير المنطقي أن نرسم خارطة للمصطلح وفق أيّ منها.. ولا مناص من الأخذ فقط بالمصطلح القارّي.. أما التقسيم السياسي الذي عمد إليه المستعمر بشكل قسري والذي خلقت حتى الحدود السياسيّة الكثير من إشكالات التداخل بين الدول القطرية حيث نجد جزءا من القبيلة في قطر معيّن والجزء الآخر يحمل جنسيّة أو مسمّى قطر ثان.
هذه التجزئة لا يمكن لها أن تستقيم في مجال الأدب ، وليست القارة الأفريقيّة إلاّ فضاء يمكن أن تتعدّد فيه الثقافات والأديان واللغات وتتنوّع وتختلف فيه العادات والتقاليد وأساليب وأنماط الحياة.. ولكن كل ذلك لا يزيد(الأدب الأفريقي) بمعناه العام شمال وجنوب الصحراء إلاّ ثراء وتنوّعا وخصوبة.
ولم تثر هذه القضيّة في إشكالية المصطلح إلا من منظور المستفرقين وبرؤية سياسيّة لاحقت هذا المصطلح حتى في شقّه(جنوب الصحراء) ليتم الحديث عن الأدب (الفرانكوفوني) أو أدب أفريقيا الفرنسيّة،وعن الأدب(الأنجلوفوني) أو أدب أفريقيا الناطقة بالانجليزيّة. ومن ثم أصبح تأسيس تعريف أو تحديد مصطلح للأدب الأفريقي من أهم ميادين معركة الهويّة.
كما عرّف روسكو الأدب الأفريقي بقوله:"الأدب الأفريقي المكتوب باللغات الانجليزيّة والفرنسيّة والبرتغالية ما هو إلاّ ملاحق لآداب تلك اللغات"9. وكان من ضمن من استفزّهم ذلك التعريف ثلاثة من النقاد النيجيريين على رأسهم جيمي شينوزو حيث اشتركوا في تأليف كتاب باسم" نحو تحرير الأدب الأفريقي" وشنّوا فيه هجوما ضاريا على التعريف ومن صاغوه وعلى من أخذ به أو اقتنع بفحواه من المثقفين الأفارقة. وأطلقوا على هؤلاء الأخيرين لقب "المتأوربين" أي الذائبين في قيم الحضارة الغربية والمضحّين بهويّتهم من أجل إرضائها. ثمّ قدّموا تصوّرهم الخاص أو تعريفهم للأدب الأفريقي بأن " الأعمال التي صيغت لجمهور أفريقي في لغات أفريقيّة سواء أكانت مكتوبة أو مرويّة يبدو لنا أنها تشكل لبّ الأدب الأفريقي، أما الأعمال التي صاغها أفارقة في لغات غير أفريقيّة والتي صاغها غير أفارقة بلغات أفريقيّة تظل عرضة لشكل مشروع يمكن أن يثار حول امكانيّة إلحاقها أو استبعادها من دائرة الأدب الأفريقي، ومن أجلها يجب التفكير في إجراء ما يؤدي إلى قرار بشأنها"10.
والمستفرق الألماني يان هاينزيان أنكر التفسير العرقي للثقافة ورفض التفسير الجغرافي ، وفسّر الأدب على أساس الثقافة التي تبنّته، وأدان المصطلحات الشائعة عن المستفرقين واتهمها بالعجز والقصور" ولكنه في الوقت ذاته يرى أن الشعوب الزنجيّة لها ثقافاتها المختلفة عن ثقافة أهل الشمال الأفريقي من العرب والبربر، بل إن لغاتها تنتمي إلى أسرة لغويّة واحدة كبيرة هي الأسرة الكونغوليّة الكردوفانيّة، وتمتد جنوب ليبيا في تماثل طبيعي وبشري، ثمّ يسلّم ضمنا ــ في النهاية ــ بأن الأدب الأفريقي هو المعبّر عن هذه الكتلة الأرضيّة بثقافاتها ولغاتها المتعدّدة، بعد أن يستقر على استخدام مصطلح الأدب جنوب الصحراء، مقارنا إيّاه بمصطلح غامض سبق أن استخدمه الجغرافي الإغريقي بطليموس وهو أجيسيمبا Agisymba . وقد رجّح يان أنّ هذا المصطلح الجغرافي القديم كان يعني الأراضي الواقعة جنوب بحيرة تشاد أو خط الاستواء، لأن أفريقيا زمن بطليموس لم تكن تعني سوى الشريط الشمالي المطل على البحر المتوسط والمحيط الأطلسي" ويواصل د. علي شلش تعليقه على هذه القضيّة طارحا رأيه قائلا:"وبغض النظر عن هذا المصطلح البطلمي، الذي نرجّح أنه كان يعني [المجاهل] ظلّ مصطلح الأدب الأفريقي أعوج عند المستفرقين والأفارقة على السواء. ولا سبيل إلى استقامته إلاّ إذا أعدناه إلى معناه الكلّي البدهي الذي يشمل شمال القارة وجنوبها سواء بسواء."11 ولكنه بعد ذلك يحدّد تفصيلا لا نرى مبرّرا له حيث يقول:"فإذا أردنا دراسة أدب الشمال فأقرب مصطلح يرد على الذهن هو (الأدب العربي في شمال أفريقيا) أو (الأدب الأفريقي شمال الصحراء الكبرى) إذا أردنا أن نضمّنه الأعمال الأدبيّة المكتوبة بلغات أخرى غير العربيّة. كما هي الحال في الجزائر والمغرب وتونس. وبالمثل، إذا أردنا دراسة أدب الجنوب فأقرب مصطلح يرد على الذهن هو، الأدب الأفريقي جنوب الصحراء الكبرى، ولكننا نفضّل على هذا المصطلح الجغرافي مصطلحا آخر مثل (الآدب الأفريقي خارج حزام اللغة العربيّة) أو (الأدب الأفريقي خارج مجال العربيّة) إذا شئنا الاختصار. وهذا الأخير هو ما سنأخذ به".12
ولا أرى أن الدكتور على شلش قد أنصف المصطلح بمثل ما أخذ به في دراسته، ذلك أن الآداب العالميّة تدرس وفق فضاءاتها القارّية رغم اختلاف اللغات، واللغة العربيّة هي إحدى اللغات الأفريقيّة، وهي الأقدم والأعرق من اللغات الأوربيّة الغازية التي يكتب بها الأدب الأفريقي خارج حزام اللغة العربية.
وإذا ما أخذنا بمصطلحه في الدراسة مزّقنا أفريقيا لغويّا فوضعنا اللغة العربية في الشمال تعادل جميع اللغات الأفريقية والأجنبية في الجنوب .، أو أن ندرس الأدب الأفريقي الفرنسي، والأدب الأفريقي الأنجليزي، والأدب الأفريقي البرتغالي، والأدب الأفريقي العربي ،والأدب الأفريقي الهوسي والأمهري والسواحلي. وهو أمر لا يستقيم مع ما تدرس به الآداب العالميّة. إضافة إلى أن اللغة العربية هي أكبر اللغات القوميّة في القارّة ، وقد جاء في ميثاق منظمة الوحدة الأفريقيّة "أنّ اللغات الرسميّة للعمل في المنظمة هي اللغات الأفريقيّة والإنجليزيّة والفرنسيّة. وحين اقترح أحد الزعماء الأفارقة، تخصيص اللغة العربيّة والنص عليها باعتبارها أكبر لغة قوميّة في أفريقيا، رأى أحد الزعماء العرب الاكتفاء بالنص المقترح أصلا، على اعتبار أن اللغة العربيّة إنما هي لغة أفريقيّة، وهكذا كان .. فثبّت بذلك حقيقة تاريخيّة وحضاريّة، بوعي وإدراك عميق لحقيقة العلاقات العربية الأفريقية."13
وفوق ذلك فنحن نرى أن اللغة التي يكتب بها الأدب ليست غاية في ذاتها بقدر ما نعتبرها جزءا من سيميولوجيا عامّة لبنية تحمل تراكما وتراكبا ثقافيا وتراثيا من حيث الشفرات أو التلاقح الثقافي. كما أن ما ذهب إليه د.شلش يناقض ما جاء في مقدّمة كتابه حيث أشار إلى إعجابه بمجموعة من القصائد والحكايات الشعبيّة والقصص القصيرة من غرب أفريقيا لا سيّما نيجيريا، يقول:" أذكر أنّ أحدهم سألني عن سر إعجابي بهذه النصوص، فكان جوابي: أنها شديدة القرب ممّا نكتبه في بلادنا، وإنني لم أشعر بغربة وأنا أطالعها."14
القضيّة برمّتها تتأسس على كيف ينظر أحدنا إلى الآخر ؟.. كيف ينظر الغرب لنا وكيف ننظر نحن إلى الغرب؟ وكيف ننظر إلى الأفارقة جنوب الصحراء، وكيف ينظرون إلينا؟ ومن ثمّ يصبح القصور واضحا ، وعدم الموضوعيّة بيّنا في إطلاق المصطلح.
وما أراه هو أن الأمر يعود إلى البنى السائدة الآن في العالم ، فبنية الوعي السائدة لدى الغرب(الماديّة البرجوازيّة) هي بنية وعي مغلقة وقاصرة مثلما البنية التناسليّة السائدة لدي الشرق ، وكلاهما يتربص بالآخر ويتوجس من الآخر، لأنه يعتقد بأنه سيّد الموقف، ومالك الحقيقة، ويحق له استباحة الآخر متى ما امتلك عناصر القوّة العسكرية أو الاقتصاديّة أو التقنيّة، وهذا ما يجعل دواخله ووعيه واستعداده النفسي معدّا لأن يمارس الاستعلاء على الآخر.
إلا أن د. شلش يعود ليعرض تساؤل أديب من جنوب أفريقيا هو(مازيسي كونيني) : عن ما الأدب الأفريقي؟ هل هو أدب منطقة تمّ تحديدها عاطفيّا على أساس قارّي؟" ومع أن كونيني أعلن عداءه للمعنى الإقليمي في جوابه، وانتهى إلى أن الأدب الأفريقي هو [ الأدب الذي يصوّر واقعا أفريقيّا بجميع أبعاده. وهذه الأبعاد لا تضم ألوان النزاع مع القوى صاحبة السيطرة السابقة على القارّة وحسب، وإنما تضمّ أيضا النزاعات داخل القارة الأفريقيّة] فقد ركّز على على الجنس الزنجي والثقافة الزنجيّة، دون حساب للأجناس والثقافات الأخرى. ومع ذلك اختلف الشاعر النيجيري كريستوفر أوكيجبو مع هذا الرأي وقال: إن[ الأدب الأفريقي هو ببساطة ــ الأدب الموجود في أفريقيا .. ومن السخف أن نتصوّره نمطا خاصّا ذا سمات متينة لها طابعها الأفريقي الخاص، أو ذا قيم خاصة مرتبطة بالحضارة الأفريقية] بل أضاف:[ إنه لايوجد أدب أفريقي، وإنما يوجد أدب جيد، ولا شيء غير ذلك] وقد علّق دورتيجاني الأوغندي على ذلك بقوله[ من المفهوم ضمنا أنه توجد ثقافات أفريقيّة عديدة لا مجرّد ثقافة واحدة، ومن ثمّة توجد أنواع مختلفة من الآداب ذات مجموعة متنوّعة من الأساليب والأشكال والمعاني والقيم. وكل من يريد تفسير أدب أفريقيا السوداء عليه أن يجادل أصحاب الآراء القطعيّة الذين يصرّون على تفرّد التقاليد أو الجهود الأدبية، ويقيّدون الأديب بفلسفة خاصّة أو موقف خاص، وينسبون إلى إنتاجه ــ في أثناء ذلك ــ أسلوبا أو معنى خاصا. وحين يستخدم الناقد قدراته الذاتيّة على الفهم وحدها، أي مجرّد ما تعنيه[ أفريقيا] إليه في حالات كثيرة فإنه يفرض على الأديب دوافعه ومعانيه. ولعلّ أوكيجبو نفسه كان يجب أن يحكم على الأدب الأفريقي بأنه أدب أولا، وأن يأتي التشديد على [إفريقيّته] بعد ذلك."15
أما الروائي النيجيري تشينوا اتشيبي،فيرى أنه " لا يمكن أن تحشر الأدب الأفريقي في تعريف صغير محكم.. فأنا لا أرى الأدب الأفريقي كوحدة واحدة، وإنما أراه كمجموعة من الوحدات المرتبطة ــ تعني في الحقيقة المجموع الكلّى للآداب " القوميّة والعرقيّة في أفريقيا"16 وهو ما يمكن أن نناقشه في الفصل الثاني الذي سنعرض فيه للعنصريّة والمصطلح.
عنصريّة المصطلح:
العنصريّة العرقيّة كسلوك تكمن في كلتا بنيتي الوعى (التناسلي والبرجوازي) حيث تعتقل هاتان البنيتان أفرادهما وجماعاتهما في ما يسمّى بنقاوة العرق ، أو التفوّق العرقي، بحكم الأبستيمة أو النواة المولّدة للوعي لدى كلّ بنية قاصرة تدّعي بأنها الأرقى والأنقى والأفضل والأسمى..الخ،
وقد شكلت ألوان البشرة منذ القدم علامة فارقة بين البشر، مرّت حضارات ساد فيها الأصفر، وحضارات ساد فيها الأبيض وقد لخّص معمّر القذّافي ذلك في حديثه عن السود بأنّ " آخر عصر من عصور الرق كان استرقاق الجنس الأبيض للجنس الأسود، وهذا العصر سيظلّ ماثلا في ذهن الإنسان الأسود، حتى يشعر أنه قد ردّ اعتباره. إنّ هذا الحدث التاريخي المأساوي، والشعور المؤلم به، والبحث النفسي عن حالة شعور بالرضا لرد الاعتبار لجنس بحاله، هي سبب نفسي لا يمكن تجاهله في حركة الجنس الأسود ليثأر لنفسه وليسود. مضافا إلى هذا ما تحتمه الدورات التاريخيّة الاجتماعيّة . ومنها أنّ الجنس الأصفر قد ساد العالم عندما زحف من آسيا على بقيّة القارات.. ثم ّ جاء دور الجنس الأبيض عندما قام بحركة استعمار واسعة شملت كل قارات العالم .. والآن جاء دور الجنس الأسود ليسود كذلك."17
لقد كان لون البشرة في كل الحضارات السابقة يعدّ منقصة، جعل السود في قاع الهرم .. وبالرغم من أن الإسلام جعل البشر يتنفسون بالعدالة السماويّة بإزالة الغبن عنهم حين ساوت بين الأسود والأبيض ،الأعجمي والعربي، وجعلت الأفضليّة للتقوى والمعاملة والسلوك الاجتماعي، وعدّ التمييز بين البشر على أساس اللون جاهليّة ينبغي التخلّص منها. إلاّ أن البنية وبحكم أسبقيتها للخطاب، فإنها لم تتخلّ عن استرقاقها واستعلائها. حيث مارست مع الأسود وحشيّة غاية في التدنّي.. لقد " كان اقتناء العبيد الأفارقة يعتبر من مظاهر الترف والجاه إذ كان الوضع الاجتماعي للمالك يقاس بعدد عبيده الذين كانوا يعدّون جزءا مهمّا من حاشيته، ومظهرا لثروته وقوّته."18
كما عانى اللون الأسود طويلا فيما يسمّى بالشتات الأفريقي من الاضطهاد والاستعباد من قبل البنى المجتمعيّة التي هاجروا لها أو هجّروا إليها رغم إسهاماتهم الكبيرة في تلك المجتمعات.. لكنّ الغبن ظلّ كامنا في نفوسهم تجاه العنصريّة العرقيّة التي مورست ضدّهم.. فقد كانت أفريقيا الشرقيّة هي المصدر الأكبر لإمداد آسيا بالعبيد وفي أوائل القرن التاسع عشر " كانت مسقط أعظم مركز لتجميع العبيد قبل ترحيلهم إلى الخليج وفارس والعراق والهند. وفي أواخر القرن نازعها في سيطرتها هذه ميناء صور الواقع إلى الجنوب منها. .. ولم يكن في استطاعة مجتمعات آسيويّة كثيرة كعهدها في القرون السالفة أن تستغني عن عمل الرقيق لا اجتماعيا ولا اقتصاديّا ولا سياسيا.. ففي المناطق الخاضعة للسلطات البريطانيّة والهولنديّة الاستعماريّة، ولا سيّما الهند وأرخبيل الملايو، كان العبيد، ومن بينهم الأفارقة، هم عماد اقتصاد المزارع الكبيرة... وكان عدد كثير من العبيد الأفارقة يستخدمون في أغراض متنوّعة كجوار وبحارة وجنود وإداريين، وبائعين في حوانيت التجار ، وما أشبه ذلك.وفي المناطق الريفيّة كانوا يستخدمون كعمّال زراعيين، وسائقين ، وحداة إبل ورعاة ... وفي الهند كان الأفارقة يمارسون عددا من الأعمال الوضيعة، لم يكن الهنود يستطيعون القيام بها ( بسبب القيود الطبقيّة ) أو لا يرغبون في تأديتها، أو كان البريطانيّون يرونها غير لا ئقة بهم. وفي الإمارات المستقلّة كان العبيد ولا سيّما الأفارقة، يمارسون بالدرجة الأولى أعمال الخدم، كسراري وخصيان وسقّائين وحلاّقين وحرّاس وسائسين..الخ."19 وبشكل عام فقد "كانت الهجرة الجماعيّة إلى آسيا الصغرى وبلدان الشرق المتاخمة للبحر المتوسط أقدم تيّارات الشتات الأفريقي، وأطولها عهدا ، فقد بدأت على الأرجح قبل الميلاد ببضعة قرون ."20
لقد شرّعت حضارة اليونان نظام الرق العام، وكذلك شرّعت نظام الرق الخاص، وكانت مدينة أثينا سوقا كبيرة تعجّ بالعبيد، حيث بلغ عدد الرقيق في أثينا وحدها زهاء المائة ألف رقيق تقريبا، بينما كان عدد الأحرار من الرجال لا يتجاوزون العشرين ألفا. أما خلال القرون السادس عشر والسابع عشر فقد كان الأوربيون ينقلون الأفارقة الزنوج بعدّة وسائل ، أهمّها سفن الشركة الأفريقيّة الملكيّة، ثم انتقلت هذه التجارة إلى أيدي مجموعة كبيرة من الشركات والأفراد (بريطانيين وأمريكيين، فاكتشاف العالم الجديد(الأمريكتين) رسّخ مفهوم الرق وتجارته. وكانت هناك قوانين بين الأمم الأوربية تتصل بأحوال الرقيق، حيث كان يدعى (القانون الأسود)." وبمقتضى القانون الأسود الفرنسي على سبيل المثال كان إذا سرق العبد عوقب بالقتل أو بعقاب شديد أقل منه، أما إذا هرب العبد ، ففي المرة الأولى والثانية تكون العقوبة صلم الأذنين والكي بالحديد المحمّى، فإذا هرب في المرّة الثالثة القتل. ولقد بلغ الشتات الأفريقي في الأمريكتين مبلغا كبيرا إذا ما قيس بشتاتهم في أوربا وآسيا،" ففي أوائل القرن التاسع عشر، قدّر عدد الأفارقة الأمريكيين من أحرار وعبيد بنحو 8,5 مليون. وكان أكثر من 2 مليون من هذا العدد أو زهاء 25 في المائة يعيشون في الولايات المتحدة الأمريكيّة؛ وكانت أغلبيتهم العظمى تعيش في ما يسمّى "بولايات الرقيق"... وفي عام 1810 كان زهاء 2 مليون من الأفارقة والأفرو ــ أمريكيين يعيشون في جزر الأنتيل بالبحر الكاريبي. وكان أكثر من مليون بقليل يعيشون في جزر الكاريبي الإنجليزيّة: جامايكا، وسانت كيتس، وانتيغوا ونيفيس، وأنغيلا، وسانت لوسيا، وسانت فنسنت، وبربادوس ، وغرينادا، وترينيداد، وكان زهاء450000 يعيشون في جزيرة هايتي، التي كانت مستعمرة سان دومنغ الفرنسية ... وكان عددهم في كوبا 400000 ، وفي بورتوريكو 280000 ، وفي البرازيل 2,5 مليون، وفي داخل أمريكا الأسبانية ما مجموعه 1,3 مليون. وكان معظم الأفرو ــ أمريكيين في بورتوريكو أحرارا، شأنهم في ذلك شأن الأغلبية الساحقة بين 400000 منهم في المكسيك، و400000 في فنزويلا، و 200000 في كولومبيا، و50000 في أكوادور، و 30000 في كل من شيلي والأرجنتين "21
وحتى بعد المعاهدات والقوانين الصادرة بشأن إلغاء تجارة العبيد(**)إلا أنها بقيت وأعيد تنظيمها سرا على أسس جديدة تهدف إلى جعلها أكثر نفعا لأنّ تشكل البنية البرجوازيّة فرضت تلبية أصحاب المزارع ومن ثم فإن وقف هذه التجارة كان سيؤدي إلى اختفاء العمّال وعندما سمح مرسوما 13/2 و29/3/1852 بتوظيف عمّال أفريقيين في المستعمرات الفرنسيّة. كان العقد يضمن لهم الحرّية، وراتبا، والعودة إلى أفريقيا، لكن ماذا على أرض الواقع؟ يتساءل أورينو دالارا ويجيب " بالنسبة إلى ظروف سفر هؤلاء "المهاجرين"، فإن كل الشهود أجمعوا على أنهم كانوا يكبّلون بالسلاسل خلال رحلتهم، ويكدّسون كما في زمن تجارة الرقيق، إضافة إلى سوء التغذية. وكانت عمليات الهروب، والتمرد، والوفيات تسجل خلال تلك الأسفار عبر الأطلسي الشبيهة إلى حد بعيد برحلات الزناجات. أصحاب السفن الفرنسيّون أخذوا 17262 عاملا حمّلوا من أفريقيا. وحصلت 1417 حادثة وفاة في البحر ووصل 15845 مهاجرا إلى مستعمرتي الغوادلوب والمارتينيك، و2616 إلى غويانا . وهناك عدّة رحلات لم يتناولها المؤرخون حتى الآن."22
أمام هذا التحدّي التاريخي الخطير الذي واجهه الأفارقة، كان لابدّ من أن تكون هناك استجابة من بنية ظلّت لقرون عديدة تحصر فاعليتها في توفير البشر كمّيا لمواجهة صراع الطبيعة بقسوتها من جهة والاستنزاف الذي شكلته البنية البرجوازيّة التي عصفت بكل نزعة إنسانيّة في سبيل الاستحواذ على الخيرات المادّية وصلت حدّ الاستخفاف بالعرق واللون ، من جهة أخرى.
