وترية الهاجس والحرف
للشاعر عبدالرؤوف بابكر السيد سيرة للوطن والذات
د. سعد التميمي / جامعة إب
مجلة إبداع / العدد 121 ، 21 رمضان 1422 هـ الموافق 6/2/ 2001 م ،
كثيرون هم الشعراء الذين كانت معاناتهم مرتبطة بمعاناة وطنهم مما جعل هذه المعاناة تحتل حيزاً كبيراً وواضحاً في شعرهم لكن الذين أحسنوا اختيار أدواتهم ونجحوا في تشكيل هذه المعاناة بطريقة مغايرة للمألوف والمتعارف عليه قلة، إذ طالما تسحب مثل هذه الموضوعات ذات الطابع الأيدلوجي والخطابي الشاعر نحو الخطابية والغنائية والمباشرة ومثل هؤلاء الشعراء يحققون هدفين في الوقت نفسه يتمثل الأول وهو الغاية في الخطاب الشعري بالجمال الذي يحققه الشاعر من خلال عدد غير قليل من التقنيات التي من شأنها أن تستفز المتلقي وتؤثر فيه أما الثاني فيتمثل بالإبلاغ عن طبيعة المعاناة وأبعادها وحدودها والتنبيه على مخاطرها وهذا ما وجدناه في قصيدة الشاعر السوداني عبدالرؤوف بابكر السيد " وترية الهاجس والحرف " التي يتجسد فيها الهدف الأول من خلال القدرة العالية في التعامل مع اللغة على مستوى الألفاظ والتراكيب وتفجير طاقاتها الشعرية العالية من خلال عدد كبير من التقنيات التي تفاجئ المتلقي بين الحين والآخر بمفارقات وآليّات غير مألوفة ، أما الهدف الثاني فيتجسد في الموضوع الذي تعالجه القصيدة تعبر عن هموم المتلقي أيضاً الذي يشارك في همومه....
. وفي هذه القصيدة الطويلة التي تعكس قدرة عالية في طريقة تشكيل المعنى الشعري وإكسائه بجمالية التعبير نلحظ صراع الخطاب الأيدلوجي ذي المنحي الغنائي الخطابي أحياناً مع الخطاب الشعري الخالص الذي يقوم على عناصر معينة تجعله خطاباً مختلفاً يستفز المتلقي ويجذبه من خلال ما يحققه من ملامح جمالية واضحة وقد نجح الشاعر في جعل كفة الخطاب الشعري هي الراجحة رغم بروز بعض ملامح الخطاب الأيدلوجي، ولما كانت القصيدة تجسد تواصل وارتباط الشاعر بالوطن فإن جسر هذا التواصل كان الغربة التي كانت السبب المباشر في تفجير معاناة الشاعر واعترافه بالانكسارات والهزائم والتي جعلت من اليأس يهيمن على القصيدة كاملة ومما يؤكد ذلك العنوان الذي اختاره الشاعر للقصيدة إذ يوحي هذا العنوان بالإيقاع الرتيب المتكرر ذي النغمة الحزينة الموجعة وهذا ما تجسده كلمة " وترية " وكذلك كلمتا " الهاجس " و" الحرف" إذ يوحي كل منهما بحالة الانكسار واليأس، إذ يقول الشاعر في مطلع القصيدة :
ما بال الهاجس
يوغل بين مسام التربة يكتب فينا كيف نكون
نتعلّم كيف ؟
وفيم ؟ علام ؟
وأين نكـــــون؟
من كنت تكــــــــون .
من كان يكــــــــون
فالغربة عالقة ، تملأ فينا البعد ..العمق ..
النفس .. اليوم .. الأمس .. فكيف نكــــــون ؟
الغربة عالقة يا هاجـــس
منذ امتدّ البصر وعانق أرصفة الميناء،
عانق ألوان الأزياء .
مذ زاغ البصر ..
وضلّ الأثر ..
وشحّ المطر ..
بلا مبتدإ بقي الخبر ، بدون حياء .
فالشاعر يمهد لموضوعه الغربة وانعكاساتها بالاستفهام الذي يتكرر أكثر من مرة وفي كل مرة يأخذ شكلا جديداً وغاية مختلفة لتشكل في مجموعها ملامح الغربة التي أخذت تنخر جسد الشاعر حتى جعلته ضعيفاً أسير اليأس والحزن وهذا التكثيف في العبارة مع تكرار أسلوب الاستفهام يخلق توازيا نحوياً يوحى بالحيرة واليأس فضلاً عن الضياع في الغربة وهذا ما عبرت عنه الجملة " الغربة عالقة" ومرة ثانية يعود الشاعر إلي التوازي النحوي من خلال تعدد المفاعيل " البعد ، العمق، النفس ، اليوم ، الأمس ، وهذا التوازي يتكرر في القصيدة بشكل كبير ليمثل إحدى المهيمنات في القصيدة وعودة لهذا التوازي نجد أن النفس قد توسطت الكلمات فقد سبقتها كلمتان كل منها ذات دلالة مكانية توحيان بالغربة التي ترتبط بشكل كبير بالمكان، وجاءت بعدها كلمتان متضادتان كل منها ذات دلالة زمانية توحيان بحالة الضياع وضبابية المستقبل لدى الشاعر ويتكرر مثل هذا التوازي في الجمل " زاغ البصر، ضلّ الأثر ،شحّ المطر ، وتوحي الأفعال هنا بالتشتت والضياع أيضاً وهنا نجد الشاعر يسجل للمتلقي سيرته الحبلي بالآلام والأحزان ومع توظيف هذه التقنيات نجد الشاعر يشحن عباراته بعاطفة معبرة ومؤثرة من خلال اعتماده على المفارقة في تشكيل المعنى الشعري كما في إسناد الفعل "يوغل" للهاجس وكذلك الفعل " يكتب" فضلاً عن إسناد الفعل "عانق" إلي البصر وإعماله بالأرصفة ومثل هذه المفارقات نجد الكثير في هذه القصيدة وهذا يؤكد تخلص الشاعر من الخطاب الأيدلوجي ونجاحه في جعل خطابه يشبع بطاقة دلالية شعرية عالية ويستمر الشاعر في سرد انكساراته وأحلامه المكبوتة ثم ينتقل بالحديث عن الوطن وصورته التي يحملها في غربته إذ يقول في جانب آخر من القصيدة :
كنا .. كان .. وكانت ..
حتى أمست فينا الحسرة ، تنهش فينا ..
سيف مكسور ،
وجواد الغربة يلهث .. يطوي ..
كل مساحات الوطن المغدور ..
الغربة في الرئتين ، ومنذ دهور.
الغربة في الرئتين ،
لأن هواء صدئا ... جاء إلينا ..
يعني أنّا ...أنّا صرنا ...
صرنا من سقط الأشياء ،
جرحا في خاصرة الوطن المطعون.
ومنذ قرون ..
ونحن الصرعى للأفيون ،
فالشاعر هنا يتكلم بضمير المتكلم الجمع ليعبر عن ذاته، صوته الذي يراه يمثل صوت الجميع في قوله (كنا) وهو يتحدث عن الوطن من خلال الفعل (كان) فالضمير الغائب يعود إلى الوطن ولا ينسى الغربة التي كانت نتيجة لانكسارات وانهزام الذات والوطن وذلك من خلال الفعل (كانت) فالضمير الغائب (هي) يعود إلى الغربة ليبدأ بعد ذلك بتصوير حال الوطن وحاله بعدد من الصور الشعرية التي تتشكل من خلال المفارقات الدلالية التي يحققها الانزياح على مستوى التركيب مثل إسناد الفعل "تنهش" إلى الحسرة وإضافة الجواد للغربة ووصف الوطن بالمغدور مرة وبالمطعون مرة أخرى فضلاً عن العبارات الساخرة التي تذكرنا بالشاعر العراقي مظفر النواب وبشكل خاص قصائده المكتوبة بالعامية التي يبكي فيها حال الوطن الذي يمثل بالتالي حاله ويبقي الهاجس في هذه القصيدة ينبئ الشاعر بما ينتظر الوطن وينتظره من آلام وأحزان وظلم وعدوان ليسجل الشاعر بحرفه الحزين وكلماته الموجعة سيرة الوطن تغدو مرآة يرى فيها نفسه وما يجسد الشاعر في قوله " الوطن السمح يكون ، أكون ،أكون ، يكون" فهذا التناوب بين الأفعال يصور التماهي بين الشاعر والوطن فيضحى كل منهما صورة للآخر وهذا ما عبرت عنه القصيدة كاملة .
ومما يلاحظ على هذه القصيدة بناؤها المحكم فهي أشبه بالسلسلة إذ ترتبط جملها وصورها بعضها ببعض بطريقة محكمة فالجمل كانت تتوالد بطريقة جميلة فكل جملة تلد أخرى وكل صورة تلد أخرى وهذا ما جعل الألفاظ متماسكة ومتناسقة فضلاً عن أن الشاعر قد استشعر السكون الذي رافق القوافي ليومي بحالة الركود واليأس التي تخيم عليه وعلى الوطن، وهذا ما جعل القصيدة تفيض بالطاقة الشعرية العالية التي تعكسها الصور الشعرية العديدة، تلك التي تقوم في الغالب على الجدة والابتكار من جهة والدينامية العالية من جهة أخرى، وهذا ما يضمن تفاعل المتلقي مع القصيدة وتجاوبه معها وتفاعله مع أجوائها إذ على الرغم من أن اللغة التي تتشكل منها الصور واضحة وبسيطة إلا أن الشاعر استطاع أن يختار سياقات حيوية أعطت لهذه اللغة طابعاً جديداً يتضح من خلال الدلالات الجديدة الفعالة التي نلاحظها في القصيدة والتي عبرت بشكل جميل عن الفكرة التي عالجها الشاعر .
.
ما بال الهاجس
يوغل بين مسام التربة يكتب فينا كيف نكون
نتعلّم كيف ؟
وفيم ؟ علام ؟
وأين نكـــــون؟
من كنت تكــــــــون .
من كان يكــــــــون
فالغربة عالقة ، تملأ فينا البعد ..العمق ..
النفس .. اليوم .. الأمس .. فكيف نكــــــون ؟
الغربة عالقة يا هاجـــس
منذ امتدّ البصر وعانق أرصفة الميناء،
عانق ألوان الأزياء .
مذ زاغ البصر ..
وضلّ الأثر ..
وشحّ المطر ..
بلا مبتدإ بقي الخبر ، بدون حياء .
فالشاعر يمهد لموضوعه الغربة وانعكاساتها بالاستفهام الذي يتكرر أكثر من مرة وفي كل مرة يأخذ شكلا جديداً وغاية مختلفة لتشكل في مجموعها ملامح الغربة التي أخذت تنخر جسد الشاعر حتى جعلته ضعيفاً أسير اليأس والحزن وهذا التكثيف في العبارة مع تكرار أسلوب الاستفهام يخلق توازيا نحوياً يوحى بالحيرة واليأس فضلاً عن الضياع في الغربة وهذا ما عبرت عنه الجملة " الغربة عالقة" ومرة ثانية يعود الشاعر إلي التوازي النحوي من خلال تعدد المفاعيل " البعد ، العمق، النفس ، اليوم ، الأمس ، وهذا التوازي يتكرر في القصيدة بشكل كبير ليمثل إحدى المهيمنات في القصيدة وعودة لهذا التوازي نجد أن النفس قد توسطت الكلمات فقد سبقتها كلمتان كل منها ذات دلالة مكانية توحيان بالغربة التي ترتبط بشكل كبير بالمكان، وجاءت بعدها كلمتان متضادتان كل منها ذات دلالة زمانية توحيان بحالة الضياع وضبابية المستقبل لدى الشاعر ويتكرر مثل هذا التوازي في الجمل " زاغ البصر، ضلّ الأثر ،شحّ المطر ، وتوحي الأفعال هنا بالتشتت والضياع أيضاً وهنا نجد الشاعر يسجل للمتلقي سيرته الحبلي بالآلام والأحزان ومع توظيف هذه التقنيات نجد الشاعر يشحن عباراته بعاطفة معبرة ومؤثرة من خلال اعتماده على المفارقة في تشكيل المعنى الشعري كما في إسناد الفعل "يوغل" للهاجس وكذلك الفعل " يكتب" فضلاً عن إسناد الفعل "عانق" إلي البصر وإعماله بالأرصفة ومثل هذه المفارقات نجد الكثير في هذه القصيدة وهذا يؤكد تخلص الشاعر من الخطاب الأيدلوجي ونجاحه في جعل خطابه يشبع بطاقة دلالية شعرية عالية ويستمر الشاعر في سرد انكساراته وأحلامه المكبوتة ثم ينتقل بالحديث عن الوطن وصورته التي يحملها في غربته إذ يقول في جانب آخر من القصيدة :
كنا .. كان .. وكانت ..
حتى أمست فينا الحسرة ، تنهش فينا ..
سيف مكسور ،
وجواد الغربة يلهث .. يطوي ..
كل مساحات الوطن المغدور ..
الغربة في الرئتين ، ومنذ دهور.
الغربة في الرئتين ،
لأن هواء صدئا ... جاء إلينا ..
يعني أنّا ...أنّا صرنا ...
صرنا من سقط الأشياء ،
جرحا في خاصرة الوطن المطعون.
ومنذ قرون ..
ونحن الصرعى للأفيون ،
فالشاعر هنا يتكلم بضمير المتكلم الجمع ليعبر عن ذاته، صوته الذي يراه يمثل صوت الجميع في قوله (كنا) وهو يتحدث عن الوطن من خلال الفعل (كان) فالضمير الغائب يعود إلى الوطن ولا ينسى الغربة التي كانت نتيجة لانكسارات وانهزام الذات والوطن وذلك من خلال الفعل (كانت) فالضمير الغائب (هي) يعود إلى الغربة ليبدأ بعد ذلك بتصوير حال الوطن وحاله بعدد من الصور الشعرية التي تتشكل من خلال المفارقات الدلالية التي يحققها الانزياح على مستوى التركيب مثل إسناد الفعل "تنهش" إلى الحسرة وإضافة الجواد للغربة ووصف الوطن بالمغدور مرة وبالمطعون مرة أخرى فضلاً عن العبارات الساخرة التي تذكرنا بالشاعر العراقي مظفر النواب وبشكل خاص قصائده المكتوبة بالعامية التي يبكي فيها حال الوطن الذي يمثل بالتالي حاله ويبقي الهاجس في هذه القصيدة ينبئ الشاعر بما ينتظر الوطن وينتظره من آلام وأحزان وظلم وعدوان ليسجل الشاعر بحرفه الحزين وكلماته الموجعة سيرة الوطن تغدو مرآة يرى فيها نفسه وما يجسد الشاعر في قوله " الوطن السمح يكون ، أكون ،أكون ، يكون" فهذا التناوب بين الأفعال يصور التماهي بين الشاعر والوطن فيضحى كل منهما صورة للآخر وهذا ما عبرت عنه القصيدة كاملة .
ومما يلاحظ على هذه القصيدة بناؤها المحكم فهي أشبه بالسلسلة إذ ترتبط جملها وصورها بعضها ببعض بطريقة محكمة فالجمل كانت تتوالد بطريقة جميلة فكل جملة تلد أخرى وكل صورة تلد أخرى وهذا ما جعل الألفاظ متماسكة ومتناسقة فضلاً عن أن الشاعر قد استشعر السكون الذي رافق القوافي ليومي بحالة الركود واليأس التي تخيم عليه وعلى الوطن، وهذا ما جعل القصيدة تفيض بالطاقة الشعرية العالية التي تعكسها الصور الشعرية العديدة، تلك التي تقوم في الغالب على الجدة والابتكار من جهة والدينامية العالية من جهة أخرى، وهذا ما يضمن تفاعل المتلقي مع القصيدة وتجاوبه معها وتفاعله مع أجوائها إذ على الرغم من أن اللغة التي تتشكل منها الصور واضحة وبسيطة إلا أن الشاعر استطاع أن يختار سياقات حيوية أعطت لهذه اللغة طابعاً جديداً يتضح من خلال الدلالات الجديدة الفعالة التي نلاحظها في القصيدة والتي عبرت بشكل جميل عن الفكرة التي عالجها الشاعر .
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق