الأحد، 6 ديسمبر 2009

شعر المرأة الأفريقيّة
(1)


بعد حركة الزنوجة التي كانت ردّ فعل صارخ لعنصريّة البيض واستعبادهم بل واحتقارهم اللون الأسود والتي قادها في مجال الشعر الثلاثي: ايميه سيزير ابن جزيرة المارتنيك، وليون داماس ابن جزيرة جواديلوب وليوبولد سيدار سنغور ابن السنغال، حيث كان ثلاثتهم شديدي التعلّق بأفريقيا وتراثها، فدعموا الحركة العنصريّة المقابلة اعتداداً باللون وافتخارا به فغطّت الحركة بذلك المساحة الزمنيّة من 1935 وحتى 1960. بعد هذه الحركة انطلقت الكتابة وخاصّة في مجال الشعر لتعبّر عن نبض الحياة وبالتوافق الحميمي الذي يتصالح فيه الإنسان مع نفسه ومع الآخر، مع ذاته ومع الكون.
إلاّ أنّ الخذلان الكبير الذي أحسّ به الأفريقي والناجم عن فشل الأنظمة التي أعقبت الاستقلال ولّد الكثير من المعاناة، وشعر الكثيرون بأنّ البون شاسع بينهم وبين الجنّة الأفريقيّة التي حلموا بها ومنّوا بها أنفسهم طيلة مراحل الصرع مع المستعمر. لذا فقد بدأت مرحلة الاحتجاج السياسي والاجتماعي والثقافي في دائرة البحث عن الذات وتأكيد الهويّة الأفريقيّة الأصيلة المحبّة والمتسامحة، هويّة الإنسان. وانطلق الشعر حاملا الاحتجاج والرفض والتمرّد، ومن ثمّ حمل على عاتقه التعبير عن مجالات الحياة الأفريقيّة المتعدّدة بروح عمقها المتجاوز للغة..
وأبرز ما تشكّل في الأدب الأفريقي المعاصر هو ميلاد الأدب النسوي.. فالمرأة الأفريقيّة عانت هي الأخرى كثيرا من وطأة الحياة الاجتماعيّة الناجمة عن الحياة الثقافيّة المتأثرة بالوضع السياسي والاقتصادي.
. الأدب النسوي في أفريقيا يعدّ ظاهرة معاصرة أبرزتها الحداثة التي فرضت على الجميع أن يعبّر عن رأيه في مختلف شؤون الحياة.. فإذا بهذا الصوت النسوي الجريء يلفت الانتباه إلى قضايا نسويّة واجتماعيّة لا يستطيع الرجل أن يخوض غمارها، لا لشيء إلاّ أنها معاناة المرأة، والتعبير عن عالمها الداخلي، مشاعرها، رؤيتها للحياة، تمرّدها على الظلم الواقع عليها، رفضها للسائد، مقاومتها التهميش والدونيّة، فكان صوتها في مجال الشعر وفي مجال القصّة والرواية حاملة في وعيها إن لم تتحرّر المرأة فلن يتقدّم المجتمع..
الشعر ترجمة وفيضٌ لعوالم داخليّة من أحاسيس ومشاعر ورؤى، وقد استبدّ به كغيره من ألوان الآداب والفنون الرجل بحكم استئثاره بالمعرفة ، وبحكم قوانين المجتمعات الذكوريّة، لذا فقد استنكر كثير من الدارسين مصطلح الشعر النسوي الذي يحدّد ماهيّة الشعر الذي تقوله المرأة، وحاولوا أن يخلطوا بين الشعر الذي تقوله المرأة عن نفسها وبين الشعر الذي يقوله الرجل عن المرأة. والبعض اعتبر هذا الفصل غير جائز ، فالشعر هو الشعر والأدب هو الأدب قاله رجل أو امرأة حيث يجمع كليهما الإنسان. فالمرأة وهي تعبّر عن نفسها في مجال الإبداع تقدّم لنا شعرا يحمل مشاعر إنسانيّة.
وحقيقة نتفق على أنّ الإبداع هو الإبداع إنسانيّ في تشكّله ولغته وما يعبّر عنه، إلاّ أنّ الشعر النسوي ـ كإبداع أيضا ـ يهتمّ بقضايا المرأة ومعاناتها ومشاعرها ، التي هي قضايا يجهلها الرجل تماما أو يتسبّب فيها بحكم نزعته التسلّطيّة على المرأة. لقد ظلّت المرأة بعيدة كلّ البعد عن دائرة التعبير بمعاناتها وآلامها وجراحها حين استأثر الرجل بالعلم والمعرفة والشعر والشعور في عالم الفحولة الذي يسيطر الرجل الفحل والشاعر الفحل. إلى أن وصل بنا الحال ليعبّر نزار قبّان مثلا عن المرأة ويحكي بلسانها ويصوّر مشاعرها، ولكنه في النهاية تخيّل أو تصوّر يستشفّه عبر مشاعره تجاهها، وما ينبغي أن تكون عليه أو تعبّر عنه.