" عند منتصف القرن التاسع عشر، خلال العقد1850 ــ 1860 ، تشكلت مجموعة من فاعليات الزنوج في الولايات المتحدة، أدانت نشاط السود والبيض الذين كانوا في خدمة ملاّكي العبيد، وصاغت عددا من المطالب السياسيّة والاجتماعيّة. كان أعضاء هذه المجموعة يريدون التخلّص من استبداد البيض، فوضعوا خططا قادتهم إلى التفكير في العيش خارج حدود الدولة الفدراليّة. هؤلاء الناشطون بحثوا عن منطقة في الخارج يمكنهم فيها إقامة أمّة سوداء ويكون لديهم حكومة، وفرص يثبتون من خلالها للعالم قدرتهم على العيش، والإبداع، والتنظيم والمساهمة في الحضارة البشريّة. وبرز لديهم ميل إلى هجرة يوجّهونها بأنفسهم، وإلى مشاريع تتعلّق بالزنوج ينسّقونها وحدهم من دون وصاية البيض"23
هذه البنية القاصرة التي تعاملت مع السود بهذه الوحشية ، وهذه العنصريّة كان من الطبيعي أن تجابهها بنية السود بضرورة تفجّر الوعي العرقي حيث برز كقوميّة زنجيّة ارتبطت بحركة الهجرة التي يديرها الزنوج، أو كقوميّة سوداء تحمل على عاتقها مشروع الافتداء الشامل لمجمل العالم الأسود، أو كقوميّة أفريقيّة، المفهوم الذي أصبح متداولا منذ تأسيس المؤتمر القومي الأفريقي في أفريقيا الجنوبية، سنة 1912 .
يشكل التعصّب وحب الذات والأنانيّة وممارسة الاستعلاء واستباحة الآخر جذرور بنى الوعي القاصرة المتمثّلة في بنيتي الوعي (التناسليّة والبرجوازيّة). وبحكم سيادة بنية الوعي التناسلي على مجمل الحضارات السابقة قبل سيادة(البرجوازيّة) في الحضارة الغربية الحاليّة.. إلاّ أن ذلك لايعني عدم وجود ممثلين لها أو للبنية الخلاّقة التي تمّت الاستعانة بها عبر مفاصل التاريخ لإحداث النهضات الحضاريّة. هذه البنية المفتوحة يتمثل أفرادها في كلّ الأنبياء والرسل والمفكرين والمصلحين والمبدعين بمختلف أنواع الإبداع.. كما يتمثل أفراد بنية الوعي البرجوازي في الحضارات السابقة في كل من احتاز القوّة المادّية أو السياسية من ثروة وسلاح وجاه يمكنها من إشباع نزعاتها الاستعلائية واستباحتها للآخر فقد مارس التجّار عبر كل الحضارات الاستغلال فالنواة المولّدة للوعي لديهم تجعلهم يفهمون الإنسان كائنا مادّيا مهمته في هذه الحياة الجمع والاستحواذ على الخيرات المادّية بأيّ وسيلة كانت ، وهكذا كان ممثلوا هذه البنية عبر التاريخ يمارسون استغلال الغير.
هذا ما يبرّر وجود ظاهرة الاسترقاق من خلال ارتباطها بالعامل المادّي الذي يشكل فاعليتها، حيث لم يكن كل المجتمع يمارس هذا الدور أو يرضى عنه ، ولكنها بذور بنية برجوازيّة لم يتسن لها التشكل بعد ، أو فرض سيادتها الكاملة لترتكز عليها حضارة مادّية كالسائدة الآن في الغرب. وهذا ما يمكن أن نطلق عليه البعد التاريخى لهذه البنية، وما أن سادت في المجتمعات الغربية خلال الخمسة قرون الماضية حتى مارست أبشع أنواع الاستغلال والظلم والاستعلاء والاسترقاق والاستعمار. واستباحة الآخر بمجمله من أجل الاستحواذ على الخيرات المادّية دون غيرها. الأمر الذي يفسر لنا إنهاك القارة الأفريقيّة في بداية القرن التاسع عشر بفعل تجارة العبيد التي لم تبدأ في القرن الخامس عشر كما يقال عادة، بل قبل ذلك بكثير. بل من قبل الميلاد لدى اليونان والرومان مرورا بالقرن السابع مع التجار العرب" إن دراسة تجارة العبيد يجب ألاّ تفصل تجارة الغربيين بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر، عن تجارة العرب التي بدأت في القرن السابع وامتدّت إلى ما بعد القرن التاسع عشر، حتى القرن العشرين."24 وقد أشار أورينو دالارا25 إلى أن المؤرخ مارك فيرّو ، وفي معرض تحليله لكتب التاريخ التي تتناول هذه المسألة، لاحظ أنه حالما يصل الموضوع إلى العالم الإسلامي " تبدأ يد المؤرّخ (الأفريقي) بالارتجاف في كيف نعلّم التاريخ لأولادنا، باريس 1981،ص41 ."
لقد كان لعلاقة تجارة الرقيق أثرها في الصور السلبية المتبادلة بين العرب والأفارقة،كما يشير حيدر إبراهيم، وشكلت كيف ينظر العربي إلى الأفريقي أو العكس. ويصف كثير من المثقفين الأفارقة العلاقة العربية الأفريقية، بأنها عانت من عبء تجارة الرقيق حتى الآن ويصرون على استدعاء هذا الحدث القديم للتعامل مع الحاضر، والعرب من جانبهم لم يسعوا إلى التخلص من هذا العبء ونتائجه فقد ظلت بعض الرواسب باقية. فقد انتهى الرق كمؤسسة ولكن استمرّ عند بعض العرب كثقافة وطريقة تعامل. ورغم أن تجارة الرقيق ليست اختراعا عربيا، إذ عرفت أغلب المجتمعات البشريّة هذه التجارة المخزية ، وشارك الأوربيون والأفريقيون فيها وقدم السكان المحلّيون في أفريقيا الرقيق إلى التجار العرب بعد الحروب الأهليّة المنتشرة في تلك البلاد. ومن المعلوم أن التجارة الأضخم في الرقيق قام بها الأوربيون من شاطئ الأطلسي وليس العرب. ولكنهم تخلصوا من هذه الممارسة وأدانوها وحرّمت قانونيا ودينيا، ثم أكدوا دور العرب وغذوا الشعور بالحقد تجاه العرب. وعملت أوربا على تبرئة نفسها واقعيا بينما ظل الرقيق غير محرم في عدد من الدول العربية حتى منتصف القرن الماضي، كما أن بعض الفقهاء ما زال يرجع إلى مصادر تتحدث عن عتق الرقبة في الكفارة، وما زالت بعض المناهج تدرس هجاء المتنبي لكافور. لذلك يستغل بعض الأفارقة هذا الوضع الملتبس والعاجز عن فك الارتباط بهذا التاريخ السيئ، لكي يكرّسوا سلبيات العلاقة ويستمرّوا في إعادة الصورة النمطيّة26
هذه القضيّة لا يمكن قراءتها أو تبرير ممارسة العرب والمسلمين لها إلاّ من خلال منهج التحليل الفاعلي الذي يرمي باللائمة على قصور بنية الوعي البرجوازي ، تلك التي احتازتها فئات من المجتمع العربي والإسلامي ، تماما كما احتازتها فئات من المجتمع الأفريقي فعند " ظهور مملكة الدانكسومي (الداهومي) نحو 1820 وحملاتها المستمرّة ضد اليوروبا ساهمت في ازدهار التجارة الممنوعة . تجميع السجناء كان أحد الأهداف المهمّة لقادة الداهومي ــ من الملك كبنغي (1774 ــ 1789 ) إلى جيزو (1818 ــ 1828 ) الذين نظموا البلد ليلبّي احتياجات السفن الزنّاجة، وبحسب المؤرخ النيجيري إ.أ. أكينجوغبان، أسّس الملك تيغبيسو اقتصاد الداهومي على تجارة العبيد."27
كما أن أخلاف العبيد المحّرين غالبا ما كانوا يمارسون التجارة، وهكذا طوّعوا بدورهم عددا لا بأس به من العبيد، وجمعوا ثروات سمح لهم توزيعها بالوصول إلى السلطة.. ووفرة المنتوجات المصدّرة التي حلّت مكان تجارة العبيد أوجدت في أفريقيا حاجة إلى عدد أكبر من العبيد للحصول على العاج(صيد الفيلة) ولقطف القطن، وجني العسل، والصمغ العربي، وكبش القرنفل، وفيما بعد المطّاط، وكذلك لنقل كل هذه المنتوجات، كان هناك تزايدا مهما لتجارة العبيد الداخليّة الإفريقية، وللأعمال الرقّية في القرن التاسع عشر، ترافقها نزعة إلى تمركز الأنظمة السياسية وتعزيز السلطة الملكيّة.28
الظاهرة إذن تقع على عاتق بنية الاستغلال(البرجوازيّة) التي ينصبّ همّها على امتلاك أكبر قدر ممكن من الثروات والخيرات الماديّة، والتي كان ممثلوها منذ القدم يسعون إلى تفعيلها بل وسيادتها، ولا يتم استثناء العرب ممّن احتازوا هذه البنية، ولا المسلمين ولا الأفارقة أنفسهم من ظاهرة الاتجار بالرقيق وخاصّة اللون الأسود، ولكنه لم يصل الحد الذي أضحت فيه هذه البنية تفرض كامل هيمنتها وتسود كما هو الحال في الحضارة الغربية أثناء نهضتها وحتى الآن.
ولا أعتقد أن ذلك يضير بالإسلام الذي جاء محرّرا للمستضعفين ، وساوى بين الأعراق والألوان والطبقات، حيث لم يفضّل لغة على أخرى ، ولا عرق على آخر، ولا لون على لون. بل ساوى بين الجميع. ولكن احتياز عدد من المسلمين بنية الوعي البرجوازي لا ينبغي له أن يجعل أيّ مؤرخ إسلامي أو عربي أو أفريقي أن يرتجف حين يتناول هذه المسألة. إنها تتعلق ببنى الوعي التي يحتازها الأفراد كما تسود المجتمعات عندما تستدمج أيّ منها غالبية أفراد المجتمع.
البنية البرجوازيّة المادّية لم تسد ــ كما ذكرنا ــ إلاّ في الحضارة الغربيّة الراهنة، وجميع الحضارات البشريّة السابقة كانت بنية الوعي التناسلي هي الغالبة ، يعي الإنسان نفسه كائنا تناسليا مهمته ودوره في هذه الحياة التناسل، وتوفير البشر كمّيا، إلاّ أنه على صعيد الأفراد فهناك من احتاز بنية وعي برجوازي لم تتمكن حتى الخطابات الدينيّة ، والحركات الإصلاحية أن تنتزعه من هذا الوعي. صحيح هناك تآزر لبنى الوعي على مستوى الفرد، فحين يحتاز إحدى بنى الوعي الثلاث، فإن البنيتين الأخريين يوظفهما لصالح البنية التي يحتازها، كما أن هناك تنازع قد يجعل الفرد ينتقل من بنية إلى أخرى لعدم توفير البنية السائدة الحماية له، عندها فقط البنية السائدة في المجتمع هي التي تحاكمه أو تعاقبه على تمرّده أو خروجه من أسرها واعتقالها وسيطرتها.
عليه فإن البنية البرجوازي، تتحمّل كامل تبعات الظاهرة حين كان ممثّلوها منذ القدم يمارسونها من أجل الاستحواذ على المال والخيرات المادّية.. فكما يقاس الفرد فيها بمدى ما يملك من مال.. كان ممثلوها يتباهون بمدى ما يمتلكون من رقيق، إضافة إلى تسخيرهم في الأعمال التي يكون مردودها المادّي كبيرا. فقد " كان من الأمور العاديّة أن يملك الغنيّ الأثيني نحو خمسين رقيقا، ومنهم من كان يستخدم في أعمال مناجمه الخاصّة ثلاثمائة إلى ستمائة رقيق مملوك له، وهناك من كبار الملاك من قد يصل رقيقه المستخدمين في هذه الأعمال إلى ألف رقيق"29
كذلك ونتيجة للحروب الطويلة التي قضت على نسبة كبيرة من القوى الرومانيّة العاملة ، فقد وجد أصحاب الأعمال [أصحاب بنية الوعى البرجوازي] بديلا لهذا النقص البشري عندما تدفق على إيطاليا الآلآف من العبيد من البلدان التي اكتسحتها الجيوش الرومانيّة مثل مقدونيا وبلاد الإغريق وبلاد الفال وأسبانيا وآسيا الصغرى وقرطاجة في شمال إفريقيا لدرجة أن مؤرخي هذه الحروب يصفون روما إبان هذه الفترة بأنها عمليات سطو للاستيلاء على أكبر عدد من الرقيق الذين سيقوا إلى روما ، ووصل الحال إلى أن أصبح خمس سكان إيطاليا من العبيد. وكان سواد البشرة لدى الرومان يبيح الاسترقاق.30 وعندما سادت البنية البرجوازيّة التى همّها جمع الثروات استغلّت الإنسان أسوأ استغلال وخاصّة السود، ولم يتم إلغاء الرق حديثا إلاّ بعد تطور الثورة الصناعيّة ، واستخدام الميكنة وسيلة جعلت الكثير من الأوربيين في غنى من هؤلاء الأرقاء الذين قلّ انتاجهم في ظروفهم المعيشيّة السيّئة، وبعد أن ثبت لهم في عالم الرأسماليّة أن حب التملّك له علاقة بزيادة الإنتاج، وأن القسر والإجبار يعطي نتائج عكسيّة، فسعوا إلى التخلّص منهم بعد تزايد أعدادهم، إلاّ أن العنصريّة ظلّت باقية لفترة أطول حيث تشكل جذرا أساسيا في بنية وعي القصور.
ونحن هنا لسنا بصدد محاكمة البنية البرجوازية لارتكابها جرائم بحق الإنسانية، واتهامها بالقصور والاستغلال والاستعلاء واستباحة الآخر، فالبنية التناسليّة رغم ضوابطها وقيمها التي تتمتع بها بحكم الانتماء الأسري والعائلي والقبلي والاجتماعي ، إلاّ أنها أيضا تمارس نفس الدور في استباحة الآخر، ولكن بتعزيز وجودها بالإكثار من التناسل حيث يشكل الأبناء تعضيدا لآبائهم ولقبائلهم حين يصبحون عونا لهم من اعتداءات القبائل الأخرى ،أو توفير ضرورات الحياة أو حتى من غوائل الدهر ونوائبه.
الاستجابة للتحدّي التاريخي:
أما ردة الفعل لدى الأفارقة فقد اتسمت بالعنصريّة كذلك تجاه ما جوبهت به من عنصريّة، وتمثل ذلك في عدد من المواقف التاريخية . منها أن جماعات الشتات الأفريقي المتباينة في الجزيرة العربية كانت منظّمة تنظيما جيّدا، وكانت تحافظ على تقاليدها. إذ لاحظ هورغرونجي أن نوبيّي مكة كانوا مسلمين في الظاهر لا يحسنون العربية وأنهم " كانوا يقيمون من بعد ظهر يوم الخميس حتى صباح الجمعة مهرجانا يستمتعون فيه بموسيقاهم القوميّة من الغناء والرقص. وكان لكل جماعة من هؤلاء السود شيخها الذي يفض الخصومات بأحكامه القضائية، ويقف إلى جانبه مأمور يدعى النقيب بيده عصا لتنفيذ ما يصدره من أحكام."31
ومن الاستجابة للتحدّي الذي جابهه اللون الأسود انتفاضة القبائل الزنجيّة وإثارة الفزع والرعب في القسم الأدنى من أرض العراق خمسة عشر عاما(255 ـ 270 هـ = 868 ـ 883م) وكانوا قد شقّوا عصا الطاعة من قبل عام 75 هـ (694م). وقد أشارت دائرة المعارف الإسلاميّة إلى أن هذه الفتنة على جانب كبير من الأهمّية لأنها من الحروب القديمة المنظّمة التي شنّت على بغداد على مثال حربي أونوس Eunus (140 ق.م) واسبرتاكوس Spartacus (73 ـ 71 ق.م) اللتين شناهما على روما ، وحروب توسانت لوفريتر، وعصيان حمّالى ناتال بقيادة غاندي (1906 ـ 1913 ) في وجه الاستعمار الأوربي.32
ويحيلنا التاريخ إلى نقمة الاسبرطيين وما عرف بحركة الأرقاء التي وقعت قبل الميلاد بأربعة قرون حيث تجمّع هؤلاء بالآلاف على مقربة من المدينة وهزموا قادة اسبرطة ، ولجأت هذه المدينة الحربية الصارمة في نظامها إلى طلب النجدة من جيرانها، ولم تستطع إسبرطة صدّ الثائرين والقضاء على ثورتهم إلاّ بعد عشر سنوات.. كما أن سوء أحوال الرقيق الاجتماعيّة أيام الرومان قد أدّت إلى التذمّر والحقد والتمرد والثورة ورفع السلاح، فكانت أول ثورة للعبيد على الملاّك وعلى النظام في عام 138 ق.م واضطر الرومان خلالها إلى صلب الآلاف منهم .
وحدثت ثورات أخرى خارج إيطاليا مثل ثورة العبيد في ديلوس حيث السوق الدولية لهم. وكذلك ثورة عبيد منجم اللاوريون بالقرب من أثينا حيث بلغت من الشدّة أن أعلن العبيد هناك دولة مستقلّة، وسكوا لهم عملة خاصّة بهم، وكان أقوى ثورات العبيد خلال التاريخ اليوناني عنفا ثورة عبيد صقليّة عام 136 ق.م حيث هلك فيها الآلاف من ملاّك الأراضي والضياع قبل أن تتمكن روما عام 131 ق.م من القضاء عليها33
وكانت الثورة الثانية التي تزعّمها عبد طراقي وهو أحد هؤلاء الرقيق الذين عانوا من الظلم والاستبداد في إيطاليا حيث قام (سبارتاكوس 73 ق.م) الذي تعلّم المصارعة ، بحركة تمرّد واسعة حيث جمع زملاءه في الرق وحشد منهم ما يقرب من التسعين ألف رقيق دوّخ بهم الجيوش الرومانيّة حتى استنفد جهود هذه الدولة، وكلفها أن رصدت له أكبر قوّادها أمثال (كراسوس يومبي)، ولم يخمدوا ثورته إلاّ بعد عناء شديد، وبعد أن كاد يحكم البلاد الإيطاليّة فيما وراء العاصمة، حيث دارت الدائرة على سبارتكوس في معركة ( لوكانيا ) سنة 71 ق.م وقد انهالت أعمال الثأر الرهيبة على جيش العبيد العظيم فعلى طول الطريق الممتد من روما إلى كابوا، تمّ صلب 6000 عبد كنذير مبين لكل عبد تسوّل له نفسه الهروب أو أن يكون في عداد الثائرين.34
الاستجابة: (الحركات الأدبية)
الحركة الأفريقانية:
حركة الزنوجة، أو الوطنيّة السوداء كانت من أبرز الاستجابات للتحدّي الذي واجهه اللون الأسود من البنية البرجوازيّة التي تجذّرت في الغرب، فقد نظّم كل من هنري سيلفستر ويليامس، وبنيتو سيلفان بمساعدة فيرمان( الجمعيّة الأفريقانيّة)(***) من 1897 إلى 1900 حضّرا لانعقاد المؤتمر الأفريقاني في باريس ولكنه عقد في لندن في 23 إلى 25 يوليو 1900، واتفق على تنظيم مؤتمر أفريقاني كل سنتين 1902 في الولايات المتحدة و 1904 في هايتي35.
ومن أبرز رّاد هذه الحركة هو (مارتن روبنسون ديليني) المولود في 6 .3 .1812 في تشارلز تاون (فرجينيا) . وهناك الكثير ممّن بدأ يكتب حول أفريقيا في إطار العودة أو للانتصاف للون الأسود، وصلت كتاباتهم أحيانا حدّ التطرف، مواجهة لعنصريّة البيض . وأضحت القوميّة السوداء تنادي بأن " أفريقيا هي للعرق الأفريقي وحكمها للسود".
كما برزت دراسات وأبحاث كانت عبارة عن إرهاصات قبل تشكل هذه الجمعيّة، منها مؤلف هوسيا إستون(دراسة في الشخصيّة الفكريّة) ومؤلف روبرت بلويس (النور والحقيقة 1844 ) ونداء دافيد ووكر (إلى المواطنين الملوّنين في العالم ، 1829 ) وكتاب الكسندر كرامل (مستقبل أفريقيا 1862) ودراسة جيمس أفريكان هورتون (بلاد أفريقيا الغربية وشعوبها 1868) وكتاب جورج واشنطن وليامس ( تاريخ العرق الأسود في أمريكا ، 1882 ) وما كتبه وانتينور فيرمان عن ( المساواة بين العروق البشريّة ، الأنثروبولوجيا الإيجابية،) الذي نشر في باريس 1885 . ومارتن بليني الذي نشر رواية قبيل عيد الميلاد سنة 1828 بعنوان ( بلايك : أو أكواخ أمريكا) وألقى محاضرة في النادي القومي عن ( أوضاع العرق الأسود ومطامحه) في 16.7.1860. والذي نقل دوغلاس عنه في التربيون كلماته التي تقول " أتكلم فقط عن العرق الأسود الصافي، الذي لم يفسده الدم القوقازي" وعلق دوغلاس : بأن سماع هذه الكلمات يعطي انطباعا بأن ديليني يشاطر بالنسبة إلى السود ما يراه البيض بحسب نظريّة تفوّق العرق الأبيض36.
كما كتب وليام ويلز براون رواية بعنوان: كلوتيل: أو ابنة الرئيس، نشرت في انجلترا سنة 1853 . وفرانك ويب الذي كتب رواية بعنوان: آل غاري وأصدقاؤهم، والتي ظهرت في إنجلترا سنة 1857 . وكان معظمهم من مؤسسي جمعية الحضارة الأفريقيّة .. وجمعيّة اتحاد الوطن الأم.
وقد اعتبر أورينو دالارا أن إدوارد ويلموت بليدن(1832 ــ 1912) العنصر الحاسم في هجرة الزنوج إلى أفريقيا .. وقيل عنه أنه مؤسس(باك تو آفريكا) أو الزنوجة " الوطنيّة السوداء" ، وهو كاتب أسود وأستاذ ودبلوماسي، فرض وجوده وتأثيره في مونروفيا كما في واشنطن، أو لندن أو باريس(****)
في محاضراته انتقد بليدن المفاهيم التي تقلّل من قيمة الإنسان الأسود أو أفريقيا، مثل " العرق الأدنى" أو "أفريقيا المظلمة" وثار على الصورة المغلوطة التي تنسب إلى السود. هذه الصورة المزرية كانت موجودة في كل مكان. هذه الصورة المزرية كانت موجودة في كل مكان، في مقالات الصحف، وفي التعليم، وفي الأدب، وفي التاريخ الذي يكتبه الأوربيون. لقد قدّمت صورة مشوّهة عن الإنسان الأسود، والأسوأ أن كل هذا أدّى إلى إساءة احترام الأسود لذاته وإلى عقدة نقص . ودعا بليدن كل زنوج الأمريكتين إلى تصحيح هذه الصورة الزائفة. كما حرص على أن يظهر في كل كتاباته قيمة الإنسان الأسود، وعزّة نفسه ، من خلال تواجده في العالم بأسره، ليس فقط في أفريقيا ، بل أيضا في الكاريبي والولايات المتحدة، وشبه الجزيرة العربية، وبلاد فارس والهند وحتى الصين، في اثنين من مقالاته " صوت من أفريقيا النازفة" و " مدافعة عن الشعب الأسود"37
أدان بليدن 1882 في خطاب ألقاه في الولايات المتحدة التزوير الذي أحدثه الأوربيون في التاريخ الأفريقي، ولجمع الشمل طلب من صديقه كوبنغر استبدال كلمة"أسود" بكلمة "زنجي" في المادة الثانية من النظام الأساسي للجمعية الأمريكيّة للاستيطان. وكان قد أطلق على جريدته التي أراد لها أن تكون لسان حال كل الزنوج"الزنجي" شارحا سبب اختياره بأن دورها هو أن تمثل وأن تدافع عن مصالح هذا الصنف المميّز من البشريّة المعروف باسم الزنوج في العالم أجمع، وطموحها يسعى لتأكيد الأخوّة بين أبناء هذا العرق وتقويتها. كما كان يشعر بحقد عميق تجاه الذين أسماهم" الخلاسيين " وذوى الدم الممزوج، والمهجّن ، مقابلا إياهم مع " الزنوج الأنقياء " ولم يطالب من كل الملونين أن يغادروا الولايات المتحدة إلى أفريقيا، إلاّ في حالة الزنوج أي أبناء أفريقيا، الذين يؤمنون بغرائز العرق، وبواجبهم تجاه موطنهم الأصلي. كما شجّع الزنوج الأنقياء للزواج في ما بينهم من أجل الحفاظ على العرق ، فهو يؤمن بمستقبل امبراطوريّة زنجيّة في أفريقيا.
هذا التوجه العنصري لدى بليدن لم يحل بينه وبين إعجابه بدعوة المسلمين في أفريقيا، وبطريقة تقرّبهم من السكان الأصليين التي أسماها "التأثير المستوعب"، وكان يعرف تماما الأصول المشتركة للشعبين الأفريقي والعربي مستندا إلى هيرودوتس الذي ذكر أنه قبل عصر محمد كان السود يشاركون في تراث شبه الجزيرة العربية العلمي وسياستها حيث اكتشف العلاقات الوثيقة بين هذين الشعبين، ويتكلم عنهما كأنهما من عرق كبير واحد. في نفس الوقت أحبّ مسيحيّة المسيح لكنه لم يكن أيّ احترام لممثليه الدنيويين الأوربيين، وأحبّ منهج المسيحيّة لكنه كره طرق الذين يبثّونها في أفريقيا.. لأنه حسب رأيه أن المسيحيّة بطرقها هذه لم تعط قط السلطة للزنجي ، وليست مستعدّة لإعطائه إيّاها.38
هذه العنصريّة تجاه العرق الزنجي هي رد فعل طبيعي على عنصريّة العرق الأبيض، فكل منهما ينتمي لبنية مختلفة. الأبيض لبنية الوعي المادّي هدفه السيطرة ووسيلته النبذ والإقصاء لكل من يقف في طريق جمعه للثروات المادّية، فتدرّج من الاتجار بالرق إلى العنصريّة المبرّر للاستعباد أيام البرجوازيّة، ثم الاستعمار والهيمنة أيام الرأسماليّة. والزنجي أو الأسود لبنية وعي تناسلي يسعى لإثبات وجوده والثأر لهذا الاحتقار وهذه الهيمنة وذاك الاسترقاق، وذلك بالبحث عن أصوله وجذوره وعن ماضيه لمجابة التحدّي التاريخي، ويصبح الحلم بناء امبراطوريّة السود أو امبراطوريّة الزنوج في أفريقيا .
في مجال الأدب ذهب عدد من الدارسين ،إلى أن هذه العنصريّة برزت لدى الأفارقة لتكون الرد الثقافي المطلوب على المزاعم الغربيّة الاستعماريّة خاصة الدول التي كانت ترزح تحت الاستعمار الفرنسي الذي أثقل البيئة الثقافيّة في أفريقيا بتأثيره، حيث طغى أدب حركة الزنوجة التي ذهبت إلى أن لأفريقيا أسلوب متفرّد ومتميّز في التعبير الفنّي والإبداعي، وله دور منوط به في العالم. لقد كان الأدب الأفريقي الشفاهي والمكتوب بالحروف الأعجميّة يسخر ممّن يحاكون الرجل الأبيض وممّن يتحدّثون لغة الرجل الأبيض دون أن يفهموها. فتفجّر بين أبناء أفريقيا لون آحر من ألوان الوطنيّة الثقافيّة في باريس في الثلاثينيات من القرن العشرين، إذ قام الأفريقيّون الناطقون بالفرنسيّة في باريس بإعلان التمرّد على استعمار العقل الأفريقي، وإن كان ذلك في إطار مرجعي أوربي .. ذلك أن سياسة الاستيعاب الثقافي التي اتبعتها الإمبريالية الفرنسيّة أحدثت ردّة فعل أفريقي يتمثل في الاعتزاز بالزنجيّة، وكانت كما اتضح فيما بعد، تجربة أفريقية جامعة ذات أهمّية فريدة، فقد تحالف كتاب أفريقيا والبحر الكاريبي في نظم الشعر الذي ينعى فصم العرى التي تربطهم بأسلافهم، وتأكيد صحة التقاليد والأصالة الأفريقيّة . وكان التحالف بين إيميه سيزير ، وهو من المارتنيك وليوبولد سيدار سنغور من الأسس البالغة الأهمّية للحركة الأدبيّة الزنجيّة. بل إن تعبير الزنجيّة [ في الشعر] كان من ابتكار سيزير فكانت استجابته هي التحيّة والترحيب بالأبيات التالية:
من لم يخترعوا البارود ولا البوصلة
من لم يرو ضوء الغاز ولا الكهرباء
من لم يكتشفوا البحار ولا السموات
إنّ زنجيّتي ليست صخرة، يلقى بصممها في وجه صخب العصر
زنجيّتي ليست كائنا من الماء الميّت على العين الميّتة للأرض
زنجيّتي ليست برجا أو كاتدرائيّة
إنها مغروسة في لحم الأرض الأحمر
.39
وفي كراسة عودة إلى الوطن، يعلن كرهه للمنطق ، ويمجد قوى اللاوعي باعتبار أن ذلك يمثل رؤية للكون زنجيّة تماما:
لأننا نكرهكم أنتم وعقلكم،
ونطالب بالجنون المبكّر وبالجنون المتفجّر،
وبالآدميّة المتأصلة فينا..
طوبى لمن لم يخترعوا شيئا أبدا
لمن لم يكتشفوا شيئا أبدا،
لمن لم يخضّعوا شيئا أبدا،
لكنهم يتخلون مشدودين إلى جوهر كل الأشياء
غير عابئين بالأشكال، تتملكهم حركة الأشياء40

أما ليوبولد سيدار سنغور فيقول في " توسلات إلى الأقنعة" متغنيا بالليل الأفريقي و"الغموض في أعماق النفس السوداء الوضّاءة":
أيّها الليل الذي يذيب كل تناقضي وكل التناقضات،
في وحدة زنجيّتك الأصليّة،
فلتقبل الطفل الذي ظلّ ولم يشخ
بعد اثنتي عشرة سنة من الضياع.
41
وهذا هو ثالثهم ليون جورج داماس وأصله ممّا يعرف بغويانا الفرنسيّة ، ويعدّ أحد مؤسسي حركة الزنوجة يعبّر في ديوانه (خضاب Pigments ) عن عدم رضاه عن نفسه بعد أن تشبّه بالرجل الأوربي في كل شيء وفقد بذلك هويّته الأفريقيّة :
لديّ إحساس بأنني سخيف
وأنا ألبس حذاءهم،
وأنا ألبس بدلتهم،
وأنا ألبس ياقتهم المزيّفة،
وأنا ألبس نظارتهم.
لديّ إحساس بأنني سخيف،
برقبتي التي تشبه مدخنة مصنع
بآلام رأسي التي تتوقف،
كلّما حيّيت أحدهم .
لديّ إحساس بأنني سخيف ،
في صالوناتهم،
في مجاملاتهم،
في انحناءاتهم،
في حاجتهم المتعدّدة إلى التقريد
.42
في ذات الوقت بدأ العديد من الكتاب والأدباء الأفارقة والمستفرقين يجمعون المنتخبات التي تؤكد حقيقة المصطلح العنصري للأدب فالشاعر الفرنسي بليز سندرار جمع لنا " المنتخب الزنجي " . وسنغور جمع " منتخب الشعر الزنجي والملاجاشي الجديد في اللغة الفرنسيّة" 1948 والذي كتب مقدمته جان بول سارتر محاولا " أن يفلسف بدوره مفهوم " الزنوجة" وأن يقارن في مقدمته بين معاناة الطبقة البروليتارية في الغرب الرأسمالي، وبين معاناة السود في العالم، ولا سيما في القرون المتأخرة... وأطلق سارتر على شعراء الزنوجة اسما طريفا كان له صداه فيما بعد، ألا وهو "أورفيوس الأسود Orphee noir " في إشارة إلى الأسطورة اليونانيّة التي تتحدث عن آلام "أورفيوس" الشاعر، الذي تغنت بأشعاره العاطفيّة الحزينة كل الدنيا حين فقد زوجته بلدغة ثعبان، وكان أورفيوس من العبقرية وقوة التأثير بحيث لم يكن يسحر بأناشيده البشر فحسب ولكنه كان يسحر الحيوان أيضا".43
كما كتب ليون داماس منتخبه " شعراء يكتبون بالفرنسية" 1947 . أما ماريو أندراري فقد جمع " منتخب الشعر الزنجي بالبرتغاليّة " 1958 . " وقد اغتنت حركة الزنوجة سنة 1947 بظهور منبر ثقافي صار له أهميّة كبيرة في تاريخ الحركة وتراثها الثقافي، ويتمثل في تأسيس مجلة "الحضور الأفريقي Presence Africaine" التي أسسها السنغالي أليون ديوب A.Diop وكانت تصدر من باريس وداكار في الوقت نفسه، كما أسس معها دارا للنشر تحمل الاسم نفسه، اختصت في نشر عيوب الأدب الأفريقي الحديث، ولا سيّما في مجال الفن الروائي. وفي ذات المسعى نظمت مجلة الحضور الأفريقي مؤتمرين كبيرين للكتاب والفنانين الأفارقة، الأول في باريس سنة 1956 ، والثاني في روما سنة 1958 وكانت المجلة تصدر باللغة الفرنسية وحدها ، لكنها أصبحت في السنوات الأخيرة تصدر في طبعة مزدوجة باللغتين الفرنسية والانجليزيّة معا، محاولة بذلك أن توحد بين النخب المثقفة السوداء في العالم، التي تتقاسمها أساسا هاتان اللغتان، لأسباب تاريخيّة معروفة، هي بالأساس ظاهرة الاستعمار ونقل السود قسرا إلى أمريكا"44
هذه العنصريّة تجاه اللون والتي جاءت استجابة للتحدّي التاريخي، "حركة الزنوجة" قد جوبهت من أبناء هذه القارة" من أمثال : "ستانسلاس أدوتيفي" في كتابه" الزنوجة والمتزنّجون" و"مارسين توا" في كتابه "الزنوجة أم العبوديّة" ، وكذلك الكاتب"وولي سوينكا" والكاتب "فرانز فانون" فقد رفض هذان الكاتبان مبدأ الزنوجة وحجّتهم أنه لن يقود المثقف الأفريقي إلاّ لطريق مسدود ، وأن التمسك بالأنمطة القديمة هو تمسك بالقشور الميّتة. "45
وقد ذهب بعض المستفرقين كذلك لإقرار هذه الحقيقة من أن الأدب لا يمكن أن يصنف على أساس بشرة الأدباء أو مسقط رؤوسهم، التي تعد بدورها فئات خارج الأدب فحارب المستفرق الألماني يان هاينزيان عبارات الأدب الزنجي ، والأدب الأسود، وأدب السود ، ذلك لأن الذين يستخدمون مثل هذه المصطلحات إنما يعبرون ــ ربما بشكل تلقائي ــ عن معتقد مؤداه أن لون بشرة الأديب كاف لتحديد الأسرة الأدبيّة التي ينتمي إليها.46
نقرأ هذا التوجه العنصري للأدب في ضوء بنية الوعي التناسلي التي تتسم بقصور الانحياز والتعصب إلى الذات وإلى الماضي وممارسة النبذ والإقصاء للآخر، حيث تتميّز بخاصّية الانفعال وردود الأفعال السريعة ، فالمحرّك لوعيها هو نواة توليديّة تحدّد لها مفهومها لذاتها ككائن تناسلي يربطه الرّحم والعرق ويضع من أولى اهتماماته الإنجاب والتكاثر والمفاخرة بهذا التكاثر والانحياز إليه، والتعلق بالماضي باعتباره النموذج الأمثل والأرقى والأفضل، فترى الأم ابنها القرد غزالا، وتفاخر الأسرة والعشيرة والقبيلة بذاتها باعتبارها إحدى روابط الدم والعرق، فتسعي لامتلاك القوّة بأبنائها لتشرب الماء إن وردت صفوا ، أما الآخر فيشرب الكدر والطين، ومن ثم تصبح مجتمعاتها وهي توائم بين أسس ومرتكزات وعي البنية من تقديس الأسلاف وبين حياة عصريّة تقوم على الدولة الوطنيّة متعدّدة القبائل والأعراق أحيانا والأديان واللغات فتخفق في كثير من الأحيان في هذه المواءمة ، كما هو الشأن في كثير من دول العالم الثالث اليوم.
في ما يخص الأدب لا تخرج عنصريّته عن هذه الآليّة التي تعتمدها البنية خاصة إذا كانت مرحلة استجابة لتحد كالذي مرّ به السود عبر التاريخ أو كالذي مرّ به العرب من شعوبيّة وحروب صليبيّة واستعمار وهيمنة.
وذات التوجه العنصري يمكن إسقاطه على الأدب العربي طارحين التساؤل بين أن يكون أدب قوميّة عرقيّة أو أدب لسان عربي، أو أدب بيئة أو ثقافة عربية . ودون الخوض في الاعتداد باللغة لدى ذات البنية والتي سنتناولها في مرحلة أخرى من مراحل البحث، إلا أننا وبالتأكيد لم يغب عن بالنا أننا نعتزّ بعروبتنا، وبالأدب الذي يعلي من شأن هذه العروبة (العرق) وأحيانا نعتز بالعروبة (اللسان) وغالبا ما نعتزّ بالأحساب والأنساب وصلتنا بالمقدّس من نص ديني، أو نسب شريف يربطنا بسيّد الخلق. فقد كثرت كتب الأنساب لدى العرب،وأصبحت لديهم نزعة حرمتهم من استيعاب الآخر حتى بعد أن توسّعت الدولة العربية الإسلاميّة، فحرصوا على أدبهم العربي، ولغتهم العربية وثقافتهم العربية وتقاليدهم العربية وعاداتهم العربية وزيّهم العربي ، وفكرهم العربي ، وعقلهم العربي. حتى وصل بنا الأمر إلى المقابلة بين الفكر العربي والفكر الغربي، بين الأدب العربي والأدب الأوربي. وهي نزعة تمليها البنية ، وفي ذات الوقت تبرّر لحركة الزنوجة أن تعتز وتفخر بزنوجتها ولونها وقيمها وفكرها وأدبها استجابة للتحدّي الذي جابهته طويلا.
الأمر الذي يدعونا لقراءة ظاهرة العنصريّة والانحياز والتعصب ونبذ الآخر وإقصائه في ضوء خصائص وسمات بنية الوعي التناسلي. وإذا عدنا إلى التاريخ قبل الإسلام لوضح لنا الصراع جليّا حتى بين القبائل العربية وبين أبناء العمومة في القبيلة الواحدة، والتفاخر بينها واعتداد كل بقبيلته أو قوّته أو عدد أبنائه المقاتلين إلى آخر مقوّمات الحياة في تلك الفترة. وحين جاءت بنية وعي خلاّق متمثلة في رسالة سماويّة تنادي بالارتقاء بالوعي وترك الطيش والنزق وسرعة الانفعال، تنادي بالتآخي والمساواة حيث لا فرق بين عربي ولا عجمي ولا أبيض على أسود إلاّ بالتقوى.. تنادي بنبذ التعصّب وعدم استباحة الآخر، وتحرّم قتل النفس التي حرّم الله إلاّ بالحق، وتدعو إلى عدم السخرية من الآخر بل معاونته. ولا تعتمد الإيمان إلاّ أذا أحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه ، تدعو إلى قيم الخير والعدل والمساواة إلى آخر القيم الإنسانيّة التي بثّها الوعي الجديد الخلاّق الذي يرفض استعباد الآخر " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" والذي يلغى الفوارق من لون ولغة وعرق ونسب وغنى وفقرأو عوز.
لم يمر صدر الإسلام حتى عادت بنية الوعي التناسلي من جديد ، وخشي العرب من أن يذوبوا في الأعراق الأخرى فالتمسوا لأنفسهم حماية ، فقعّدوا لغتهم باعتبارها لغة المقدّس، وسجّلوا أنسابهم وأنساب خيلهم وإبلهم إلى غير ذلك ممّا يحمله لنا التراث عبر تاريخ طويل .
تزايد التوجه العنصري للغة والأدب عندما عانى العرب طويلا منذ أن ذهبت ريحهم واستعمروا منذ عصر المماليك ثم الدولة العثمانيّة إلى الاستعمار الأوربي الذي نهب كل تراثهم المكتوب ليقوم بتحقيقه ودراسته.. تشبث العرب بعروبتهم مقاومين التتار والتتريك والفرنجة، وأسهم المستشرقون بدءا من كارل بروكلمان بتجديد معالم الأدب العربي، ما كان عربي العرق، وما كان عربيّ اللسان. وبعد بروز الوعي التاريخي كان تاريخ الأدب العربي لا يتبع المذاهب والأغراض بل يتأطر وفق العصور السياسية التى سيطرت فأدب ما قبل الإسلام ثم أدب صدر الإسلام ثم الأدب الأموي فالعباسي فعصر الدويلات والأندلسي، والحديث والمعاصر. هذا التقسيم السياسي للأدب يبرز مدى عوامل التغيّر التي تركها البيت الأموي والبيت العباسي ثم البيئة الأندلسيّة فالإيقاع الحديث والمعاصر في مجال الأدب ..
إننا نحصر المسألة الآن بين الأدب العربي والأدب الأفريقي، هل هما ثقافتان مختلفتان وبيئتان متغايرتان ولسان عربي مقابل ألسنة أفريقيّة وأجنبيّة. الأمر الذي برّر لعدد من الأفارقة والمستفرقين أن يستخدموا كلمة أفريقي مرادفة لكلمة زنجي أو أسود حيث يذهب المستفرق الألماني يان هاينزيان إلى أن الأدب الأفريقي وريث تراثين: الأدب الأفريقي التقليدي والأدب الغربي ويقول بأن أدب أفريقيا جاء من " منطقة التشابك بين ثلاث ثقافات هي الأفريقية والعربية الإسلامية والغربية. أما الأدب الذي جاء من المنطقة التي اشتبكت فيها الثقافتان الأفريقية والإسلامية فسأسميه الأدب الأفروعربي. وأما الأدب الأدب الذي جاء من المنطقة التي اشتبكت فيها الثقافتان الأفريقية والغربية فسأسميه الأدب الأفريقي الجديد أو المستحدث new- African "47 كما أخذ د.علي شلش بدراسة الأدب الأفريقي وفق مصطلح " الأدب الأفريقي خارج حزام اللغة العربية" أو "الأدب الأفريقي خارج مجال العربية"48 إلاّ أننا نرى في دائرة الفضاءات العالميّة للأدب يتحتم علينا أن نبحث عن خصائص بنية وعي سادت كامل القارة الأفريقية، ومن ثم صبغت كامل القارة بنفس السمات والخصائص بما يجعلنا نتحدث عن الأدب الأفريقي بكامله سواء في شمال الصحراء أو أدب الصحراء أو أدب جنوب الصحراء. فالتزايد السكاني الذي شكل حماية للبشر في هذه المنطقة من العالم من الفناء رغم التخلف والصراع مع الجهل والمرض، والصراع مع الطبيعة، والصراع مع المستعمر الذي جاء مستوطنا فاستعصت عليه ولكنه ترك شروخا ومارس عزلا ورسم حدودا ووجد البشر مهيّئن بحكم بنية الوعي التناسلي إلى بث الفرقة بينهم من خلال إثارة النعرات العرقية والقبليّة بينهم.
ما عاشه العرب في شمال الصحراء هو ذات المعاناة لجنوبها وإن كانت المعاناة لدى السود أكبر. لذا فما عاناه العرب ولا يزالون منذ فترات التجهيل والحروب الاستعمارية، جعلت كل منطقة تنشغل بهمومها وصراعاتها مع الغازي.
وكما لجأ العرب إلى جذورهم التاريخيّة يستمدّون منها بعض عناصر قوّتهم ونادوا بالقوميّة العربية ، وبعضهم نادى بالرابطة الإسلامية ، نادى السود بالقوميّة الزنجيّة ليستمدّوا منها بعض عناصر قوّتهم. الأمر الذي أعطى المستشرقين والمستفرقين التأكيد على عنصرية المصطلح، ففرّقوا بين الأدب العربي الذي ينتمي كما يقولون إلى ثقافة مختلفة مختلفة وعرق مختلف عن الأدب الأفريقي الذي ينتمي كذلك لثقافة مختلفة وعرق مختلف وألسنة متمايزة. هذا الأمر به كثير من المغالطة ، فإن كانت الثقافة الإسلاميّة فقد سادت بين شمال الصحراء وجنوبها، وإن كانت الأعراق فقد تمازجت ، وإن كان اللسان فإن اختلاف الألسنة في القارة الأوربية أو الآسيويّة لم يحل دون إطلاق المصطلح بشموله على مجمل آداب القارة
الثقافة وهويّة المصطلح:
بعد رفضنا للمصطلح الجغرافي الذي يجعل الصحراء الكبرى حاجزا أو عازلا بين منطقتين ثقافيّتين يطلق على إحداها الأدب العربي، وعلى الأخرى الأدب الأفريقي، وبعد رفضنا للمصطلح العرقي الذي يجعل أدب شمال الصحراء ينتمي إلى العرق العربي هو الأدب العربي، وأدب جنوب الصحراء الذي ينتمي إلى العرق الزنجي أو الأسود هو أدب القارة السوداء ،أو أدب السود أو أدب الزنوجة، أو حتى الأدب الأفريقي حاملا لهذا البعد العنصري. وبعد رفضنا كذلك لما ذهب إليه يان هاينزيان باعتبار الثقافة حدّا يميّز بين الأدب الأفريقي التقليدي والأدب الآفروعربي والأدب الآفروأوربي. وبعد رفضنا فوق ذلك كله ما ذهب إليه علي شلش من إطلاق مصطلح الأدب الأفريقي خارج حزام اللغة العربيّة، يتحتم علينا تأسيس علمي للمصطلح بحيث تتضح حدوده وتبرز هويّته بما يتواءم والآداب العالميّة التي تركز على أدب الفضاءات أو القارات رغم التنوع الثقافي والتعدّد اللغوي.
من أولى مقوّمات اعتماد المصطلح ليشمل كامل الفضاء الأفريقي هو أن نحدّد مفهوم الثقافة ، فقد أضحت المفاهيم تشكل الأهميّة الكبرى في تحديد المصطلحات، فمفهوم(دول العالم الثالث) مثلا يتحدّد وفق ثقافة التخلف أي العجز عن إنتاج علم وتكنولوجيا، وعن إبداع نهضة وتنوير وحداثة. أطلقه الغرب الصناعي، من تمركزه حول ذاته، وتحديد المصطلحات وفق رؤيته. فما هي الثقافة التي نحدّد في ضوئها ثقافة جنوب الصحراء وشمال الصحراء وثقافة الصحراء. فإذا كان الجانب الديني فالإسلام ينتشر جنوب الصحراء كما هو في شمالها، وإذا كان هو اللغة يكاد يكون متفق عليه أن اللغة ليست محدّدا أساسيا للثقافة، وإذا كان هو اللون أو العرق فتلك عنصريّة أبعد ما تكون عن تحديد مفهوم علمي للثقافة.
إن المسألة الثقافية اكتسبت أهميّة متزايدة في الآونة الأخيرة عالميّا ومحلّيا، ومفهومها يعتبر جديدا نسبيا حيث ترجع بداياته إلى القرن التاسع عشر، إلاّ أن التعريفات التي أوردها العلماء تفوق المائتي تعريف، وهذا يوضح لنا ثراء وأهمّية الثقافة في المجتمعات، وعلى الرغم من تعدّد التعريفات التي تناولت ماهيّة الثقافة إلاّ أنها تتفق في النهاية مع التعريف الذي أصبح شائعا عند الدارسين والباحثين وهو تعريف العالم الأنثروبولوجي الانجليزي(إدوارد تايلور1830ـ 1917) :حيث يحدّد الثقافة أو الحضارة بمعناها الإناسي الأوسع بأنهاهي ذلك الكل المركّب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات و القيم والعادات والتقاليد وطرائق التفكير، وأسلوب الحياة التي تسود مجتمعا من المجتمعات الإنسانيّة49.
كما يذهب عدد من الدارسين إلى العلاقة بين الثقافة والهويّة، حيث تعطي الثقافة المجموعة هويّتها وتميّزها عن المجموعات الأخرى" الثقافة هي مجموع الآداب والفنون والصناعات والحرف والعادات والتقاليد والممارسات والطقوس وفنون الأداء الحركيّة كالرقص والدراما وغيرها، والتي تميّز مجموعة من الناس ، والثقافة هي التي تعبّر عن الهويّة."50
ويذهب د. وليد مشوّح إلى أن الثقافة فاعليّة حيويّة تصنع الوعي بوصفها موقفا وفعلا، تأثيرا وتأثرا، استقبالا وإرسالا، وهذا ما يرشحها لأن تكون الأرضيّة الصلبة التي يقوم عليها بناء المجتمعات، كونها تتفاعل مع حيوات المجتمع بدءا وسيرورة ومنتهى، وعلى أساسها يقوم الحراك الفكري للإنسان كفرد داخل المجتمع وكفاعل في إبداع الحياة.51 والحقيقة أن هناك جدليّة بين الثقافة التي هي نتاج بنى الوعي(تراكب خطابات) وبين حراك بنى الوعي لدى الأفراد ومن ثم المجتمعات، حيث لا تستطيع بنية أن تزيح أخرى، لكن يمكن لها أن تستقطب من يحتاز ذات البنية في تلك المجتمعات.
وفي حين ذهب المستفرق الألماني يان هاينزيان إلى تقسيم أفريقيا ثقافيا إلى منطقتين شمال وجنوب الصحراء، ذهب آخرون إلى " أن محصلة التفاعل العرقي والثقافي والاقتصادي، شكل منذ مطلع القرن السادس عشر ثلاث مناطق جغرافيّة، الأولى وتشمل الشمال الأفريقي وتضم الجزء الشمالي من سودان وادي النيل، والتي غلبت عليها الثقافة العربية الإسلاميّة وصارت امتدادا للعالم العربي. والثانية تشمل منطقة السافنا أو بلاد السودان الوسطى والغربية وساحل أفريقيا الشرقي، وقد غلب الإسلام على أجزاء كبيرة منها مع تفاوت انتشار اللغة العربية. أما المنطقة الثالثة وهي باقي القارة التي لم تصلها المؤثرات العربية الإسلاميّة. ولذلك تحدث توينبي[*****]عن وجود إفريقيّتين: شمال وجنوب الصحراء. وقد قطع المشروع الاستعماري الغربي عمليّة التفاعل العفوي، لأنه قدم إلى المنطقة ولديه خطط اقتصاديّة وسياسيّة واضحة الأهداف والوسائل. ولم تتجدد العلاقات العربية الأفريقية إلاّ في القرن العشرين في معارك التحرّر الوطني حيث واجهتهم قضيّة مشتركة قرّبت بينهم ".52
إلاّ أننا نذهب مع التحليل الفاعلي لتحديد مفهوم أكثر دقّة للثقافة حيث يرى الشيخ محمد الشيخ53 إنها " جاهزيّة معرفيّة لأجل إنتاج الوسائل المادّية والقيم الروحيّة، أي أن الثقافة فاعليّة" وهو بذلك يدعو إلى نظريّة عامّة للثقافة من خلال ارتباطها بنظريّة في الفاعليّة وتركيب العقل، للخروج عن الفهم الهلامي الاستاتيكي للثقافة إلىمفهوم ديناميّ فاعل لها. يذهب هذا الربط إلى أن الإنسان يتحدّد وعيه لذاته بناء على بنية العقل التي يستدمجها أو يحتازها، فهو تناسلي إذا كان يعي ذاته كائنا (جنسيا) وظيفته ودوره في الحياة التناسل، من ثم يشكل التناسل والأسرة مرجعيّة نهائيّة لهذه البنية، وهو مادّي (برجوازي) إذا كان يعي ذاته من خلال هذه البنية التي يحتازها بوصفه كائنا مادّيا ، وظيفته ودوره في الحياة إنتاج واستحواذ الخيرات المادّية، لذا يشكل العمل واستحواذ الخيرات المادّية المرجعيّة النهائيّة لهذه البنية، وهو إنسان مبدع خلاق إذا احتاز هذه البنية التي يعي من خلالها ذاته بوصفه كائنا خلاقا نشطا وظيفته ودوره في الحياة الانتاج والإثراء الشامل للحياة. لذا فإن المحبّة والعدل والمساواة والعطاء الشامل تشكل المرجعيّة النهائيّة لهذه البنية.
كل فرد من أفراد المجتمع يحتاز البنيات الثلاث. لكن بناء على طبيعة الشروط والتحدّيات الاجتماعيّة والحضاريّة الكائنة تسود إحدى البنيات، تسود البنية الأنجع في تصدّيها لمجمل التحدّيات التي يواجهها المجتمع. إن سيادة بنية عقل بعينها لا يعني إلغاء البنيتين الأخريين، بقدر ما يعني قدرة البنية السائدة على توظيفهما لمهامها وأغراضها. لذا تتآزر البنيات حينما تفلح البنية السائدة في تقديم استجابة ناجعة. وتتنازع السيطرة حينما تفشل البنية السائدة في توفير الأمن والحماية لأفراد المجتمع. وحينما يستدمج فرد بنية بعينها لا يعني ذلك أنه يقبع في حضنها بصورة مطلقة. إن أهم سمة لبنيات العقل على صعيد الفرد وصعيد المجتمع هي حراكها.
وتركيب بنية العقل ـ وفق التحليل الفاعلي ـ يتمثل في أن كل بنية من بنى العقل(التناسليّة والمادّية والخلاّقة) تتكون من وجدان(جملة العواطف والمشاعر، والقدرة على الحب) وجنان (القدرة على الفهم والاستدلال والتحليل) وذات(وعي البنية لذاتها) غير أن هذه (البنيات) تختلف في وظائفها بناء على طبيعة المرجعيّة النهائيّة لكل بنية، فالبنية المغلقة (وجدان مغلق) إذا كان برنامجها للعطاء محدود يقصر عملية الحب والعطاء في دائرة ضيّقة تشمل الشخص وأسرته وربما عشيرته أو طائفته. وتكون بنية العقل مفتوحة إذا كان برنامجها للعطاء مفتوحا يحقق الإثراء الشامل للحياة. في هذا الإطار تعتبر كل من البنية التناسليّة والمادّية مغلقة، والبنية الوحيدة المفتوحة هي بنية العقل الخلاّق. ويخوّل انغلاق بنية العقل إقصاء واستغلال واضطهاد كل من هو خارج الحدود الجغرافيّة لبرامج عطاء البنية، ويتم ذلك عادة بحجة التفوّق الدينى أو العرقي، أو الحضاري.
ويذهب الشيخ محمد الشيخ في نظريته إلى أن منظومة القيم تتحدّد وفقا للمرجعيّة النهائيّة للبنية، وحسب انغلاق أو انفتاح الوجدان. لذا فإن منظومة القيم في البنية التناسليّة، منظومة تناسليّة تعمل على تكريس دور المرأة والرجل في التناسل، وتجعل من تكوين الأسرة غاية الحياة وليس وسيلتها. ورغم الأهمّية البالغة لهذه البنية ومنظومتها القيميّة التي حافظت على بقاء الحياة البشريّة وصيرورتها البيولوجيّة، إلاّ أنه يعاب عليها تدنّي الفاعليّة وذلك لكونها مغلقة. وكذا بالنسبة لمنظومة القيم المادّية التي تكرّس دور الإنسان في إنتاج واستحواذ الخيرات المادّية، فهي أيضا محدودة العطاء. والبية الوحيدة التي يمكن أن تجسّد قيم العدل والتسامح والعطاء الشامل هي بنية العقل الخلاّق لأنها كونيّة الوجدان. تحدّد كل بنية مفاهيم الشرف ، الكرامة، التنمية، معنى الحياة..الخ . فالشرف في مفهوم البنية التناسليّة هو شرف الأسرة(الشرف الجنسي)، وهو في مفهوم البنية المادّية شرف العمل والثروة، وهو في نظر بنية العقل الخلاّق شرف العدل والعطاء والتسامح. وربما كان في مقدور التناسلي إدراك أهمّية التنمية الاقتصاديّة أو الإبداع ولكن عادة ـ في أرض الواقع ـ لا يتوفر له الدافع لينخرط في مثل هذه المشاريع. وهكذا تتمايز منظومات القيم وتتمفصل وفقا لتمايز بنيات العقل.
أما الجنان فلا يعتمد في تصوّر تركيب بنية العقل على المنطق فقط ، بل يعتمد أيضا على مكوّن الدلالة في البنية الذي يحدّد المرجعيّة المعرفيّة (الأبستيمة) العاملة ومرجعيّة الفعاليّة السببيّة . بما أن المنطق لا يختلف من بنية عقل إلى أخرى ، فإن المرجعيّة المعرفيّة لكل بنية تتحدّد وفقا لمكوّن الدلالة الذي يختلف من بنية إلى أخرى، حسب مرجعيّتها النهائيّة. ولما كانت بنية العقل التناسلي متدنّية الفاعليّة(بنية وعي قصور) فإن مكوّنها الدلالي يقذف بمرجعية الفعالية السببيّة خارج الذات وخارج الكون، لذا فإن مرجعيّتها المعرفيّة وخطابها يكون ذا طبيعة خرافيّة وغيبيّة. هذا بينما تكون المرجعيّة المعرفيّة مادّية ، خارج الذات ولكنها ليست خارج الكون بالنسبة للبنية البرجوازيّة، وتكون المرجعيّة المعرفيّة هي الفاعليّة بالنسبة لبنية العقل الخلاّق.
أما وعي الإنسان لذاته فيتحدّد بناء على بنية العقل التي يستدمجها، فهو تناسلي إذا كانت البنية المستدمجة تناسليّة، ..الخ. يمنحنا هذا التوصيف الإحساس بأن العقل الخلاّق مغروس فينا جميعا، وأن سلّم الفاعليّة في داخلنا ، ولكننا نعيش بجزء يسير من فاعليّتنا.
بناء على هذا الطرح ـ الذي عمدنا إلى الإطالة فيه وإبرازه من خلال ما تقدّم ـ يقدّم الشيخ محمد الشيخ نظريّة عامّة للثقافة. منطلقا من أن البناء الاجتماعي هو نسق تنازر(تنازع أو تآزر) بنيات العقل تحت سيادة إحداهن. عندئذ تتحقّق الثقافة بوصفها جاهزيّة معرفيّة من خلال نسق تراكب المرجعيّات المعرفيّة والقيميّة، أي أن الثقافة هي نسق تراكب الخطاب التناسلي والمادّي والخلاّق. كل ثقافة أكان ذلك في الماضي أو الحاضر تتراكب من هذه الخطابات. هذا يعني تكافؤ جميع الثقافات، لا توجد أفضليّة لثقافة على أخرى من حيث التركيب. مع ذلك هناك ثقافات أكثر ديناميّة وفاعليّة، ويرجع السبب إلى طبيعة بنية العقل السائدة ومن ثم الخطاب السائد. عليه يمكن وصف الثقافة بأنها تناسليّة إذا كان يسودها الخطاب التناسلي، ومادّية إذا كان الخطاب مادّيا، وإنسيّة إذا سادها خطاب الفاعليّة. في ضوء هذا الفهم يمكن وصف كل من الثقافة العربية المعاصرة والثقافة الأفريقية المعاصرة بأنها ثقافة تناسليّة، بينما هو واضح أن الثقافة الغربية المعاصرة ثقافة مادّية.
في ضوء ذلك فإن الثقافة بمجمل القارة الأفريقيّة تنتمي لبنية واحدة ، تعرضت للاستباحة والهيمنة من بنية أخرى تمثلت في البنية الماديّة الغربية، شمال القارة أو جنوب الصحراء . أما الاستهانة بالعرق واستباحته فقد قام به ممثلوا البنية البرجوازيّة كما طرحنا ذلك في موضعه.
وسنستعرض كيف عملت البنية التناسليّة لخلق ثقافة متقاربة في كامل امتداد القارّة من خلال ترتيب العناصر المكوّنة لنتعرّف على المنظومة المعرفيّة التي سادت من خلال سمات وخصائص كل بنية من بنى الوعي لنصل إلى الخصوصيّة الثقافيّة التي تلتقي فيها كل شعوب القارة شمالها وجنوبها.
سمات وخصائص الثقافة التناسليّة:
• الجنس: يشكل أساسا هامّا في حركة هذه البنية من خلال اعتماده على توفير البشر كمّيا، ومن خلال كونه مصدر الكثير من القيم (العفّة، الخيانة، الأمانة، الشهوة، العيب الفضيحة العار، العصبيّة الثأر الخ ، حيث يلعب دورا أساسيا كمكوّن قيمي في المجتمع. وعادة ما تنمو وتتشكل(تسود) بنية بنية العقل التناسلي حينما يكون المجتمع متخلفا، وليس من وسيلة لدرء زيادة معدّل الوفيات إلاّ بزيادة معدّل المواليد، وحينما تكون القوّة العضليّة للرجال والنساء صماما للأمن الاجتماعي والغذائي.
وقد تعتمد الحرمان وفي بعض الأحايين الإباحيّة ولكن في كلتا الحالتين يكون الهدف الأساسي هو ضمان نجاح برامج عطائها وفاعليّتها المتمثلة في التناسل وحفظ النوع. فهناك من يحرّم العلاقات الجنسيّة للشباب وسيلة لدفعهم إلى مؤسسة الزواج ومن ثمّ الإنجاب كما هو في عدد كبير من المجتمعات الملتزمة دينيا، وهناك البعض ممّن يفتح الباب للشباب والشابات بممارسة الجنس قبل الزواج بهدف اكتشاف المرأة القابلة للحمل والإنجاب، ومن ثم يتسابق الشباب لخطبتها والزواج منها لتمارس الالتزام بعد ذلك، كما هو في بعض المجتمعات الوثنيّة واللادينيّة متمثّلة في بعض القبائل الأفريقيّة. وسواء مارست البنية الحرمان أو مارست الإباحيّة فإنها مجرّد وسائل لضمان تنفيذ برامج عطائها، وتوفير البشر كمّيا.
وبما أن أجل الحياة في جنوب الصحراء (باستثناء أفريقيا الجنوبية كما تشير الدراسات " يقل عن 49 عاما ، بل عن 45 عاما إذا ما أخذنا بعين الاعتبار مجموع الساحل الأفريقي وأنغولا والحبشة والصومال، وفي مقابل أجل الحياة هذا، الذي هو أقصر أجل للحياة في العالم، فإن النسبة الأفريقية للولادات(باستثناء أفريقيا الجنوبيّة أيضا ومصر) هي أعلى نسبة في العالم، إذ أن عدد ما تنجبه كل امرأة من الأولاد يتجاوز أحيانا الستّة ، بل السبعة ، وفي كينيا الثمانية."54
وعلى حين أن سائر القارات ـ كما يقول رينيه ديمون ـ شرعت تضبط بطريقة أو بأخرى تكاثر سكانها، فإن خبراء الأمم المتحدة يتوقعون أن يتجاوز تعداد سكان القارة الأفريقيّة في العام 2030 تعداد سكان آسيا الجنوبيّة (الصين واليابان والشرق الأقصى)، ولكن بدون أن تكون مساوية لها في أيّ صورة من الصور في طاقاتها الطبيعيّة والاقتصاديّة والتقنيّة. بل إن هؤلاء الخبراء يتوقعون أن يبلغ تعداد السكان الأفريقيين 2,6 مليار نسمة في العام 2100 مقابل 550 مليونا في عام 1985. 55 وفي موقع آخر من نقده يذهب ديمون إلى أن "مقام النساء في الأسرة مرهون (وعلى الأخص في نظر الرجال) بقدرتهن على إنجاب كثرة من الأولاد. وهذه بلا شك ، نتيجة تقاليد ثقافيّة[بنية ثقافيّة ناجمة
عن بنية الوعي السائدة بأن الفاعليّة التناسليّة هي الأنجع لتوفير البشر كمّيا] لن تتطوّر ما لم تطرأ انقلابات اجتماعيّة طويلة الأمد.56
مؤسسة الزواج:
تعد مؤسسة الزوج من أهم مشاريع الحياة إن لم يكن مشروعها الوحيد في البنية التناسليّة يصبح الهدف الأساس للشباب، أن يصلوا مرحلة يتمكنون فيها من الاقتران بشريكة الحياة لينصرف بعد ذلك كل شاب إلى توفير الغذاء لأبنائه الذين سيكبرون، ويمارسون نفس الدور. وكما يلاحظ الشيخ محمد الشيخ فإن في المجتمعات التناسليّة يعدّ يوم الفرح الوحيد في حياة المرء هو يوم الزواج وإن كان من يوم آخر فإنه يوم الختان57. ومن ثم فإن هذه المجتمعات تبيح تعدّد الزوجات لأن الهدف هو الإنجاب والتكاثر، وإن كانت محدودة بشروط وفق الفكر الديني إلاّ أنها مفتوحة مرتبطة بالمقدرة الجسديّة والمادّية للفرد.
والعادة في مجتمعات البانتو مثلا "أن يعزل الفتيان أثناء مراسم التكريس، ويخضعون لكثير من القيود والتحريمات القاسية، ويتعرّضون لأنواع مختلفة من التعذيب، كما يتلقون تدريبات خاصّة بقواعد الأخلاق السائدة في الجماعة، ويتعيّن على الفتى أن تتوفر له صفات معيّنة، منها القدرة على قهر الخوف الذي يمثل له في أقنعة الراقصين وأصوات مخيفة تنبعث من جهات غير متوقّعة، ومنها أيضا إظهار الصلابة البدنيّة وقوّة الاحتمال، فإذا تمّ له ذلك أمكنه البناء بزوجة. أما الذي لا يستطيع ذلك، فإنه يتعرّض للامتهان طول حياته. وينتقل الفتيان بعد ذلك إلى مرحلة جديدة هي مرحلة الختان، حيث يقوم الفتيان الذين نجحوا في تخطّي عقبات التكريس بالرقص بنشاط في حفلات الختان. ويعتبر الختان من أهم العناصر في الشعائر الجماعيّة، وتقام من أجله أنواع مختلفة من الرقصات."58
ويعتبر الختان في المجتمعات السواحليّة من شعائر الانتقال، تقام بمناسبته احتفالات ورقصات مختلفة، وله ثلاث مراحل: 1 ـ الختان 2 ـ العزلة أو الخلوة 3 ـ الخروج. في المرحلة الأولى يؤخذ الأطفال إلى كوخ التلقين، وهو عبارة عن كوخ بسيط بعد لهذه المناسبة، ويحاط بمساحة مسوّرة، ويدشنه كبير الملقنين Myakanga حيث يقوم بتعليق ودفن بعض الأحجبة فيه، ويقيم الصبية في الكوخ لمدّة ثلاثة أسابيع أو أكثر، ولا يسمح لهم بمقابلة النساء، ويتم تختينهم، وفي المرحلة الثانية يتولّى الملقّن ومساعدوه تلقينهم التعاليم الأخلاقيّة [تعاليم البنية السائدة] ، ويعلمونهم أيضا أغاني ورقصات التلقين، ويقدّم لهم طعام معد بطريقة معيّنة، وفي نهاية الفترة يطلق على كل منهم اسم معيّن، ثم يستحمّون في النهر أو البحر ويرتدون ملابس جديدة، ويكحّلون، وتدهن وجوههم بعصير الليمون وتخضّب أكفّهم وأقدامهم، ويحلّوا بالسلاسل الفضّية والأحجار، ثم يلفون بعباءات نسائيّة تمهيدا للخروج وهو المرحلة الأخيرة حيث يستقبلهم أقرباؤهم وأصدقاؤهم ويقدمون لهم الهدايا.[&] ونفس هذه الطقوس نجدها في عدد من المجتمعات الأفريقيّة مع بعض التعديل ، ففي السودان مثلا يتم أخذهم بعد الختان إلى النيل في فرح تؤمّه الأسرة وأصدقاء الأسرة مع الأغاني والزغاريد ، وهم مخضّبوا الأكف والأقدام ، ويتزيّنون بالجرتق ،مع عطور خاصّة. وعند العودة تقام الولائم والحفلات من رقص وغناء. بمعنى أن هذا اليوم لا يقل أهمّية عن يوم الزواج، ويعدّ مقدّمة واستعدادا له.
والزواج بالنسبة لكل المجتمعات الأفريقيّة ولمجتمعات البانتو على وجه التحديد " ليس استمتاعا فحسب، بقدر ما هو أداء لدور طبيعي في بناء المجتمع، ولهذا فإن هذه المجتمعات بعامّة تقوم على أسر، وليس للزواج سنّ محدّد، ... وتفرض بعض الاعتبارات الماليّة لتعويض والدي الزوجة، أو ليكون هذا ضمانا على أن الزوج سيقوم بالتزاماته نحو زوجته، ويكون هذا التعويض بأشياء مادّية كالماشية أو النقد، وهو في هذه الحالة يسمّى ثمن العروس [ المهر عند المسلمين ] أو يكون بالقيام بالعمل في الزراعة لوالدي الزوجة، قبل أو بعد الزوجيّة، ويسمّى هذا النوع " تعويضا " أو يكون نوعيّا بالمبادلة بالأخت أو الابنة أو إحدى القريبات. وهو ما يعرف ب "زواج المبادلة " وأحيانا تتبادل قريتان نساءهما [&&]... والقاعدة العامّة توجب اختيار الشريك من نفس العشيرة، أو من نفس المجموعة الجنسيّة، ولكن كثيرا من المجتمعات تمنع الزواج بالأقارب من طبقة الأم أو الأب حتى ولو من بعيد."59
ورجال الهتنتوت متعدّدوا الزوجات، والمرأة تعيش مبدئيا من الانتساب إلى حميّها، وتدبّر منزلها. وإطلاع الذكور والإناث من مواليد القبيلة على تقاليدها يتم بصورة فرديّة، .. وتعزل الابنة بعض الوقت، لأن مراسيم نضوجها الجنسي تقتضي تطويل الغدد الجنسيّة الخارجيّة، وهذا البروز في الغدد هو ما يسمّونه"مئزرالهوتانتو". وعند دخول الفتاة حياة المجتمع يجب أن تتمرّس بواجباتها اليوميّة على يد ربّة منزل تعلّمها جمع الحطب وقطف الثمار، وتمسك بيدها لتعلمها كيف تحلب الضرع، وأخيرا ترشها بالماء وتفركها بالوحل، والماء في هذا التقليد له قيمة المطهر.60
والصيغة الأقدم اعتمادا في الزواج لدى البيغمون أوأقزام الغابة الاستوائيّة، فيبدو أنها المبادلة القائمة على "رأس برأس" يعني أن طالب الزواج يعطي أخته ، أو إحدى قريباته، لجماعة الفتاة المطلوبة للزواج، ولا تتحمل هذه الأخيرة أيّ إفقار. وإذا حدث أن كانت إحدى هاتين الزوجتين المتبادلتين عاقرا، فيحق لزوجها أن يطالب بزوجة ثانية.. والانتساب إلى الأم الغريبة إلزامي عند النظرة إلى الجماعة.61
وقد علّل عمر فروخ، وذهب معه محمد عثمان علي وجود ظاهرة تعدد الزوجات في مجتمع ما قبل الإسلام عند العرب ،حيث الحروب التي كانت بين القبائل قد جعلت عدد الرجال في القبيلة الواحدة يقل عن عدد النساء.62
وفي مقدّمة شرح ديوان النقائض ذهب المحقّق محمد محمد حسين في إطار تعليله لظاهرة الوقوف على الأطلال ، إلى أنه كان في المجتمع الجاهلي ما أسماه بزواج الصديقة، وهو زواج تشترط فيه الزوجة أن تبقى مع قومها إن رحل قوم الزوج، أو ترحل مع قومها إن رحلوا وبقي قوم الزوج.63
وتقضي عادات وتقاليد الرشايدة ـ إحدى القبائل العربية في السودان ـ أن يتزوج الفتى بابنة عمه، ويشترط في ذلك أن يتم الوفاق بأن يتبادل المتزوجان أختيهما، أي أن يعطي كل واحد منهم أخته للآخر، ويقطع صداق كل واحدة منهما على حدة، وهي عادة من أهم عادات الزواج عندهم بحيث يصعب على الرشايدي الذي لا يملك بديلة أن يتزوج أي أنه إذا لم تكن له أخت يبادلها بها فإنه قد لا يتزوج.64
النظام الاجتماعي:
تعتمد البنية التناسليّة التراتبيّة الاجتماعيّة الصارمة ووتتحكّم في المجتمعات سياسيا واجتماعيا، حيث تبدأ من الأسرة النواة إلى الأسرة الممتدّة إلى البيت إلى العشيرة إلى القبيلة. ويسود التراحم والمحبّة بينهم لانتمائهم إلى شجرة واحدة، والرابط هو صلة الرحم. ولذلك يتفاخر الفرد كما تتفاخر القبيلة بالكثرة التي تشكل قوّة ومنعة. وكأن البنية تغرس فيهم هذه المحبّة للمزيد من الفاعليّة في حين أنها تعتمد ذلك كجانب تعويضي للفاقد من الحروب أو الجفاف والمجاعات أو الأمراض الفتّاكة أو الصراعات مع الطبيعة من زلازل وعواصف وفيضانات ..الخ.
وتؤسس هذه البنية لنظام من القيم الاجتماعية كتنسيق وتنميط للحركة ، وتحريك اجتماعي ، وتحديد سلوك، و"القيمة صفة ، مصدرها ترميز اجتماعي، بالذهن، عبر الحواس، للجسم الإنساني أو للواقع الاجتماعي أو الطبيعي... ونظام القيم الاجتماعي نظام معاني، لأنه نظام مفاهيم وسلوك منمط، وحركة مفهومة، يشعر الإنسان في المجتمع أن التزامه به أو ببعضه، التزام مفهوم المعنى في بيئته، التزام يحقق إرادته، كذات تتبادل الفهم في الحياة الاجتماعية وفق معاييرها."65 ويتميز نظام البنية التناسليّة والتي يدعوها عبد العزيز قباني ب"العصبيّة"بكونه نظاما سلطويا استبداديا. والصحة النفسية وعبرها الصحة الجسديّة مرتبطة بنظام القيم السائد،وينزع المرء فيها إلى السلطة بكل تراتبيّتها لأنها مصدر النفوذ والاحترام والهيبة والقيمة، ومجتمعها مبدّد للطاقة الإنسانيّة الخلاّقة، هادر لها بنزاعاته وخلافاته الداخليّة، ومشاحناته وعداواته الفئويّة التي دافعها الانتقام والثأر والنكاية والحسد والغيرة .66
وكنموذج لا يختلف كثيرا عن معظم الأنظمة الاجتماعيّة في أفريقيا ، نلقي نظرة على النظام الاجتماعي بين شعوب البانتو الذي يقوم " على أساس دقيق من النظام التدريجي، الذي يشمل الموتى والأحياء، فلكل مرتبته الخاصّة،وأعلى مراتب هذا النظام يختصّ بها الأسلاف العظام الذين أسسوا القبيلة، ثمّ يليهم في المرتبة من الموتى الجد الأعلى للأسرة، ثمّ ذرّيته حسب أسبقيّتهم في الوفاة، ويأتي بعد هؤلاء جماعة الأحياء على الترتيب التالي: أكبر الأسرة سنا، وهو رب الأسرة ورئيسها، وهو الواسطة بين الأموات والأحياء، ويتمتع بالقوى الحيويّة الإنسانيّة منها والطبيعيّة، ويقوم بجميع الشعائر الواجبة نحو الآباء ونحو ظواهر الطبيعة، إذ في قدرته أن يأمر السماء فينهمر المطر، وأن يبعث الحياة في الزرع، فينمو، ويمنح الخصب للمرأة العقيم، وهو المهيمن على الصحّة والنظام، ويليه في المرتبة الشيوخ، ويتمتّعون بالاحترام والتبجيل الذي يصل إلى حد كبير. وبعد هؤلاء الشيوخ تجيء طبقة الكهول من الرجال يليهم الأطفال، وهؤلاء مقسمون أيضا إلى طبقات سنّية[عمريّة] مختلفة . أمّا النساء فلهنّ وضع اجتماعي خاص بهم، وغالبا ما يتمتّعن باحترام وتبجيل.
وهذا الترتيب [ العمري]، يتشدّد الجميع في مراعاته، لدرجة أن مجرد حركة مخالفة، تعتبر في عرفهم إخلالا بحرمة الآباء والأسلاف، وانتهاكا لحرمة التقاليد القبليّة، ويقتضي غفرانها تقديم قربان أوذبح، كفارة عنه. ويتم الترقّي إلى الطبقات الأعلى إجباريا، وهذا الانتقال له أهمية خاصّة حيث تصحبه طقوس تكريس مختلفة.
وبالنسبة لنظام الحكومة، فيوجد زعيم لكل قبيلة، وقد توجد ألوان أخرى من الزعامات، مثل زعيم الزراعة، وزعيم الصيد وغير ذلك، وهي غالبا ما تكون زعامات وراثية، وفي المجتمعات الزراعيّة تحكم القرى بمجلس من كبار السن Wazee ، ويجتمع هؤلاء فيما يشبه مجلسا عائليا كبيرا...وقوانين البانتو جماعيّة بطبعها، فالأرض ملك لأفراد القبيلة كلها، والزراعة أيضا جماعيّة، ولكل أسرة قطعة من الأرض تزرعها وتكتسب بذلك من استغلالها فحسب، والنساء لا يرثن عند البانتو. ويرث المتوفى أقرباؤه حتى مع وجود أولاده. ونظام الحكم والولاء للحكومة قبلي بالدرجة الأولى لا تراعى فيه الحدود أو الأرض. والطبقة العليا يحكمها مجلس المحنّكين أو العقلاء، وهم يختارون أرشدهم وينصبونه شيخا للمجلس ، وقد تستمر هذه المشيخة في عائلة واحدة دون أن يعطي ذلك إحساسا أو شعورا بالنظام الملكي، ومعظم المشاكل تسوّى في هذا المجلس، وعلاقة السلطة بالمحكومين علاقة قبليّة أو عائليّة... والأسرة عند البانتو هي أكثر الأشكال الاجتماعيّة قدسيّة وهي الأسرة الممتدّة التي تشمل النسب جميعه من الجد إلى الأحفاد. وبعض الأسر أمويّة النسب بمعنى أن الأم فيها هي رئيسة الأسرة، وينسب الأطفال إليها.67
ولدى الهتنتوت فإن لكل قبيلة رئيسها وأماكن الاستقاء، ونطاق من الأرض معيّن، ثم إن كل قبيلة تتضمن عشائر أبوّة، وأخرى غريبة الأمومة(أي تكون الأم فيها غريبة) مع نظام قرابة مصنف، حيث كل عشيرة تحمل اسم جدّها الأول.وتسلسل السيادة ، بعضهم على البعض الآخر،يقوم على الأخذ بالأعمار في العلاقات الداخليّة، ورئيس القبيلة يعتبر دائما الأكبر سنّا.68
أثر عدم الإنجاب:
في مجتمعات البنية التناسليّة يعاقب اجتماعيا الرجل الذي لا ينجب بل لا يعدّ رجلا، والمرأة العاقر فلا يعتدّ بها لأنهما لم يسهما في تنفيذ برامج البنية، بل إن هذا العقاب يكون في كثير من الأحيان عقابا صادرا عن الذات المستدمجة للبنية، فالرجل العاقر يعتبر حياته بلا معنى، والمرأة العاقر تتمنى لو يحين أجلها كي تغادر هذه الحياة، ولا تستطيع مقابلة الأخريات أو الحديث معهن لأنها تعرف أن الحديث يدور حولها بألسنة حداد. والأحكام عموما التي تتعامل بها المجتمعات التناسلية تؤثر في حياة الذات العادية تأثيرا رادعا، دافعا لها إلى الالتزام بمضمون القيم ونظامها، خوفا على سمعتها واعتبارها، ومركزها، وعلاقاتها بالآخرين. من هنا تكون قيم العيب والعار من أشد القيم ردعا للذات. وخطورة هذه الأحكام ناتجة عن أن الذات المحكوم عليها تتعرّض لسلاح المعرّة والتشهير، فتقضي عليها.
ويندر في المجتمعات التناسليّة أن تعرف المرأة العنوسة من خلال تعدد الزوجات، وإن حدثت فإنها تشكل ضغطا نفسيا مرعبا خاصة أمام الكبت والحرمان ، وعدم التوازن النفسي والخلل السلوكي.
ولعل الكثير من القصص والحكايات الأفريقية تسلط الضوء على معاناة المرأة العاقر، لتصبح إحدى أهم المدخلات فتعيد البنية إنتاج نفسها، كما نلاحظ في "وهطل المطر"69 للكاتب الأفريقي الكيني(نجوجي واثينغو) وكيف كانت معاناة (نيوكابي)نتيجة عدم إنجابها وما شكل ذلك من أزمة خانقة وقاتلة كانت أكبر من قدرة احتمالها. وكما نلاحظها في عدد من الحكايات الشعبية لدى عدد من المجتمعات الأفريقية وبمختلف اللغات.70
قيمة الحب:
المحبّة قيمة مصدرها الحب ، ومساحتها الوجدان مجردا من الجنس، وموضوعها الإنسان كل إنسان من دون تمييز ولا تفريق. وفي مجتمعات البنية التناسلية التي تسكنها العصبية لا يعرف الحب إلا من زاوية الاشتهاء المقرون بالتملك .فيتوهم الإنسان في هذه المجتمعات أنه يحب بينما هو يشتهي . لذا فإن هذه البنية لا تعترف بالحب إلا الذي يؤدي إلى زواج." والاشتهاء مؤقت، قصير الأجل، يتبدد غالبا بمجرد أن يقضي الرجل وطره من المرأة، عندها يفكر في البحث عن سواها ظنا منه أن حبه لها قد فتر، وعاطفته قد أخذها البرود، وهو غير دار أن شهوته قد نفست عما فيها من احتقان جنسي."71 وهذا ما يفسر سلوك المرأة في مجتمعات البنية التناسلية ، وكيف يشغلها كثيرا اهتمامها الزائد بنفسها، ولا سيما حيث يباح تعدد الزوجات. ويفسر لنا كذلك ارتفاع تكاليف الزواج ، وغلاء المهور أو الزواج بالتبادل، لضمان استمرارية البناء الأسري والإسهام في تنفيذ مهام وأغراض البنية المتمثلة في التناسل.
المرجعيّة السببية والاعتماد على الغيبيّات:
باستقراء نشأة وتشكل هذه البنية التناسليّة وسيادتها تاريخيا نجدها تعتمد في تفسيرها للظواهر الطبيعية على الميتافيزيقا، وتحتمي بها على أساس أنها أمور خارجة عن الجاهزيّة والمقدرة المعرفيّة لها، ومن ثم ظهرت الأساطير التي مكنتها من ربط الأسباب بالمسببات الغيبية متمثلة أحيانا في إله أو مجموعة آلهة، وأحيانا أخرى في أهل الخافيات من جن وشياطين أو غير ذلك، وكثيرا ما لجأت إلى السحر والشعوذة.
المجتمعات الأفريقية والعربية لم تخرج عن ذلك فالأصنام التي كانت تعبد في الجاهليّة من هبل واللآت والعزّى ومناة وغيرها حتى أضحى لكل قبيلة صنمها تتقرب به إلى الله وتعبده من دونه ، وحتى انتشار الأضرحة والبيانات للأولياء والصالحين وزيارتهم وتناقل كراماتهم الخارقة بعد الإسلام هو ذات الذي انتشر في كامل المجتمع الأفريقي، فما من قبيلة أو مجتمع إلاّ وله إله يجعلونه السبب في كل الوجود وفي دوره في حركة مظاهر هذا الوجود من ظواهر طبيعيّة لم يسعفهم التفكير والعلم والمعرفة إلى قراءتها علميا وتفسيرها منطقيا.
فالهتنتوت يعرفون إله السماء، ويسمونه Tsui Goabتسي غواب ، يأمر العاصفة والأمطار المخصبة. ومواصفات الجد الأعلى يحكمون فيها الشخصيّة الثانية في الميثولوجيا ـ أساطير الآلهة، وهي Heitse Eibibهيتسي إيبيب . وهذا ما يعرفه البوشمان بحامي الصيّادين ومخصب المراعي، وأينما سرت في تلك البلاد تقف أمام حجارة موزّعة على أماكن كثيرة في طول البلاد وعرضها، يزعمونها قبرا لهذه الشخصيّة الميثولوجيّة. وللقمر عندهم نوع من العبادة، فهو على حد ما ورد في الأسطورة ذو علاقة أصيلة بنهاية الأعمار.72 وهو ذات الأمر الذي كان الكهنة يقومون به في مملكة نبته قديما ، حيث يتحكمون في مصير الحكام ، فإذا ما مسّ النجم القمر، ذلك يعني إيذانا بهلاك الملك وتنصيب ملك جديد.
ولدى البيغمون يقول المرسلون من مدرسة الأب شميت Schmidt بوجود نوع من التوحيد القديم. فالبامبوتيون يقدمون يقدمون بواكير صيدهم وثمارهم إلى الله، الذي يدعونه الأب أو الجد، مرقين التقدمة بصيغة طقس ديني. وفوق هذا يعتقدون أن هذا الإله هو سيّد الطرائد، وصاحب السماء ، وآمر العواصف.73
ومصر الفرعونية كانت تقدم أجمل فتاة قربانا إلى النيل من أجل أن يفيض ويعم الخير، والشلك والدينكا من القبائل النيليّة، والرئيس في عشيرة دينكيّة والسيد الشلوكي كلاهما ملك مؤله له صفة الكاهن وسلطة المشترع وكلمة القاضي الأعلى، وكلاهما كما يزعمون يأمر عناصر الطبيعة، وله سلطة مراقبة الأمطار، إذن هما قادران على اجتناب الجفاف الذي إذا طال يتلف المراعي. وملك الشلك يتقمص روح البطل المؤسس نيينكان، الذي اختفى في عاصفة. والملك الشلكي لا يمكن أن يكون مريضا، لأنه يمثل صحة البلاد المستمدّة من نيينكان ، ولئلاّ تصبح هذه الصحة العامة في خطر يخنقونه عند أوّل دلالة من دلائل الضعف تبدو عليه 74
إن العديد من الحكايات الشعبية تدعمها الأساطير تعجّ بالغيبيات ، بل ويذهب بهم الأمر إلى التوحد مع الطبيعة ومخاطبة الحيوان والنبات والجماد ممّا أبرز لنا الخيال الشعبي لدى هذه المجتمعات ومدى توظيفه للتعليل والتفسير لمظاهر الوجود. وحتى بعد أن جاءت الرسالة السماويّة (الإسلام) تدعو إلى قيم بنية الوعي الخلاق من محبة وسلام وعدل ومساواة ، سريعا ما عادت البنية التناسليّة لتوظيف هذا الخطاب بما فيه من قيم لصالحها حيث أخضعت من حيث القراءة النص القرآني لتفسيرها وتحليلها. إنها تخضعه لقيمها وتستوعبه وفق جاهزيّتها المعرفيّة. وإذا تعارض النص الديني مع العرف السائد أو نظام التنميط الذي حدّدته البنية التناسليّة، فإن المجتمع يأخذ بالعرف والتقاليد ، لأن البنية أقوى وأسبق من أيّ خطاب يجعلها تتخلّى بسهولة أمام أيّ متمرد عليها أو ثائر.
الماضويّة وتقديس الأسلاف:
جزء أساسيّ من الثقافة العربية الأفريقيّة هو هذه الماضويّة التي تشكل مرتكزا، وتسهم في إعادة إنتاج البنية، فالتراث يصل حدّ التقديس رغم تراكم خطاباته واختلافها كونها نتاج حقب متعدّدة وبنى مختلفة، يتم الاحتماء به، والتغنّي به، فلا تتم محاكمته أو مساءلته، وأيّ تغيّر يتم التعامل معه بحذر، وتعتبر الحداثة انحلالا عن القيم والثوابت. المجتمعات العربية كانت تبكي في القديم على الأطلال، ورفضت الانخراط في القيم الجديدة التي جاء بها الإسلام(هذا ما وجدنا عليه آباءنا) والبكائيات الأندلسية، والتغنّي بالحضارة العربية القديمة، والافتخار بالمنجزات السابقة، كل ذلك يشكل جزءا أساسيا من الهويّة لارتباطها بالأنساب والأرحام والأصول.
وذات السمة تتسم بها المجتمعات الأفريقيّة، حيث يشكل الأسلاف امتدادا طبيعيّا ، ويمنحونهم نوعا من القداسة. وقد رأينا كيف أن الشعوب الأفريقيّة يقوم نظامه الاجتماعي على أساس دقيق من النظام التدريجي الذي يشمل الموتى والأحياء ، فلكل مرتبته الخاصّة، وأعلى مراتب هذا النظام يختص بها الأسلاف العظام الذين أسسوا القبيلة، ثم يليهم في المرتبة من الموتى الجد الأعلى للأسرة ، ثم أسبقيتهم في الوفاة، ويأتي بعد هؤلاء جماعة الأحياء على الترتيب.
العصبيـــــة:
تشكل العصبيّة بنية المجتمع العربي ، وهي ذاتها بنية المجتمعات الأفريقيّة، حيث تشكل مركزيتها العرقيّة أساس وجودها، وتعتقد أن الجماعة التي تنتمي إليها هي مركز الأشياء كلّها، والآخر يقاس بها، فتغذّي كل جماعة كبرياءها وغرورها زاعمة أنها الأفضل وأنها تمتلك الحقيقة، ومن ثم تستبيح الآخر. ففي القديم كان شعار القبائل العربية:
ونشرب إن وردنا الماء صفوا ويشرب غيرنا كدرا وطينا
وحديثا الحرب الأهلية في لبنان المرتكزة على الطائفيّة، وفي المجتمعات الأفريقيّة تظلّ أحداث التوتسى والهوتو وصمة عار في جبين العصر. وحتى العالم اليوناني ـ الروماني القديم كان يصف كل من لا ينتمي إلى الثقافة اليونانيّة ـ الرومانيّة بالبرابرة. ثم استخدمت أوربا الغربية عبارة (المتوحش) لاستبعاد كل من لا ينتمي إلى الحضارة الغربية.
فالعرقية المركزيّة (العصبيّة) أو البنية التناسليّة تكتسي أشكالا مفرطة في عدم التسامح الثقافي والديني وحتى السياسي. ومن ذلك يتشكل الصراع.
الادّعاء بامتلاك الحقيقة وممارسة النبذ والإقصاء واستباحة الآخر:
تمارس البنية التناسليّة وكذا البرجوازيّة ذات الدور في الاستبداد وادعاء امتلاك الحقيقة، كما تمارس النبذ والإقصاء للآخر وتستبيحه بحجة التفوّق العرقي أو المادّي . فنظرة التفوّق والاستعلاء تجعل الفرد يعتقد بأنه هو الأفضل وعليه دور ينبغي أن يؤديه ، فيتمحور حول نفسه وتتضخم (الأنا) التي تلوّث العلائق القائمة بينه وبين الآخر، في ضوء ذلك يمكن قراءة كل الصراعات الدمويّة القبلية أو الدينيّة أو الاستعماريّة التي واجهتها شعوب القارة داخليا وخارجيا.
الهويّة ذاتيّة الانتماء وفق المحدّدات التاريخيّة والعرقيّة واللغويّة والدينيّة والجهويّة:
مفهوم الهويّة لدى هذه البنية(التناسليّة) يعتمد على مفهوم الذات حيث ينبثق من النسق أو النواة التوليديّة للوعي التي تحدّد فكرة الإنسان عن نفسه ومنحى استجابته وتفاعله مع العالم. وبذا يجعل مفهوم الذات جزءا لا يتجزأ من بنية العقل. ومن ثم تصبح الذات بمفاهيمها الإقصائية للآخر المرتكز لتحديد مفهوم الهويّة.
فالذا المنبثقة إلى هذا الوجود من خلال رحم الأم تظل أكثر التصاقا بمحدّدات الانتمائيّة الماضويّة باعتبارها هي التي شكلته، ومن ثم لابد من أن يشكل هذا امتدادا للسلف بلغاتهم ومعتقداتهم وثقافتهم، ولهذا فإن كل من ينتمي لهذه البنية يدافع عن ذاته وعن هويته التي حددها الأسلاف ونصّروه أو هوّدوه أو مجّسوه،أبعدوه عن الفطرة التي ولد عليها. كما تترسخ هويته في العرق واللون والدين واللغة والثقافة..الخ . كما يصبح دفاعه عن الهويّة هو دفاع عن الذات التي حدّدها وعيه عن نفسه القائم على إقصاء الآخر.
التخلف وثقافة الاستهلاك:
تتسم هذه البنية بحبها من زينة الحياة للبنين. أما المال فتتسم البنية البرجوازيّة بحبّه والعمل على اكتناز الثروة. حتى في طبيعة نشأة وتشكل البنية التناسليّة واضح أنها عملت على سياسة التعويض عن الفاقد من الأبناء الذين يلتهمهم الموت عن طريق الأمراض والأوبئة والكوارث الطبيعيّة والحروب إلى غير ذلك مما يشكل تخلّفا لم يتم حسمه بفعل تقدّم فكري وابتكار علاج ناجع لمقاومة الموت واطالة عمر الأنسان، إضافة إلى ارتهانها لمرجعيّتها السببيّة التي هي خارج الذات وخارج الكون، لم يدفعها ذلك إلى انتاج الأدوية والأمصال لمجابهة الأمراض ولا أجهزة التنبؤ والإنذار لمعرفة الكوارث الطبيعيّة وتلافي نتائجها الكارثيّة قبل وقوعها، ولا ابتكار العتاد الحربي الذي يمكنهم من صد أي عدوان أو مطمع فيهم.
وحتى بعد أن لجأت البنية البرجوازيّة إلى تسخير العلم والمعرفة للابتكارات والاختراعات والاكتشافات العلميّة ظلت مجتمعات البنية التناسليّة بمجملها تحت طائلة التخلف، صحيح أنها لجأت إلى تصميم المدن التي اكتظت بالبشر ولكن سادت فيها ثقافة الاستهلاك لمنتجات البنية البرجوازيّة.
مفاهيم ودلالات القيم:
تحدّد كل بنية مفهومها الخاص بالقيم حيث نجد البنية التناسليّة توظف دلالة المفردة لصالحها كاستخدام مفردة"الشرف" فرغم تمدّد دلالتها واتساع ظلالها حول عدد من المجالات، كشرف العمل، أو شرف الوطن أو شرف المهنة..الخ، إلاّ أن المساحة الأكبر من دلالة المفردة تمنحها البنية لشرف الأسرة.. ومن ثم تتراكب مفردات العيب والخطيئة والخيانة والثأر... الخ.
وكدلالة مفردة التنمية ففي حين تنظر إليها البنية التناسليّة على أساس زيادة النسل، ينظر إليها على أساس زيادة الثروة في البنية البرجوازية، وعلى أنها زيادة الفاعليّة في البنية الخلاقة.
هذا إضافة إلى:
العنصريّة عرقا ،لونا، لغة، دينا، أرضا، وثقافة.
والنزق وسرعة الانفعال.
وتبخيس البعد الجسدي باعتباره فان ونجس:
كما أنها لا تحب المغامرة والمجازفة والمبادأة



10ـ الادعاء بامتلاك الحقيقة. ......الادعاء بامتلاك الحقيقة، وتوظيف منجزات العلم لصالحها. .....لا تتعصّب إلى ما تعتقده، ولا تدّعي امتلاك الحقيقة،بل تسعى إلى تطوير معرفتها.

11ـ ممارسة النبذ والإقصاء واستباحة الآخر(الاستبداد). .....ممارسة النبذ والإقصاء واستباحة الآخر(الاستبداد).... لا تمارس النبذ والإقصاء ولا تؤمن بالعنف والإرهاب ولا تستبيح الآخر بل تصدّر الحبّ للجميع.

12ـ الهويّة ذاتيّة الانتماء وفق المحددات التاريخيّة والعرقيّة واللغويّة والجهوية والدينية....... الهويّة ذاتيّة الانتماء ولكنها وفق المحدّدات الفكريّة والاقتصاديّة والثقافيّة...... تعمل على خلق الهويّة الكونيّة من خلال الوعي بالذات الذي تحدّده البنية.
13ـ التخلف وثقافة الاستهلاك........ التقدّم التقني والتكنولوجي وسيادة ثقافة الإنتاج والتسويق. .....تسعى إلى الخروج من دائرة التخلف وثقافة الاستهلاك، وتسعى إلى الإنتاج والتقدّم التقني والتكنولوجي لتسخيره لمصلحة الإنسانيّة.
14ـ محدوديّة الدلالة لمفاهيم القيم،الشرف،التنمية،الخير...... توظيف الدلالة لمفاهيم القيم،الشرف،التنمية،الخير. ..........تمنح القيم مفاهيمها ودلالاتها بأبعادها المختلفة.
15ـ العنصريّة عرقا،لونا، لغة،دينا،ثقافة. .......العنصريّة إلى المصلحة المادية. .......لا تمارس أيّ لون من ألوان العنصريّة.
16.......ـ تقلل من قيمة البعد الجسدي باعتباره فان ونجس.
تهتم بالجســد وتعتني به وتوظفه من خلال التشكيلات الفنيّة والرياضيّة......... توازن بين أبعاد الإنسان الثلاثة الوجدان والجنان والجسد، بحيث لا يجور أحدهما على الآخر.
17ـ تخشى المجازفة والمغامرة والمبادأة........ تحب المغامرة والمجازفة لاستكشاف ثروات وإمكانات الكون وخيراته المادية، بدافعيّة المصلحة........ تحب المغامرة والمجازفة وتمتلك روح المبادأة، والتضحية بدافعيّة المعرفة.
انطلاقا من فاعلية الإنسان وبنى العقل التي يعي الإنسان ذاته من خلالها فإن الثقافة في أي مجتمع هي تراكب خطابات البنى الثلاث، وعلى مدى الحقب التاريخيّة. فالثقافة باعتبارها فاعليّة أي جاهزيّة معرفيّة لأجل إنتاج الوسائل المادية والقيم الروحيّة ترتبط ارتباطا وثيقا بفاعليّة الإنسان.
وإذا ما توصلنا إلى أن البناء الاجتماعي هو نسق تنازر(تنازع أو تآزر) بنيات العقل تحت سيادة إحداهنّ ، توصلنا إلى تحقق الثقافة بوصفها جاهزيّة معرفيّة من خلال نسق تراكب المرجعيّات المعرفيّة والقيميّة، أي أن الثقافة هي نسق تراكب الخطاب التناسلي والمادي والخلاّق،وكل ثقافة سواء أكان ذلك في الماضي أو الحاضر تتراكب من هذه الخطابات ، وهذا يعني تكافؤ جميع الثقافات لا توجد أفضليّة لثقافة على أخرى من حيث التركيب. ومع ذلك فهناك ثقافات أكثر ديناميّة وفاعليّة، ويرجع ذلك وفق رؤية التحليل الفاعلي إلى طبيعة بنية العقل السائدة ومن ثم الخطاب السائد.
عليه يمكن وصف الثقافة بأنها تناسليّة إذا كان يسودها الخطاب التناسلي، وأنها مادّية إذا كان الخطاب مادّيا وإنسيّة كونيّة إذا سادها خطاب الفاعليّة. وبذا يمكن وصف كل من الثقافة العربية المعاصرة والثقافة الأفريقية المعاصرة بأنها ثقافة تناسلية، بينما هو واضح أن الثقافة الغربية المعاصرة ثقافة مادّية
ومن ثم فإننا لا نستطيع الفصل بين ثقافة عربية إسلاميّة شمال القارة وثقافة إفريقية جنوب القارة . بل نستطيع أن نؤسس مفهوم مصطلح الأدب الأفريقي وإبراز هويّته ليصبح شاملا لفضاء القارة أسوة ببقية الفضاءات العالميّة، فكامل السمات والخصائص لبنى الوعي في هذا النسيج الأفريقي تتوافق، مما يذهب بنا إلى القول بأن الثقافة الأفريقية ثقافة تناسليّة، مع علمنا بأن بنية الوعي البرجوازي والبنية الخلاقة تعملان فيها وتشقان طريقهما، وبالطبع يقدر التناسلي أو البرجوازي أهمية منظومة القيم الخلاّقة، ولكن عند الممارسة العمليّة لن يجد التناسلي أو المادّي الفاعليّة التي تمكنه من تجسيد هذه المعاني، لأن هذه المنظومة كونيّة وهي بالضرورة تحتاج إلى وجدان كوني. إلا أن السائد من خلال عرضنا للخصائص والسمات يحدد لون هذه الثقافة، ومن ثم يحدد لنا المصطلح ويمنحه هويّته ومشروعيّته.
هذا لا يعني أن ليس هناك من خصوصيات ثقافية بيئيّة تنفرد بها مجتمعات متعددة في إطار التعدد والتنوّع البيئي والاجتماعي والثقافي للقارة الواحدة، ولكنها بمجملها تندرج في ثقافة هذا الفضاء بتنوعها ومكوناتها وعناصرها وأعراقها ولغاتها ودياناتها وبيئاتها المختلفة.
إن نتاج الثقافة يبدأ من الفرد بطقوسه وثقافته وبنية وعيه، ثم بالجماعة بعرقها ولغتها وعاداتها وتقاليدها وأعرافها، ثم بالمجاميع التي تشكلها البيئة، سواء شمال الصحراء أو الصحراء أو جنوب الصحراء. الثقافة الأفريقية ومن ثم الهويّة الأفريقية والأدب الأفريقي، كل ذلك يتشكل من نسيج متداخل من العلاقات المجتمعيّة التي تستند في إطارها العام إلى البنية التناسليّة مع وجود خطابات أخرى للبنية البرجوازيّة والخلاقة عبر المعاصرة وعبر الحقب التاريخيّة إلا أن السائد هو ما يصبغ هذا الأدب وهذه الثقافة.
ويصبح على الأدباء والمبدعين والمفكرين الأفارقة عربا أو هوسا أو سواحيلي أو غير ذلك من أن يفعّلوا هذه الثقافة ويحتموا بالهوية الكونية ، وثقافة بنية الوعي الخلاق، حتى يقدموا للعالم أنموذجا متساميا كونيا، وإبداعا خلاقا يعوّض كل عهود التبعيّة والقهر الذي مارسته بنى وعي القصور عليهم.

هوامش:
[*]منهج التحليل الفاعلي الذي نستخدمه في هذه الدراسة هو المنهج المتجاوز لشتات المناهج الحديثة والمعاصرة كما نرى بفتح أفق الفاعلية وبنيات العقل وفضاءات هذه البنيات. ويعتبر من أحدث المناهج النقدية المعاصرة، مرتكزا إلى نظرية في الأدب التي اقترحها (صاحب التحليل الفاعلي .. نحو نظرية حول الإنسان .) الشيخ محمد الشيخ. وتتمثل خلاصة هذه المرتكزات في: 1 ـ الرؤية الفلسفيّة: حيث يؤدّي وعي الفاعليّة وتجاوز البدهيّة اللامفكر فيها إلى فتح أفق معرفي جديد، يتأسس انطلاقا من تتاميّة المادّي والمثالي، هو فضاء الفاعليّة. 2 ــالهويّة الإبداعيّة للنص الأدبي: الذي ينتمي إلى فضاء الفاعليّة التخيّلي، وبذا يكون النص الأدبي مستقلا عن الواقع بحكم استقلال الفضاء التخيّلي، ومرتبط بالواقع بحكم أن الفضاءين فضاءان للفاعليّة. حيث ينشأ النص الأدبي من أن النظام اللغوي الداخلي للنص الأدبي هو في نفس الوقت نظام لعلاقات الفاعليّة، وهذا يعني أن النص الأدبي ليس مجرد لغة إنما هو = لغة + (فاعليّة).. وهويّة هذا النص تنشأ بوصفها ناتج علاقة الاستخدام الفنّي للغة وعلاقات الفاعليّة، بمعنى آخر تعرّف هويّة النص الأدبي بأنها: الصياغة الفنّية لعلاقات الفاعليّة على النحو الذي يفجّر فاعليّة النص فيصبح فضاء تنوّع واختلاف. 3 ــ الهويّة الإبداعيّة للمؤلف: أن الأديب أو الفنّان المبدع هو شخص احتاز بنية وعي خلاق ، ومن ثمّ يتحقق من خلال آليّة نمو الفاعليّة: الانفلات من بنية العقل السائدة بمشروع للعطاء الشامل والدفاع عن المشروع. 4 ــ الهويّة الإبداعيّة للقارئ: يزوّد التحليل الفاعلي القارئ بالمنهجيّة التي تساعد القارئ في تفجير فاعليّة النص [أنظر : الشيخ محمد الشيخ، التحليل الفاعلي نحو نظريّة حول الإنسان ، ط 1 ، مركز الدراسات السودانيّة، القاهرة ، 2000 م والتحليل الفاعلي والأدب .. الشيخ محمد الشيخ تحت الطبع .. والنص الأدبي .. الاستلاب والفاعليّة ، عبد الرؤوف بابكر السيد ، تحت الطبع ..] .
(1)ادريس الناقوري، المصطلح النقدي في نقد الشعر، المنشأة العامة للنشر، ط2 ،1984 ،ص9
(2) مصطفى ناصف، النقد العربي، نحو نظريّة ثانية، عالم المعرفة، 255، مارس 2000، ص11.
(3) علي شلش، الأدب الأفريقي،ص 13
(4) المرجع السابق نفسه.
5) رجب نصير الأبيض، مدينة مرزق وتجارة القوافل الصحراويّة خلال القرن التاسع عشر، مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخيّة،ط1 1998،ص244 .
(6)علي شلش، الأدب الأفريقي،ص13 ، وانظر Moor Gerald .Seven African Writers> London:oxford University Press 1963.P.31
(7) المرجع السابق، ص 14. نقلا عن Mphalele, The African Image P.20
8) المرجع السابق نفسه. نقلا عن Jahn , Neo- African Lit.,pp. 19-20.
(9 ) Jemie Chinweu Etal, Toards The Decolonisation of Africn Literatar , Enugu, Fourth Dimension Publishers,1980,P.10
(10) خالد محمد الحسن، الأدب الأفريقي ومعركة الهويّة( تحت الطبع) نقلا عن Ibid .P.H – 12. (2) علي شلش ، الأدب الأفريقي ص15 ـ 16 .
(11) المرجع السابق، ص 16 .
(12) المرجع السابق نفسه.
(13) محي الدين صابر، العرب وأفريقيا، ص 15 . وقد أوضح في هامش النص نقلا عن محمد فائق، عبد الناصر وأفريقيا. أن الزعيم العربي هو: الرئيس جمال عبد الناصر، وكان الرئيس أحمد سيكوتوري، اقترح إفراد اللغة العربية والنص عليها، إشادة بالدور العربي في نضال الشعوب الأفريقية وفي نشاط المنظّمة.
(14)علي شلش ، الأدب الأفريقي، ص 9 .
(15) المرجع السابق، ص 18 . نقلا عن Ibid.,pp. 5-6
(16 المرجع السابق، ص 18 – 19 . نقلا عن Jahn,op.cit,p.268
(17)معمّر القذّافي، الكتاب الأخضر، ص 177 ـ 178 .
(18) ف.و. نايت، الشتات الأفريقي، تاريخ أفريقيا العام، المجلد السادس، القرن التاسع عشر في أفريقيا حتى ثمانينيّاته، اليونسكو، ط2، 1997، ص 846 .
(19) المصدر السابق ص 842 ــ 846 .
(20) المصدر السابق ، ص 840 .
(21) المصدر السابق، ص 850 ـ 851 ، وقد أخذت أعداد السكان الوارد ذكرها بعد جبرها وتعديلها في بعض الحالات من عدد من المراجع التي أحال إليها نايت في هامش الصفحة 851 .
[**] منعت الدانمارك تجارة العبيد عام 1792 بعد مهلة عشر سنوات حيث تم إلغاؤها في 1/1/1803 ، وبريطانيا بمرسوم ملكي في 23/5/1806 ، والولايات المتحدة مرسوم منع استيراد العبيد ابتداء من 1/1/1807، ومرسوم إلغاء ومنع معزّز في 1/5/1807، وفي 19/2/1810 المعاهدة الانجليزيّة ــ البرتغالية للتجارة والتحالف حيث تشير المادة العاشرة إلى إلغاء تدريجي لتجارة العبيد، وفي 1814 هولندا تلغي تجارة العبيد ، وفي 21 و22/1/1815 اتفاقية ومعاهدة إنجليزيّة ــ برتغالية بخصوص الإلغاء الجزئي لتجارة العبيد (شمال خط الاستواء) أقرّتا وعمّمتا في 26/7/1815.. وفي 8/2/1815 إعلان قوى مؤتمر فينا. بريطانيا، فرنسا، النمسا، روسيا، بروسيا، السويد والبرتغال تلتزم بإلغاء تجارة العبيد.وفي 8/1/ 1817 فرنسا تصدر أمرا ملكيا يمنع تجارة العبيد، وفي 1817 غتفاقية انجليزية ــ برتغالية بالخصوص وفي 23/ 9/ 1917 مذكرة من ملك اسبانيا واتفاقية انجليزيّة ــ اسبانيّة تقضي بإلغاء تجارة العبيد في الممتلكات الإسبانية في 30/5/1820، وفي 15/4/ 1818 أول قانون فرنسي لإلغاء تجارة العبيد وفي 20/4/ 1818 الولايلت المتحدة ، ومرسوم متمّم لمرسوم إلغاء 1807. في 9/ 6/ 1818 فرنسا تقوم بحملة لمنع تجارة العبيد على الساحل الأفريقي.، ومن 1818 وحتى 1820 اتخذت هولندا تدابير لردع تجارة العبيد والولايات المتحدة تقوم بحملة لمنعها ولجنة انجليزية هولندية مشتركة في سيراليون واعتبار هذه التجارة قرصنة في الولايات المتحدة وفي 1827 القانون الفرنسي الثاني لإلغاء تجارة العبيد وفي 1831 القانون الفرنسي الثالث بنص العقوبات وفي 1833 الاتفاقية الفرنسية الانجليزية الثانية ، وفي نفس العام مرسوم إعتاق العبيد في المستعمرات البريطانية ومعاهدة انجليزية إسبانية عام1835 وتعميمها عام1836 وفي 1838 إلغاء الاستعباد في الهند وفي 1842 معاهدة انجليزية ــ برتغالية تحظر تجارة وفي 1852 مراسيم تسمح بتجنيد عمال أفارقة للمستعمرات الفرنسية ومابين 1852 و 1862 استيراد 20 ألف أفريقي إلى المستعمرات الفرنسية الغوادلوب، وغويانا ، والمارتنيك. وفي 1871 قانون الولادة الحرّة في البرازيل، والغاء نظام الاستعباد في بورتوريكو في 1873 ، ونظام الوصاية في كوبا وإلغاء الاستعباد تدريجيا في 1880 وفي 1886 إلغاء نظام الاستعباد في كوبا وإلغاؤه في البرازيل في 1888 وفي 1891 إتلاف محفوظات المقاطعات المتعلقة بالاستعباد في البرازيل( أورينو دالارا، نشأة التيار الأفريقاني، الدار الجماهيرية،ط2001 ، ص 65 ــ72 .
(22) المرجع السابق ص 63 .
(23) أورينو دالارا، نشأة التيار الأفريقاني، ص 97 ـ 98 . نقلا عن : هوارد هـ . بل، حركة هجرة الزنوج، 1849 ــ 1854 . من مراحل القوميّة الزنجيّة، فيلون ، العدد 20، صيف 1959، ص 132 ــ 142 ، وللكاتب نفسه ، المصالح الأمريكيّة ــ الزنجيّة في أفريقيا، 1858 ــ 1861 ، مجلة أساتذة العلوم الاجتماعيّة، العدد 6، الشهر 11 من 1960 ص 11 ــ 18 .
(24) المرجع السابق ، ص 106 .
(25) المرجع السابق نفسه .
(26) حيدر إبراهيم علي، مستقبل العلاقات العربية الأفريقية، كتابات سودانيّة، مركز الدراسات السودانية، العدد 27،مارس2004،ص80 ـ 81 .
(27) أورينو دالارا، نشأة التيار الأفريقاني، ص 109 .
(28) المرجع السابق ، ص 110 .
(29) سعيد بن عمر آل عمر ، تجارة الرق عند الأوربيين حتى نهاية الحرب العالميّة الأولى ، مجلة آداب، كلية الآداب ، جامعة الخرطوم، العدد 18، ديسمبر 2000، ص 99 .
(30)المرجع السابق ، ص 101 .وانظر محمود فايد ، الرق في الإسلام، ص 9 وكذلك The New Encyc Lopaedia Britannica 16 : 856
(31) نايت، الشتات الأفريقي، تاريخ أفريقيا العام، المجلد السادس، ص848 ، نقلا عن سى . هورغرونجي C.S. Hurgronje 1970 ص 11 ــ20 .
(32) الشنتناوي[ ماسينيون L. Massignon] موجز دائرة المعارف الإسلاميّة، مركز الشارقة للإبداع،ج 17. ط1، 1998، مادة الزنج ،ص5334 ـ 5335 .
(33) سعيد بن سعيد آل عمر ، تجارة الرق عند الأوربيين، مجلة آداب ص102 .
(34) المرجع السابق ص 103 . وانظر عبد اللطيف أحمد علي، التاريخ الروماني عصر الثورة، دار النهضة العربية، بيروت ، ص 115 ـ117 . وكذا عمر عودة الخطيب، نظرات إسلاميّة في مشكلة التمييز العنصري، ص45 ـ46 . وكذا The New Encyc Lopaedia Britannica 16 :857 .
[***] هنري سلفستر(1869 ــ 1911) وبينيتو سيلفان(1868 ــ 1916) وأنتيفور فيرمان (1850 ــ 1911) وهو صحافي ومحام ودبلوماسي ووزير ومرشح للرئاسة وشخصيّة بارزة في هاييتي، ومؤلف كتاب المساواة بين العروق البشريّة (الأنثروبولوجيا الإيجابيّة) نشر في باريس 1885 . أورينو دالارا ، نشأة التيار الأفريقاني، ص 18 .
(35) المرجع السابق ص 18 .
(36) المرجع السابق، ص 120 .
[****] كتب سيرته هـ . ر . لينش ، إدوارد ويلموت بليدن 1832 ــ 1912، المواطن الأفريقاني، لندن ، منشورات جامعة اكسفورد، 1967 ،(أورينو دالارا، نشأة التيار الأفريقاني ، ص 16 .
(37) أورينو دالارا ، نشأة التيّار الأفريقاني، ص 195 ــ 196 . نقلا عن بليدن، أصداء من أفريقيا ص 138، والاستعمار الأفريقي ص 352، وأثيوبيا تمد ذراعيها إلى الله ، ص 120 .
(38) المرجع السابق ص 198 ــ 213 .
(39) تاريخ أفريقيا العام ، ص 601 ـ 602 ، والنص عن الترجمة الإنجليزيّة الواردة في ترجمة س .و . والن S.w. Allen لجان بول سارتر J.P.Sarter 1963 ، ص 41 ـ 43 . وقد وردت ترجمتها في دراسة للدكتور أحمد منوّر :
زنوجتى ليست حجرا ،
صممها زاحف ضدّ صخب النهار.
زنوجتى ليست قرنيّة ماء ميّتة على عين الأرض الميّتة
زنوجتي ليست حصنا ولا قلعة،
إنها تغوص في لحم التربة الحمراء،
إنها تغوص في لحم السماء المضطرمة،
إنها تثقب الإرهاق السميك لصبرها القويم . [ د. أحمد منوّر، الأدب الأفريقي بين مفهوم الزنوجة والشخصيّة الأفريقيّة، الفصول الأربعة ، العدد 107 ، الفاتح(سبتمبر) 2005 ص 66 .
(40) خالد عبد المجيد مرسي، الأدب الأفريقي الحديث، أعمال مؤتمر التعليم من أجل التحرير في أفريقيا، مركز البحوث والدراسات الأفريقية، سبها1988، ص 519. نقلا عن Cesaire,Aime :'' Chaierd,un retour au pays natal" Paris,Presence Africaine, 1956,P.P.48 -73 . وقد ترجم العنوان د. أحمد منور باسم " دفتر العودة إلى مسقط الرأس " Cahier d un retour au pays natal .[ الأدب الأفريقي بين مفهوم الزنوجة والشخصية الأفريقية، الفصول الأربعة، العدد 107 ،سبتمبر 2005 ، ص 66 .]

(41) المرجع السابق،ص 520. نقلا عن Senghor,L,S,: " Que m,accompagnet Koras et balafong" ibid,P,35.
(42) أحمد منوّر، الأدب الأفريقي بين مفهوم الزنوجة والشخصية الأفريقيّة، الفصول الأربعة، العدد 107 ، سبتمبر 2005 ،ص 67 .
(43) أحمد منور، ، الأدب الأفريقي بين مفهوم الزنوجة والشخصية الأفريقية، الفصول الأربعة، العدد107، 2005 ، ص 68.
(44) المرجع السابق ، ص 67 ـ 68 .
(45) محمد سعيد محمد ، الأصالة والاعتزاز بالتراث والتصدي لمحاولات التغريب والسيطرة الاستعمارية في الشعر الأفريقي، أعمال مؤتمر التعليم من أجل التحرير في أفريقيا، مركز البحوث والدراسات الأفريقية، سبها ، 1988 ، ص 548 ــ 549 ، وقد أحال إلى بحث ألقاه "فانون" عام 1959/ أمام المؤتمر الثاني للكتاب والفنانين السود الذي عقد في روما، وحذر فيه من هذا المذهب الذي لن يقود إلاّ إلى طريق مسدود، وانظر د. رضوي عاشور، التابع ينهض، الرواية في غرب أفريقيا، دار ابن رشد، بيروت، ص 41 .
(46) علي شلش ، الأدب الأفريقي، ص 36 . نقلا عن I bid P.21 .
(47) المرجع السابق ، ص 20 . نقلا عن Ibid,p.22.
(48) المرجع السابق ،ص 16 .
(49) محمد سعيد طالب، الثقافة والتنمية المستقلّة في عصر العولمة، اتحاد الكتاب العرب، دمشق2005، ص22 الموقع www.awu-dam.org و إدريس سالم حسن، رؤى سودانيّة، مركز الدراسات الاستراتيجيّة، الخرطوم، العدد 16 ،2004 ، ص 259 .
(50) شرف الدين عبد السلام، التخطيط الثقافي والهويّة، مجلة الخرطوم العدد 26، ص6 .
(51) وليد مشوّح، الثقافة والبيئة، الموقف الأدبي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، العدد403، تشرين الثاني2004.
[*****]نقلا عن أرنولد توينبي، الوحدة العربية آتية(من النيجر إلى النيل) ترجمة عمر الديراوي أبو حجلة. بيروت، دار الآداب، ط2، 1979، ص14ـ15 .
(52) حيدر إبراهيم علي، مستقبل العلاقات العربية الأفريقية، كتابات سودانيّة، العدد27 ،ص79 ـ 80 .
(53) الشيخ محمد الشيخ ، التحليل الفاعلي، نحو نظريّة حول الإنسان، دائرة الثقافة والإعلام ، الشارقة، 2001 . وانظر E.M.Elsheikh, Towards a Science of Faeeliya, Expanding Human Consciousness, Dena Hurst(ed.), Lulu publishers, U.S.A. 2004.
(54) رينيه ديمون ، نقد العالم المعاصر، ت جورج طرابيشي،المؤسسة العربية للنشر والإبداع، الدار البيضاء المغرب، ط1، 1993 ، ص95 .
(55) المرجع السابق نفسه.
(56) المرجع السابق، ص114 .
(57) الشيخ محمد الشيخ
(58) عبدالله بخيت محمد ، دراسات في الأدب السواحيلي، القصص الشعبي، مكتبة النهضة المصريّة، القاهرة،1987 ،ص 23 . .
(&) أما الفتيات فيتم تلقينهنّ عادة بعد أول حيض[ ويطلق على الفتاة قبل إعدادها Msungo أي الخام، وعندما يبدأ حيضها وإقامة وإقامتها مع الناصحة تسمّى Mweli أي القاصر ] حيث يقمن مع الناصحة Somo للتعلّم في الكوخ، ويخضعن لظروف واحدة، فتحملهن القوابل على ظهورهنّ ، ويقمن بغسلهنّ وتضميخهنّ بزيت السمسم ومسحوق خشب الصندل، وتبدأ المرحلة الثانية بأن تؤخذ الفتيات للعزلة في كوخ التلقين لمدّة سبعة أيّام، يتلقّين خلالها ما يتعلّق بسلوك المرأة خاصّة أثناء الزواج، ويتعلّمن الأغاني والرقصات المختلفة، ومنها بعض الرقصات الجنسيّة، وخلال تلك الفترة لا يسمح لهنّ بلقاء الذكور أو الفتيات اللاتي لم يبلغن، وتنتهي فترة العزلة باحتفال يسمّى" كشف النقاب " ولا يسمح لأحد أن يراها أو يتحدّث معها قبل أن يقدّم لها هديّة أو نقوط Fichuo وعندها ترفع الفتاة نقابها وتقبّل يد من قدّم لها النقوط. [ المرجع السايق ص 28 ـ 29 نقلا عن ترمنجهام ، سبنسر: الإسلام في شرق إفريقية، القاهرة،1973، ص 277.]
(&&) دفع ثمن الزوجة هو أبرز هذه الصور الثلاث لدى البانتو، أمّا الزواج بالتبادل فتعرفه بعض المجتمعات الصغيرة، أمّا العمل لأداء أجر الزوجة فينتشر بين الجماعات الفقيرة لدى بعض البانتو الشرقيين، وتعدد الزوجات هو الغالب بين هذه الشعوب.، وهم لا يعرفون العانس ولا الأرملة، ويفضلون الزواج المبكر ، وإذا ماتت الزوجة وجب على أهلها أن يقدّموا له أخرى أو يسترد ما دفعه ثمنا لها.(المرجع السابق ص 30 .)
(59) المرجع السابق، ص28 .
(60) دنيز بولم، الحضارات الأفريقية، ت نسيم نصر،عويدات ،بيروت ـ لبنان،ط2،1978، ص111ـ112.
(61) المرجع السابق ، ص120.
(62) محمد عثمان علي، في أدب ما قبل الإسلام، مكتبة طرابلس العلميّة العالمية،ط4، 1994،ص44.
(63) المرجع السابق، ص155.
(64) أبوبكر يوسف شالابي، المدخل إلى علم الإنسان،الجامعة المفتوحة،الشركة العامة للورق والطباعة، ب.ت.ص196.
(65)عبد العزيز قباني، العصبيّة بنية المجتمع العربي، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط1،1997،ص61ـ63
(66) المرجع السابق ،ص69
(67) عبدالله بخيت محمد، دراسات في الأدب السواحيلى ، ص 33ـ 34 .
(68) دنيز بولم، الحضارات الأفريقية، ت نسيم نصر، عويدات، بيروت ـ باريس، ط2 ،1978،ص 111 .
(69) سعدي يوسف،في الأدب الأفريقي المعاصر،دراسة ونصوص،دار الهمداني للطباعة والنشر، عدن، ط1985. ص95 ـ 100.
(70) انظر و.هـ . هويتلي،مختارات من النثر الأفريقي، ج1 ، 2 ت:رمزي يسي،مطابع الهيئة المصريّة العامة للكتاب، 1972.
(71) عبد العزيز قباني، العصبية بنية المجتمع العربي،ص 47 ـ48 .
(72) دينيز بولم ، الحضارات الأفريقية ص113 .
(73) المرجع السابق، ص 120 ـ121 .
(74) المرجع السابق، ص 124 ـ125 .


.

هناك تعليق واحد:

  1. اريد الادب الافريقي المعاصر مع اهم اعلامه من فضلكم عاجل

    ردحذف