كان الشعر مقصورا على الرجل وبعض المرأة التي تحدّدت مجالاتها في بكائيات الرجل أو في رثاء الرجل، وهو ما عرفناه من عدد من الشاعرات العربيّات وعلى رأسهنّ الخنساء.
أمّا الآن فدعونا نسلط الضوء على شعر نابع من عمق المرأة يكشف ويعرّي معاناتها وآلامها والتي قد يكون الرجل هو الذي تسبّب فيها ، أو المجتمع الذي فرض عليها هذا الانحسار، وحدّد لها المهام المنزليّة ، والمكانة الدونيّة في المجتمع.
الشعر لصيق بالعمق وبالوجدان وبعوالم الإنسان الداخليّة، ولا شكّ أنّ المرأة بعد أن امتلكت الأداة التعبيريّة والملكة الفنّية، لها عالمها الخاص وتجربتها الخاصّة، ومشاعرها التي لا يمكن أن نستشفّها إلا من خلال تجسيدها عبر الإبداع.
الشاعرة الأفريقيّة (شاكونتالا هاولدار) من المورشيوس، تعلن تمرّدها وسخطها لمكانة المرأة في مثل هذه المجتمعات التي لا تعطيها مكانتها كإنسان، وتعلن سخطها كونها جاءت إلى هذه الدنيا امرأة فوجدت نفسها في مجتمع لا يعرف ولا يعتزّ بغير الرجل، لذا فها هي تكتب عن أن يكون الإنسان امرأة:
أن يكون الإنسان امرأة
ظلاّ بغير هيئة،
يزيل ضوء الشمس،
يحمل رجالا في جوفه بغير معنى
في سلسلة الحاجة التي لا تنتهي،
أن يبلى في الأيام الممطرة
مثل حذاء قديم لا لون له،
ويتلمّس طريقه بين القدور والأواني،
وعيناه مشدودتان إلى البخار،
تدمعان أكثر ممّا يدمعهما البصل،
أن يكون الإنسان امرأة
بغير شخصيّة مثل أعواد الخيزران
يتمّ تفصيله حسب الطلب
فيكون وقاء من الجوّ الغريب
وحين ينام، يحلّق
يطير مثل العصفور بغير عائق،
يتهلّل في الهواء الطلق،
متمايلا بين المحيطات والسحب،
حالما بأشجار تعانق الشمس
بينما جذورها كثيرة العقد تغرق في الأرض
ثم تعود برحم مثقل
لتؤمن أنّ الظلال لها وجود.(1)
وذات المشهد من الاحتجاج تصرخ به من أوغندا الشاعرة(أشومبتا أكام ـ أوتورد) حيث ترسم لوحة استغلال المرأة حتى في العمل.. ليس على سبيل المشاركة بينها والرجل بل خادمة له مطيعة لأوامره.. تقول أكام في قصيدتها (نهوض لكدح النهار):
استيقظي يا امرأة
الديك يصيح،
إنها الثالثة صباحاً
استيقظي ـ حان وقت إزالة الأعشاب الضارة من الحقول
في التلال البعيدة،
لا تنامي أكثر،
انهضي من أعباء الأمس،
انس ساعات الكدح
في تلك الشمس الحارّة
التي سطعت عندما تعملين في الحقل
لكن غربت بينما كنت تسارعين لإزالة الأعشاب الضارّة.
في الظلام تعودين، كما غادرت،
لتلك القدور الفارغة
يا للحسرة: انتهى اليوم
حين تستمتع العائلة بالوجبة الرئسيّة
لكن قبل أن تريحي قدميك
صوت ينادي: يا امرأة احضري لي ماء ساخناً
بهذا تعرفين أن اليوم انتهى
حتى صياح الديك
وتبدأ الدورة من جديد:
استيقظي يا امرأة ..
استيقظي يا امرأة ..(2)
كما تسعى جويندولين س. كوني من زامبيا لفكّ نفسها من قبضة الرجل والتحرّر من سطوة الخوف منه مستنفرة شجاعتها الخفيّة حيث تقول في قصيدتها (في قبضة بغضك):

مثل دودة أتلوّى في قبضتك المحكمة
وأنت تحاول أن تنعّم صوتي
وعقلي بقبضتك الوحشيّة
الخوف يطوف ببيت عقلي
بينما عيناك الحمراوان تنفثان دماً.

قبضتك تخنق لساني
أصابعك تنشر حبوب الخوف في عقلي
وتنبت مثل نار دغل متفشّية.
أرسيت الخوف كصحبة لي
وانكمشت من عينيك النافثتين دماً

أجراس إنذار سرّيّة تسفع عقلي
وتتركني احترق بغيظ وحشيٍّ
لأنّني لن أترك الخوف يبتلع أنفاسي
أحلامي وآمالي،
شجاعتي الخفيّة ستنشر قبضتك.(3)
ومن زيمبابوي، تواصل كريستينا دنجانو احتجاجها على هذه الممارسات الوحشيّة وعلى هذا الاستغلال البشع ، حين تصوّر المرأة الخادمة لزوجها، والزوج المترفّع عليها المتباهي بقوّته العضليّة ، الآمر الناهي في دائرة الاحتجاج والصرخات على وض مزر للمرأة تقول في قصيدتها (المرأة):
منذ دقيقة جئت من البئر
حيث نساء شابات مثلي يسحبن المياه
جسدي كان كئيبا وقلبي مرهقا..
لدقيقة شاهدت الجدول يجري أمامي
وفكرت كم هي منعشة رائحة الأزهار،
كم هي يانعة الأعشاب حوله.
ومرّة أخرى أيضا سمعت صوت الواجب
الذي يجثم عليّ ـ جعلني أشعر بالعجز
بينما أحمل الإناء الصلصالي الكبير على رأسي
مثل مظلّة مؤلمة كبيرة عظيمة.
ثمّ وصلت البيت وطبخت طعامك
لأنك كنت بالخارج تحتسي متع الدنيا
بينما أكدح في الحقول
تحت اليقظة الغاضبة للشمس
حملت مشارك فقط بواسطة إثمار رحمي
غسلت صحونك
وكنست الغرفة التي نتقاسمها
قبل أن أجلس لتجهيز مخدعك
في أفضل زاوية من الكوخ
الذي كان يسبح في رائحة عطرة من الروث
وضعته هذا الصباح على الأرضيّة
ثمّ أتيت
في شبقك الثمل.

وسألت تلبية رغباتك
عندما شرحت كم أنا مرهقة
وكم أنا خائفة على طفلك بداخلي
ضربتني وخرجت
في تلك اللحظة
تركتني حزينة وممرورة وكرهتك
مع ذلك سأستيقظ غداً مرة أخرى لك
أحلب البقرة،
أحرث الأرض
وأطبخ طعامك
ستكون سيّدي ثانية
أفليس صحيحا أنّ المرأة يجب أن تطيع،
تحب، تخدم وتبجّل رجلها؟
أفلست أنت فاكهة الأرض...؟(4)
إنه امتعاض وثورة على وضع اجتماعيّ لم يعط المرأة مكانتها وحقوقها، ويعامل معها كظلّ للرجل ، والظلّ كما في كهف أفلاطون لا يساوي المثال أبدا. لكنّ ثورتها ليست عداء للرجل بقدر ما هي لقيود المجتمع الذي يكبّل الرجل كذلك، فها هي تتواصل مع الرجل الإنسان وهو أب وأخ وحبيب وزوج وابن في قصيدتها بعنوان (أنت) تقول هاولدار:
أنت فرع ممتدّ منّي
جذر منّي،
ورقة شجر منّي، زهرة منّي،
إذن لماذا تسأل عن علامات
في حين أنّ الشجرة نفسها هي ظلّك؟
أنت تنفّسي، أفكاري، معاناتي،
إذن لماذا تحزن وحيداً؟
لا تحتاج لتسأل لأنّ كلّ شيء أُعطي في زمن بعيد.
عارفاً أنّ اللقاءات ممكن أن تكون فقط
خلال تلك الممرّات الملتوية،
بينما تقف هناك مكسوراً وحيدا.
أنت لست وحيداً
لأنّ في أنفاسك ، أفكارك، معاناتك
هناك شخص ينتحب معك،
يعرف الأخاديد السريّة لروحك،
لا يحتاج علامات،
يعرف أنّك فرع ممتد
جذر منتشر خالد، ورقة خضراء
زهرة متفتّحة
من تلك الشجرة ذاتها، دافنة جذورها
في تراب المشاركة، والعناية.(5)
المرأة إذن هي أكثر وعيا بالعلاقة الإنسانيّة بين الرجل والمرأة، ولكنها تصبّ جامّ غضبها وتمرّدها على المجتمع الذي صمّم قوانينه، ورسم علاقاته، ووضع أعرافه، والتزم بتقاليده.. إنها تخاطب درجة الوعي لدى الرجل الإنسان، أن لا يقف مكسوراً وحيداً، وهي معه.
وفي قصيدتها (ما وراء قصيدة الشعر) تؤكد هاولدار كذلك على أنّ العلاقة وثيقة بين الرجل والمرأة، وتذهب إلى أنّ الثقافة المجترّة من الماضي، هي التي فصلت بينهما وخلقت هذا الجدار العازل، وجعلت الحياة بينهما مجرّد أوهام تحت ركام سوء الثقافة وعتمتها.
هذا غنيّ جدّا لقصيدة شعر
ثقيل جدّا للدموع،
ما ذلك الخيط الذي يربط جراحي بجروحك
إلى النزف؟ بالكاد أستطيع تمييز
ندباتك المعتمة عن ندباتي.

جئت من طريق طويل
خلال ممرّات عقلي،
سافرت أيضا، مسافات طويلة
في ذاكرتك الضبابيّة،
وعندما تقابلنا خلف غشاوة الدمع
تعلم أنّ لقاءنا
لم يكن احتياجا سببيّا لساعة مرّت.
فيك قابلت رجالا
يحملون رايات إلى الجبال
يجرّون أقدامهم على الصخور.
فيك رأيت النصر
مبتسما عند رؤى المجد،
فيك أيضا رأيت الإله
الزائف المكسور الصلصالي..
كنت عدوّي متمرّسا في صمتك،
ساحقاً إيّاي بلا كلمات
بلا صوت،
بينما أنهار أمام لا مبالاتك.

كنت صديقي
عندما وقفت أنشب مخالبي في الهواء
باحثة عن موطن قدم فكري
في الأجراف الملتوية لعقلي
وتركتني بلطف،
من أعماق أفكاري،
أنعّم الغضون فوق جبهتي،
وأسكت شكوكي في عيني،
وفي تلك اللحظة آمنت مرّة أخرى
بأوهام التفاهمات
تحت ركام الثقافة والأذى...(6)



ـــــــــــــــــــــ
(1) ستيلا وفرانك شيباسولا، شعر المرأة الأفريقيّة، ت غادة الحلواني، المشروع القومي للترجمة،المجلس الأعلى للثقافة،ط1،2005، ص319- 320 ـ وانظر على شلش،الأدب الأفريقي، سلسلة عالم المعرفة،171، الكويت، ، مارس 1993،ص63.
(2) ستيلا وفرانك شيباسولا، شعر المرأة الأفريقيّة،ص 343-344.
(3) المصدر السابق،ص375-376.
(4) المصدر السابق،ص493-495.
(5) المصدر السابق،ص323-324.
(6) المصدر السابق،ص333-335.
.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق