الممارسة الإبداعيّة والفكريّة
في ضوء بنى الوعي السائدة
تمت المساهمة بها في الندوة الفكرية التي نظمها مجلس الثقافة العام من 3 - 5 ديسمبرو 2005
والتي جاءت تحت عنوان(حرية التفكير وحق التعبير بين الحرية والحفاظ على الهويّة ونشرتها مجلة المجال الصادرة عن جامعة عمر المختار العد 12 خريف 2006
والتي جاءت تحت عنوان(حرية التفكير وحق التعبير بين الحرية والحفاظ على الهويّة ونشرتها مجلة المجال الصادرة عن جامعة عمر المختار العد 12 خريف 2006
الفكر هو نتاج عمليّة ذهنيّة، ونشاط عقلي خالص، وهو نتاج عمليّة كثيرة التعقيد تتمّ بربط المقدّمات بالنتائج، والوقائع الحسّيّة بالمفاهيم والمعاني المجرّدة، والانتقال من الجزئي إلى الكلّي.. كما تتم كذلك بالقدرة على الاستنتاج والتحليل والتركيب وربط النتائج بأسبابها.. وهو فوق ذلك عمليّة معقّدة لارتباطها بالتطوّر الاجتماعي.. فبالرغم من أنها عمليّة ذاتيّة محضة تصدر عن ذات الفرد وفق ظروفه الخاصة به دون غيره ، إلاّ أنها على ارتباط وثيق بالظروف الاجتماعيّة العامّة كالمناخ والبيئة التي يحيا الفرد في وسطها. لأنّ هذه الظروف قد تلعب دورا في تغيير مسار فكر الفرد. نضيف إلى ذلك كون هذه العمليّة تتم وفق مسار بنية العقل التي يحتازها الفرد والتي توظّف هذا الفكر لتحقيق مهامها وأغراضها وغاياتها.وكذا الإبداع الذي هو بنية فاعلية لغوية تخيّليّة أوسع مدى من حدود بنية الفاعليّة الواقعيّة السائدة. والممارسة الإبداعيّة دائما ما تتم من خلال تجاوز، والمبدع شخص تيسّر له تجاوز البنية السائدة ومن ثم أمكن تفعيل البنية الخلاّقة لديه..
ولكن هذا الفكر يحتاج إلى الإفصاح عنه، وهذا الإبداع يحتاج إلى إطلاقه، ومن هنا فإن حق التعبير يقصد به إمكانية الفرد أو مقدرته على التعبير عن كافة الآراء والأفكار التي يحملها أو التي يتوصّل إليها أيّا كانت تلك الأفكار..
. الفرد حرّ في أن يفكر في أيّ شيء يريد، وأن ينتقل من المنطقي إلى الخيالي .. من المادي إلى المثالي ، من الواقعي إلى الطوباوي، من التوهّمي إلى المنطقي.. ليس هناك من يمنع التفكير، أو يعبث بحريته في صورته الذاتية أو هيئته الأولى، ولكن هل هو حر في أن يعبّر عن فكره هذا؟ باللغة المكتوبة أو المنطوقة أو الفعل؟ والفكر " يرتبط ارتباطا لا ينفصم بأنشطة العمل والكلام التي هي من الخصائص المميّزة للمجتمع الإنسانيّ وحده"(1) من هنا جاءت أهميّة طرح الندوة لحرّية التفكير وحق التعبير.بين الحرّية وحماية الهويّة...
لقد دعا الدين الإسلامي إلى الحرّيّة بمختلف أنواعها الفكريّة منها والدينيّة قال تعالى" لا إكراه في الدّين قد تبيّن الرشد من الغي"(2). ورسالة عمر بن الخطّاب لأبي موسى الأشعري قد فتحت الباب أمام الاجتهاد والتفكير. ومقولته) متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا) فتحت الطريق إلى الحرّية ونبذ العبوديّة واستنكارها، وتأسيس الإعلان لحقوق الإنسان.
وحرّية التفكير وحق التعبير تندرج في الأساس مع بقيّة الحريّات وحقوق الإنسان التي سعت البشريّة لتأكيدها بالعديد من الإعلانات والدساتير والوثائق، وآخرها " الوثيقة الخضراء الكبرى لحقوق الإنسان في عصر الجماهير" والتي صدرت في 12 الصيف 1988 إفرنجي، والتي أكّدت على حريّة التفكير والبحث العلمي والابتكار إلى غير ذلك من كامل الحريّات والحقوق، حيث فتحت الباب على مصراعيه لحرّية التفكير وحق التعبير.. مرتكزة على ما جاء به الكتاب الأخضر من" أن الشخص الطبيعي حر في التعبير عن نفسه ولو تصرّف بجنون ليعبّر عن أنه مجنون. والشخص الاعتباري هو أيضا حر في التعبير عن شخصيّته الاعتباريّة. ولكن في كلتا الحالتين لا يمثل الأوّل إلاّ نفسه. ولا يمثّل الثاني إلاّ مجموعة الأشخاص الطبيعيين المكوّنين لشخصيّته الاعتباريّة. المجتمع يتكوّن من العديد من الأشخاص الطبيعيين والعديد من الاعتباريين. إذن تعبير شخص طبيعي عن أنه مجنون مثلا لا يعني أن بقيّة أفراد المجتمع مجانين كذلك. أي أن تعبير شخص طبيعي لا يعني إلا التعبير عن نفسه، وتعبير شخص اعتباري لا يعني إلاّ التعبير عن مصلحة أو رأي مجموعة المكوّنين لتلك الشخصيّة الاعتباريّة."(3)
وإذا كان من الطبيعي للفرد هذا الحق في التفكير والتعبير، فما الذي حال دونه على مسار البشريّة حتى أضحى من الأهميّة بمكان أن تؤكد عليه هذه الإعلانات وتلك الدساتير وهذه الوثائق، بل أصبح هدفا تتم المطالبة به والنضال من أجله؟
فكما تخلّصت الإنسانية من الهيمنة على الأجساد وتطويعها واستعبادها واسترقاقها، تسعى الإنسانيّة لإخراج البشر من دائر الهيمنة على الفكر وحجر الرأي أو سلب حق التعبير..
إن العصر هو عصر الحريّات واسترداد الحقوق وأولاها وأهمها حق التفكير والإبداع وحق التعبير عن هذا الفكر وذلك الإبداع.. وإذا كانت المجتمعات ذات القوى الامبريالية المهيمنة والمسيطرة توظّف كامل قدراتها وإمكاناتها لقمع وكبت وقهر واسغلال الشعوب.. فإن في مجتمعاتنا كذلك هذه النزعة الموروثة لقهر الأفراد من عهود الظلم والاستغلال والعسف والتي أورثتنا الخوف من التعبير عن فكرنا، وهو حق يكتسبه الفرد منذ انتمائه لعالم الأحياء..
لقد أسهمت في سلب هذا الحق:
ــ الحكومات بحكم كونها قد نصّبت نفسها مثقّفا واعيا كبيرا ومفكرا تنوب عن الآخرين، وتمتلك منابر الكلمة، وتسيطر على عقول رعاياها، وتمارس القمع لمن يخالف توجهها أو يعارض مخططاتها.
ــ السلطة الدينيّة بحكم كونها قد نصّبت نفسها الراعية للدين والمدافعة عنه والمفسّرة له والحافظة لقوانينه، ممتلكة حق الفتوى، وحق التفكير والتكفير وحتى صك الغفران.
ــ السلطة التعليمية بحكم كونها استمدّت هذا الحق من السلطة السياسية، ومن ثم تحصر الطلاب في مناهج محدّدة وأفكار معيّنة وتمارس التلقين والقمع من قبل الأستاذ الذي يتقاضى راتبا شهريا نظير تلقينه جزءا محددا من المعارف عليه ألاّ يتجاوزه وإلاّ فقد معاشه وتعرّض للمساءلة..
ــ السلطة الاجتماعية بحكم كونها الوارث الوحيد للعادات والتقاليد والأعراف والأصول المرعيّة في المجتمع، وتستمد سلطانها من ما أقرّه الأسلاف من قوانين اجتماعيّة وأعراف دون مراعاة المتغيّر الزماني والمكاني وتجدّد أشعّة الشمس كلّ يوم..
ــ السلطة الإعلاميّة الحكوميّة والتجاريّة والعقائديّة تمارس دورها في الهيمنة على العقول دون إتاحة الفرصة للتعبير عن الأفكار الجديدة أو المخالفة..
ومساحة التاريخ وحتى العصر الحديث والمعاصر تشهد بهذ القمع عبر مجتمعاتنا المتعصّبة ونحن ندرك أن المجتمع المتعصّب هو مجتمع " مبدّد للطاقة الإنسانيّة الخلاّقة، هادر لها بنزاعاته وخلافاته الداخليّة ومشاحناته وعداواته الفئويّة التي دافعها الانتقام والثأر والنكاية والحسد والغيرة وسوى ذلك."(4)
فأحمد بن حنبل ألقي به في السجن وعذّب وضرب بالسياط ومكث نحوا من ثلاثين شهرا في السجن (5)
ليس ابن حنبل هو فقط من مرّ بأزمة نتيجة اجتهاده في الرأي، فابن رشد كذلك واجه محنة كبيرة حيث وجهت له التهم بالكفر والزندقة والإلحاد وأحرقت كتبه ونفي إلى قرية يهوديّة تقــع إلى الجنوب الشرقي من قرطبة تسمّى "إيسانة"(6)
ورفاعة الطهطاوي، كان نصيرا للحريّة الفرديّة، ولكنه نفي خارج بلاده.. وعبد الرحمن الكواكبي عايش هذه الأزمة وذلك القمع للحريّات حينما منع من نشر كتابيه" طبائع الاستبداد" و "أم القرى"(7) .
ومحمد عبده نصير الفكر الحر، والذي كان دائما يشيد بمبدأ الاجتهاد أي الفكر المتحرّر من كل عائق ناصبه الفقهاء العداء، واتهموه بالكفر والإلحاد وشنّوا الحملات ضدّه" فجسّد لنا التمرّد والانفلات على السائد وكيفية محاربة البنية له"(8)
أما على عبد الرازق فقد تعرّض لأزمة كبيرة بإصداره كتابه(الإسلام وأصول الحكم) حيث سحبت منه الشهادة العالمية من الأزهر وفصل عن عمله وعزل تماما، وكان مدانا من الأزهر وقطاعات مدنيّة أخرى (9) .
وطه حسين حينما أصدر كتابه " الشعر الجاهلي" محاولا استخدام المنهجيّة الديكارتيّة في الشك، واجه العداء وألقيت عليه الكثير من الاتهامات.. فتراجع عن ما تبناه من أفكار في كتابه بحذفها في طبعة جديدة للكتاب بعنوان "في الأدب الجاهلي".
ومحمود محمد طه في محاولاته تقديم قراءة جديدة للدين والنص الديني وفق رؤية معاصرة وجه الأصوليون له تهما عديدة مثل الزندقة والكفر والإلحاد، وتم إعدامه شنقا وقد تجاوز السبعين من العمر في العام 1985 .
أما عن الشعراء فحدّث ولا حرج من فيلسوف شاعر أو شاعر فيلسوف من واقعي رافض أو رافض متمرّد وما عانوه من تهميش ونفي وتعذيب وسجن وتغريب من ابن عباد وابن زيدون وابن عمّار إلى البارودي حتي نصل إلى الجواهري الذي اغترب حتى وفاته ومن مظفر النوّاب حتى أمل دنقل الذي تمثل مشروعه في مخالفته للسلطة السياسية بطرحه لعدد من الأفكار ينتقد فيها السلطة السياسية لقمعها للإبداع والمبدعين. ولتوجهها للصلح مع العدو الصهيوني.. والذي ظل متمسكا بوطنيته وبعروبته رغم معاداة السلطة السياسية له ملتجئا كما يقول إلى الشعب العربي ذلك الجبل الصامد الذي لا يموت. كثير من الشعر قيل داخل السجون وكثير من الشعر أورد أصحابه الزنازين والنفي والاغتراب والتعذيب في مختلف العصور .. وكثير من الروايات والقصص القصيرة والأعمال الإبداعيّة الأخرى تمت مصادرتها، وتم تشويه أصحابها وتهميشهم وحظرهم من النشر..
وحين ننظر إلى الأمر من خلال التحليل الفاعلي نتفق والنتيجة التي خلص إليها أ. الشيخ محمد الشيخ والتي مفادها " أن المصدر الأساسي للشر في العالم هو استغلاق بنية العقل، وبما أن كلا من بنيتي العقل الأوّلي(التناسلي) والمادي (البرجوازي) مستغلقتان فإن البشرية ستعاني طالما ظلّت تحت هيمنة وسيادة هاتين البنيتين"(10)
والتحليل الفاعلي مقترح نظري يتصدّى لأزمة الإنسان المعاصر متعدد الأبعاد: اقتصادية اجتماعية ، نفسية، وجوديّة ومعرفيّة.. وهو يعرّف الإنسان بأنه فاعليّة، وأن فاعليّته وقدرته على إثراء الحياة الإنسانيّة نسبيّة في إطار البنية المغلقة.. وهذه الفاعليّة التي من خلالها يثري الإنسان الحياة جمعاء على ثلاث درجات( فاعليّة أوّلية ــ تناسليّة يعي الإنسان نفسه فيها كائنا مهمته ودوره في الحياة التناسل.. وفاعليّة مادّيةــ برجوازيّة يعي الإنسان نفسه فيها كائنا اقتصاديا مهمته ودوره في الحياة الجمع والاستحواذ علي الخيرات الماديّة.. وفاعليّة خلاّقة يعي الإنسان نفسه في هذه الحياة كائنا نشطا مهمته الحب والإبداع والعطاء الشامل.).
اثنتان من هذه الفاعليات محدودتان وقاصرتان لأنهما متدنّيتان في المستوى الفاعلي.. والبنى الثلاث يستدمجها الفرد، وبينما تسود بنية ذات طبيعة فاعلية على المستوى التناسلي مثلا (على مستوي الفرد أو المجتمع ) فإن ذلك لا يعني أن لا وجود للفاعليتين الأخريين بل على العكس هناك تفاعل ديناميكي بين البنيات الثلاث.. ولكن البنية السائدة هي التي تعمل على توظيف البنيتين الأخريين لخدمة مصالحها وأغراضها..
وبشكل عام تحاول كل بنية إذا ما كانت هي المسيطرة، بمعنى استدماج غالبية أفراد المجتمع طبيعة فاعليّتها أن تشد أو تجذب كل الأفراد إلى دائرتها، وأن تعمل على تطويقهم وتوظيفهم لإعادتها أو إعادة إنتاجها بشكل لا شعوري.. لأنها تعمل وفق سماتها وخصائصها المحدودة والمغلقة على توطيد أسسها بسلسلة من القواعد والقوانين الضابطة أو الميكانيزمات بحيث لا يتجاوزها أحد الأفراد.. ومن هنا يستمر ثبات البنية واتزانها.
وفي مثل هذا الوضع ترفض البنية كل طرح فكري جديد أو مشروع إنساني مخالف أو مناهض لمبادئ فاعليتها المحدودة المتدنية.. ففي ذلك الجديد من الفكر تهديد لأمنها واستقرارها وهدم لأسسها وقواعدها وتقويض لدعائمها ونظمها.. لذلك تحاول إلقاء العقوبات الصارمة على كل من يحاول تقديم إبداع جديد مخالف وتدعوه بدعة ومن ثم ضلالة.. وهذه العقوبات قد تكون عن طريق الأنظمة الحكوميّة أو الدينيّة أو الاجتماعيّة..
فعندما تسود البنية تكون قد وظّفت كل ما في المجتمع لمهامها وأغراضها، فشكل النظام السياسي يخدم أغراضها ، والجوانب الدينيّة تعمل على تثبيتها.. كما تسيطر على المفاهيم والقيم والعادات من الناحية الاجتماعيّة.
كل ذلك يشكّل ضوابط أو آليات ضبط البنية حتى تعاقب من يخالف هذه القيم من منفلتين أو متمرّدين حتى يسقطوا في فضائها الدلالي مرة أخرى ..فأيّ محاولة للانفلات أو التمرّد على البنية السائدة وتفعيل أبستيمة بنية أخرى جديدة، تقابل بالرفض والعداء والقوانين السائدة والمهيمنة.. والبنية في الأساس هي تركيب نفسي اجتماعي يعي الإنسان نفسه في حدود فاعلية معيّنة، ويعي كذلك علاقاته الاجتماعيّة ومعارفه وقيمه في حدود نفس الفاعليّة سواء أكانت فاعليّة قصور أم فاعليّة إبداع وعطاء.
علما بأنّ هذه البنى السائدة هناك ضرورات اجتماعيّة وتاريخيّة أدّت إلى سيادتها، وفي ظل هذه الشروط تحافظ على بقاء وصيرورة المجتمع.. حاليا أضحت سيادة هذه البنى عائقا نتيجة المستجدّات الاجتماعيّة والحضاريّة ونتيجة التطوّر والإيقاع المتسارع للحياة، ومن ثمّ أضحت الحاجة للممارسة الإبداعيّة والفكريّة بحرّية أكبر أكثر إلحاحا لتجاوز هذه البنى التي أضحت عائقا تحول دون إحداث نقلة نوعيّة من دائرة البشريّة إلى دائرة الإنسانيّة.
لذا فإن الدعوة لحريّة التفكير وحق التعبير، إنما هي دعوة نابعة من بنية وعي خلاّق ، أما حماية الهويّة فإنما تعني هويّة البنية الفاعلة والعاملة والسائدة حيث تتعدّد مفاهيمها وتتشظّى دلالاتها.. ولكن لكل بنية وعي مفهومها الخاص للهويّة ، يعي الإنسان هويّته من خلال فاعليّة بنية وعيه، ومن ثم يحتمي بها وقد يصل الحد الذي يجعلها عائقا أمام حرّية الإبداع والتفكير والتعبير.. حيث تستأثر البنى المستغلقة والقاصرة (الأوّلية التناسليّة والماديّة البرجوازيّة) على المجتمعات السائدة في الشرق وفي الغرب .. وكلتاهما تعملان على ثباتهما وسيادتهما وفق خصائص وسمات كل منها.. حيث يشكل مرتكز (الأنا) ودونيّة النظرة للآخر ـ أيّ آخرــ عصب هاتين البنيتين للوعي.. فكل بنية تعي ذاتها الأفضل عرقا ودينا ولغة ولونا وثقافة.. لذا فهي تغلق الباب في وجه هذا الآخر.. وتفاخر بذاتها أنها تشرب الماء الصفو عند ورودها والآخر يشرب الكدر والطين.أو أنها شعب الله المختار..
كما يشكل مرتكز التعصّب والعصبيّة عصبا كذلك لهاتين البنيتين.. فكل بنية ترى أن ما لديها هو الأفضل ومن ينتسب إليها هو الأرقى.. لذا فكلتاهما تمارسان النبذ والإقصاء واستباحة الآخر.. وكل منهما يدّعي امتلاك الحقيقة..
لذا فقد أسكتت البنية المسيطرة القاصرة كل المشاريع الفكرية في جميع المجالات بفرضها آليات ضبط في شكل عقوبات وجزاءات على كل من يتطاول على برامج عطائها، ويحاول خلخلة ثوابتها، فتمنع كل نقد يقوم به المفكرون وتحجر على كل رأي يخالفها واصفة إيّاه بالتمرد على الحرمات أو تجريح الكرامات أو نقص في التهذيب أو وقاحة أو خروج على نظام الجماعة وآدابها وتراثها ومقدساتها وتطاول على كبارها ورموزها وأصحاب المقام فيها.. وبذلك تتعطّل ملكة النقد وتدمّر الطاقة الفكرية المبدعة أو يتم الحجر عليها..
فمساحة التفكير تسهم البنية السائدة في تقليص مساحتها أو تضييق الخناق عليها أو في تنميتها وإثرائها وخلق مناخ صحّي لها.. فالبنية التي تحول دون التنوّع والتعدد أو تلك التي تحظر الاجتهاد أو تعتمد النقل وتمارس أسلوب التلقين، تكون بذلك قد جرّدت الإنسان من ممارسة حقّه في التفكير.
لقد أجرت باحثة سويديّة تدعى " مارينا استاغ" دراسة تطبيقيّة حول " حدود حريّة التعبير" اختارت ظاهرة محدّدة وهي سقف الحريّة التي يتمتّع بها كتّاب القصّة القصيرة في مصر في ثلاثة عقود منذ الخمسينيات وحتى بداية الثمانينيات. حيث ترى أن الإبداع القصصي هو أكثر أشكال الإبداع ارتباطا بحركة المجتمع وأن هذا الإبداع غالبا ما يصطدم بعوائق تتمثل في الممنوعات والمحرّمات الاجتماعيّة نتيجة للمنظومة القيميّة السائدة(السياسية، الدينيّة، الأخلاقيّة)..
ترى الكاتبة أنّ الحريّة قرينة الإبداع، وأن مؤشّر قمع الحريّة هو أهم مؤشر لتدخّل المجتمع (البنية السائدة) في تكييف الإنتاج الأدبي لا عند ممارسة هذا المجتمع للحظر فحسب ولكن حتى قبل أن يمارس هذا الحظر لدى الكاتب ذاته، بمعنى أن الكاتب الذي يعرف بحكم خبرته الاجتماعيّة أو طبيعة تفكير البنية السائدة في المجتمع أن أعماله تمنع إذا اتسمت ببعض الجرأة ، فإنه يمارس على نفسه نوعا من الرقابة الداخليّة.. فالرقابة الخارجيّة تنتج رقابة داخليّة يمارسها الكتّاب على ذواتهم..
ومن هنا يستقيم الربط للتطوّر الحضاري لمجتمع من المجتمعات بالتطوّر الإبداعي لكتّابه.. وأنّ قياس مستوياته يكون بمدى ما يتاح لهؤلاء الكتاب من هامش حرية يضيق أو يتسع في نشر أعمالهم التي تخالف منظومة القيم المستقرّة في المجتمع والتي تزعم السلطات المتعدّدة في المجتمع أنها راعية لهذه المنظومة والحريصة على عدم المساس بها ، وهي في حقيقة الأمر ترعى مصلحتها ومصلحة المؤسسات التي تنتمي إليها (11)
والحقيقة تتجلّى وفق منهج التحليل الفاعلي في أنّ الفاعليات الثلاث لبنى الوعي في حراك ديناميكي لدى كل فرد في المجتمع، ولكن البنية السائدة في هذا المجتمع أي التي يحتازها غالبية أفراده هي التي تفرض نهجها وقيمها وتسعى لاستقرارها وثباتها، وتحارب الخارجين عليها.. وما السلطات المهيمنة من سياسية أو دينيّة أو أخلاقية إلاّ نتاج بنية الوعي السائدة في هذا المجتمع أو ذاك.. ومن ثم فهذه السلطات محكومة أصلا بآليات ضبط وقواعد ثبات واستقرار البنية، لذا فلا يمكن أن تتساهل في الأمر، حتى في الجاهليّة فقد شقّ عليهم أن يخالفوا ما وجدوا عليه آباؤهم ..
أما الأعمال الإبداعية التي تسعى إلى تحريك منظومات قيم البنية السائدة، ولكنها تؤدى بطريقة نوعيّة بالغة المكر والدهاء عندما تعمد إلى الرمز والمجاز، أو باستخدام تقنيات فنية عالية الإتقان يستطيع أن ينجو من المؤاخذة المباشرة لهذه السلطات، ويكون خطابه الإبداعي أكثر قدرة وفاعليّة في خلخلة منظومة قيم البنية السائدة، ومن ثم عمل حراك في المجتمع، بما في ذلك عندما يلجأ لاستخدام خطاب البنية السائدة مستهدفا إحداث نقلة نوعية على مستوى بنى الوعي بين أفراد المجتمع
نخلص بهذا إلى أن دعوة بنية العقل الخلاّق لبنيتين للوعي سائدتين في الشرق وفي الغرب إنما تتمثل في تخفيف غلوائهما، وأن يمنحا الحقوق لأصحابها، وأن لا يتم خداع الإنسان بالالتفاف على هذه الحقوق تحت أيّ ادّعاء. وإلاّ تمّ سحب البساط من تحت أقدامها. فما تتضمنه الوثائق والإعلانات الدولية والقوانين ، وما يطبّق على أرض الواقع يختلف بتبريرات متعدّدة وحجج مختلفة .. وعلى الإنسان أن يعي أن حقّه في التعبير ينبغي أن لا تستلبه أيّة جهة كانت.. وأن مشاركته الفعليّة في حياته السياسية والاجتماعيّة والثقافية ينبغي أن تكون مشاركة فعليّة يستطيع من خلالها أن يعبّر عن رأيه وأن يتّخذ قراره وأن يطلق إبداعاته.. بمعنى أنّ البشريّة ينبغي أن تخطو خطوات واسعة نحو الإنسانيّة.. وذلك بوعي الفاعليّة وتفعيل أبستيمة بنية فاعلية الوعي الخلاّق.. فاعليّة الإبداع والمحبّة والعطاء الشامل..
إنني أقترح العمل على إقامة ندوة تؤسس لكيفية الارتقاء ببنية الوعي التي أدت دورها واستنفدت مهامها وأغراضها منذ قرون..
لقد أسهم الإسلام في إحداث نقلة نوعيّة في بنية الوعي التي كانت مشحونة بالطيش والنزق وسرعة الانفعال (الجهل) وكل صفات الجاهليّة.. إلى نشر التسامح والإخاء والمساواة والعدالة والحرية وحب وإبداع.. ولكن البنية السائدة والمتجذّرة منذ قرون عادت ووظّفت الخطاب الديني لصالحها ولا زالت.. وفسّرته وفق منظومتها القيميّة..
الآن نحن بحاجة إلى تأسيس جديد لإحداث نقلة نوعيّة جديدة هذه المرة.. للارتقاء بالوعي الانساني الذي مازال مشحونا بالتوتر والتعصب والجاهلية في الشرق أو في الغرب.. من أجل الوعي بالفاعلية وكيفية الانتقال من بنية وعي القصور أولية تناسلية أو برجوازية مادية إلى بنية وعي خلاق ووعي مفتوح مبدع يكون فيه الوعي وعي عطاء ومحبة وتسامح.. عندها نستطيع أن نستوعب الآخر وأن نفهم أي ديمقراطية نريد وكيف وما هي الحرية وكيف نكفل حق التعبير .. بل ونؤسس لهوية إنسانية تدعو الآخر لها من خلال وعينا بذاتنا وبالآخر.. وإدراك قصورنا وقصور الآخر....
الهوامش:
(1) م. روزنتال، الموسوعة الفلسفيّة، تر: سمير كرم، ط4 ، دار الطليعة، بيروت، 1981، ص332.
(2) البقرة، 256.
(3) معمر القذافي، الكتاب الأخضر،ص67
(4) عبد العزيز قباني، العصبيّة بنية المجتمع العربي، ط1، دار الآفاق الجديدة، بيروت 1997 ، ص69 .
(5) أبو الحسن علي الحسني، رجال الفكر والدعوة في الإسلام، ط1 (مطبعة جامعة دمشق 1960 ) ص 117.
(6) محمد علي أبو ريّان، تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام، دار المعرفة الجامعيّة، مصر 1996 ، ص 503.
(7) المرجع السابق ، ص28 .
(8) ندى عبد السميع، أزمة الحرية الفكرية المعاصرة في الوطن العربي،رسالة ماجستير،جامعة قاريونس،ص42
(9) المرجع السابق، ص43.
(10) الشيخ محمد الشيخ، التحليل الفاعلي نحو نظرية حول الإنسان.
(11) صلاح فضل، مناهج النقد المعاصر،دار الآفاق العربية،ط1، 1997 ، ص 50 ـ 52 .
.
لقد دعا الدين الإسلامي إلى الحرّيّة بمختلف أنواعها الفكريّة منها والدينيّة قال تعالى" لا إكراه في الدّين قد تبيّن الرشد من الغي"(2). ورسالة عمر بن الخطّاب لأبي موسى الأشعري قد فتحت الباب أمام الاجتهاد والتفكير. ومقولته) متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا) فتحت الطريق إلى الحرّية ونبذ العبوديّة واستنكارها، وتأسيس الإعلان لحقوق الإنسان.
وحرّية التفكير وحق التعبير تندرج في الأساس مع بقيّة الحريّات وحقوق الإنسان التي سعت البشريّة لتأكيدها بالعديد من الإعلانات والدساتير والوثائق، وآخرها " الوثيقة الخضراء الكبرى لحقوق الإنسان في عصر الجماهير" والتي صدرت في 12 الصيف 1988 إفرنجي، والتي أكّدت على حريّة التفكير والبحث العلمي والابتكار إلى غير ذلك من كامل الحريّات والحقوق، حيث فتحت الباب على مصراعيه لحرّية التفكير وحق التعبير.. مرتكزة على ما جاء به الكتاب الأخضر من" أن الشخص الطبيعي حر في التعبير عن نفسه ولو تصرّف بجنون ليعبّر عن أنه مجنون. والشخص الاعتباري هو أيضا حر في التعبير عن شخصيّته الاعتباريّة. ولكن في كلتا الحالتين لا يمثل الأوّل إلاّ نفسه. ولا يمثّل الثاني إلاّ مجموعة الأشخاص الطبيعيين المكوّنين لشخصيّته الاعتباريّة. المجتمع يتكوّن من العديد من الأشخاص الطبيعيين والعديد من الاعتباريين. إذن تعبير شخص طبيعي عن أنه مجنون مثلا لا يعني أن بقيّة أفراد المجتمع مجانين كذلك. أي أن تعبير شخص طبيعي لا يعني إلا التعبير عن نفسه، وتعبير شخص اعتباري لا يعني إلاّ التعبير عن مصلحة أو رأي مجموعة المكوّنين لتلك الشخصيّة الاعتباريّة."(3)
وإذا كان من الطبيعي للفرد هذا الحق في التفكير والتعبير، فما الذي حال دونه على مسار البشريّة حتى أضحى من الأهميّة بمكان أن تؤكد عليه هذه الإعلانات وتلك الدساتير وهذه الوثائق، بل أصبح هدفا تتم المطالبة به والنضال من أجله؟
فكما تخلّصت الإنسانية من الهيمنة على الأجساد وتطويعها واستعبادها واسترقاقها، تسعى الإنسانيّة لإخراج البشر من دائر الهيمنة على الفكر وحجر الرأي أو سلب حق التعبير..
إن العصر هو عصر الحريّات واسترداد الحقوق وأولاها وأهمها حق التفكير والإبداع وحق التعبير عن هذا الفكر وذلك الإبداع.. وإذا كانت المجتمعات ذات القوى الامبريالية المهيمنة والمسيطرة توظّف كامل قدراتها وإمكاناتها لقمع وكبت وقهر واسغلال الشعوب.. فإن في مجتمعاتنا كذلك هذه النزعة الموروثة لقهر الأفراد من عهود الظلم والاستغلال والعسف والتي أورثتنا الخوف من التعبير عن فكرنا، وهو حق يكتسبه الفرد منذ انتمائه لعالم الأحياء..
لقد أسهمت في سلب هذا الحق:
ــ الحكومات بحكم كونها قد نصّبت نفسها مثقّفا واعيا كبيرا ومفكرا تنوب عن الآخرين، وتمتلك منابر الكلمة، وتسيطر على عقول رعاياها، وتمارس القمع لمن يخالف توجهها أو يعارض مخططاتها.
ــ السلطة الدينيّة بحكم كونها قد نصّبت نفسها الراعية للدين والمدافعة عنه والمفسّرة له والحافظة لقوانينه، ممتلكة حق الفتوى، وحق التفكير والتكفير وحتى صك الغفران.
ــ السلطة التعليمية بحكم كونها استمدّت هذا الحق من السلطة السياسية، ومن ثم تحصر الطلاب في مناهج محدّدة وأفكار معيّنة وتمارس التلقين والقمع من قبل الأستاذ الذي يتقاضى راتبا شهريا نظير تلقينه جزءا محددا من المعارف عليه ألاّ يتجاوزه وإلاّ فقد معاشه وتعرّض للمساءلة..
ــ السلطة الاجتماعية بحكم كونها الوارث الوحيد للعادات والتقاليد والأعراف والأصول المرعيّة في المجتمع، وتستمد سلطانها من ما أقرّه الأسلاف من قوانين اجتماعيّة وأعراف دون مراعاة المتغيّر الزماني والمكاني وتجدّد أشعّة الشمس كلّ يوم..
ــ السلطة الإعلاميّة الحكوميّة والتجاريّة والعقائديّة تمارس دورها في الهيمنة على العقول دون إتاحة الفرصة للتعبير عن الأفكار الجديدة أو المخالفة..
ومساحة التاريخ وحتى العصر الحديث والمعاصر تشهد بهذ القمع عبر مجتمعاتنا المتعصّبة ونحن ندرك أن المجتمع المتعصّب هو مجتمع " مبدّد للطاقة الإنسانيّة الخلاّقة، هادر لها بنزاعاته وخلافاته الداخليّة ومشاحناته وعداواته الفئويّة التي دافعها الانتقام والثأر والنكاية والحسد والغيرة وسوى ذلك."(4)
فأحمد بن حنبل ألقي به في السجن وعذّب وضرب بالسياط ومكث نحوا من ثلاثين شهرا في السجن (5)
ليس ابن حنبل هو فقط من مرّ بأزمة نتيجة اجتهاده في الرأي، فابن رشد كذلك واجه محنة كبيرة حيث وجهت له التهم بالكفر والزندقة والإلحاد وأحرقت كتبه ونفي إلى قرية يهوديّة تقــع إلى الجنوب الشرقي من قرطبة تسمّى "إيسانة"(6)
ورفاعة الطهطاوي، كان نصيرا للحريّة الفرديّة، ولكنه نفي خارج بلاده.. وعبد الرحمن الكواكبي عايش هذه الأزمة وذلك القمع للحريّات حينما منع من نشر كتابيه" طبائع الاستبداد" و "أم القرى"(7) .
ومحمد عبده نصير الفكر الحر، والذي كان دائما يشيد بمبدأ الاجتهاد أي الفكر المتحرّر من كل عائق ناصبه الفقهاء العداء، واتهموه بالكفر والإلحاد وشنّوا الحملات ضدّه" فجسّد لنا التمرّد والانفلات على السائد وكيفية محاربة البنية له"(8)
أما على عبد الرازق فقد تعرّض لأزمة كبيرة بإصداره كتابه(الإسلام وأصول الحكم) حيث سحبت منه الشهادة العالمية من الأزهر وفصل عن عمله وعزل تماما، وكان مدانا من الأزهر وقطاعات مدنيّة أخرى (9) .
وطه حسين حينما أصدر كتابه " الشعر الجاهلي" محاولا استخدام المنهجيّة الديكارتيّة في الشك، واجه العداء وألقيت عليه الكثير من الاتهامات.. فتراجع عن ما تبناه من أفكار في كتابه بحذفها في طبعة جديدة للكتاب بعنوان "في الأدب الجاهلي".
ومحمود محمد طه في محاولاته تقديم قراءة جديدة للدين والنص الديني وفق رؤية معاصرة وجه الأصوليون له تهما عديدة مثل الزندقة والكفر والإلحاد، وتم إعدامه شنقا وقد تجاوز السبعين من العمر في العام 1985 .
أما عن الشعراء فحدّث ولا حرج من فيلسوف شاعر أو شاعر فيلسوف من واقعي رافض أو رافض متمرّد وما عانوه من تهميش ونفي وتعذيب وسجن وتغريب من ابن عباد وابن زيدون وابن عمّار إلى البارودي حتي نصل إلى الجواهري الذي اغترب حتى وفاته ومن مظفر النوّاب حتى أمل دنقل الذي تمثل مشروعه في مخالفته للسلطة السياسية بطرحه لعدد من الأفكار ينتقد فيها السلطة السياسية لقمعها للإبداع والمبدعين. ولتوجهها للصلح مع العدو الصهيوني.. والذي ظل متمسكا بوطنيته وبعروبته رغم معاداة السلطة السياسية له ملتجئا كما يقول إلى الشعب العربي ذلك الجبل الصامد الذي لا يموت. كثير من الشعر قيل داخل السجون وكثير من الشعر أورد أصحابه الزنازين والنفي والاغتراب والتعذيب في مختلف العصور .. وكثير من الروايات والقصص القصيرة والأعمال الإبداعيّة الأخرى تمت مصادرتها، وتم تشويه أصحابها وتهميشهم وحظرهم من النشر..
وحين ننظر إلى الأمر من خلال التحليل الفاعلي نتفق والنتيجة التي خلص إليها أ. الشيخ محمد الشيخ والتي مفادها " أن المصدر الأساسي للشر في العالم هو استغلاق بنية العقل، وبما أن كلا من بنيتي العقل الأوّلي(التناسلي) والمادي (البرجوازي) مستغلقتان فإن البشرية ستعاني طالما ظلّت تحت هيمنة وسيادة هاتين البنيتين"(10)
والتحليل الفاعلي مقترح نظري يتصدّى لأزمة الإنسان المعاصر متعدد الأبعاد: اقتصادية اجتماعية ، نفسية، وجوديّة ومعرفيّة.. وهو يعرّف الإنسان بأنه فاعليّة، وأن فاعليّته وقدرته على إثراء الحياة الإنسانيّة نسبيّة في إطار البنية المغلقة.. وهذه الفاعليّة التي من خلالها يثري الإنسان الحياة جمعاء على ثلاث درجات( فاعليّة أوّلية ــ تناسليّة يعي الإنسان نفسه فيها كائنا مهمته ودوره في الحياة التناسل.. وفاعليّة مادّيةــ برجوازيّة يعي الإنسان نفسه فيها كائنا اقتصاديا مهمته ودوره في الحياة الجمع والاستحواذ علي الخيرات الماديّة.. وفاعليّة خلاّقة يعي الإنسان نفسه في هذه الحياة كائنا نشطا مهمته الحب والإبداع والعطاء الشامل.).
اثنتان من هذه الفاعليات محدودتان وقاصرتان لأنهما متدنّيتان في المستوى الفاعلي.. والبنى الثلاث يستدمجها الفرد، وبينما تسود بنية ذات طبيعة فاعلية على المستوى التناسلي مثلا (على مستوي الفرد أو المجتمع ) فإن ذلك لا يعني أن لا وجود للفاعليتين الأخريين بل على العكس هناك تفاعل ديناميكي بين البنيات الثلاث.. ولكن البنية السائدة هي التي تعمل على توظيف البنيتين الأخريين لخدمة مصالحها وأغراضها..
وبشكل عام تحاول كل بنية إذا ما كانت هي المسيطرة، بمعنى استدماج غالبية أفراد المجتمع طبيعة فاعليّتها أن تشد أو تجذب كل الأفراد إلى دائرتها، وأن تعمل على تطويقهم وتوظيفهم لإعادتها أو إعادة إنتاجها بشكل لا شعوري.. لأنها تعمل وفق سماتها وخصائصها المحدودة والمغلقة على توطيد أسسها بسلسلة من القواعد والقوانين الضابطة أو الميكانيزمات بحيث لا يتجاوزها أحد الأفراد.. ومن هنا يستمر ثبات البنية واتزانها.
وفي مثل هذا الوضع ترفض البنية كل طرح فكري جديد أو مشروع إنساني مخالف أو مناهض لمبادئ فاعليتها المحدودة المتدنية.. ففي ذلك الجديد من الفكر تهديد لأمنها واستقرارها وهدم لأسسها وقواعدها وتقويض لدعائمها ونظمها.. لذلك تحاول إلقاء العقوبات الصارمة على كل من يحاول تقديم إبداع جديد مخالف وتدعوه بدعة ومن ثم ضلالة.. وهذه العقوبات قد تكون عن طريق الأنظمة الحكوميّة أو الدينيّة أو الاجتماعيّة..
فعندما تسود البنية تكون قد وظّفت كل ما في المجتمع لمهامها وأغراضها، فشكل النظام السياسي يخدم أغراضها ، والجوانب الدينيّة تعمل على تثبيتها.. كما تسيطر على المفاهيم والقيم والعادات من الناحية الاجتماعيّة.
كل ذلك يشكّل ضوابط أو آليات ضبط البنية حتى تعاقب من يخالف هذه القيم من منفلتين أو متمرّدين حتى يسقطوا في فضائها الدلالي مرة أخرى ..فأيّ محاولة للانفلات أو التمرّد على البنية السائدة وتفعيل أبستيمة بنية أخرى جديدة، تقابل بالرفض والعداء والقوانين السائدة والمهيمنة.. والبنية في الأساس هي تركيب نفسي اجتماعي يعي الإنسان نفسه في حدود فاعلية معيّنة، ويعي كذلك علاقاته الاجتماعيّة ومعارفه وقيمه في حدود نفس الفاعليّة سواء أكانت فاعليّة قصور أم فاعليّة إبداع وعطاء.
علما بأنّ هذه البنى السائدة هناك ضرورات اجتماعيّة وتاريخيّة أدّت إلى سيادتها، وفي ظل هذه الشروط تحافظ على بقاء وصيرورة المجتمع.. حاليا أضحت سيادة هذه البنى عائقا نتيجة المستجدّات الاجتماعيّة والحضاريّة ونتيجة التطوّر والإيقاع المتسارع للحياة، ومن ثمّ أضحت الحاجة للممارسة الإبداعيّة والفكريّة بحرّية أكبر أكثر إلحاحا لتجاوز هذه البنى التي أضحت عائقا تحول دون إحداث نقلة نوعيّة من دائرة البشريّة إلى دائرة الإنسانيّة.
لذا فإن الدعوة لحريّة التفكير وحق التعبير، إنما هي دعوة نابعة من بنية وعي خلاّق ، أما حماية الهويّة فإنما تعني هويّة البنية الفاعلة والعاملة والسائدة حيث تتعدّد مفاهيمها وتتشظّى دلالاتها.. ولكن لكل بنية وعي مفهومها الخاص للهويّة ، يعي الإنسان هويّته من خلال فاعليّة بنية وعيه، ومن ثم يحتمي بها وقد يصل الحد الذي يجعلها عائقا أمام حرّية الإبداع والتفكير والتعبير.. حيث تستأثر البنى المستغلقة والقاصرة (الأوّلية التناسليّة والماديّة البرجوازيّة) على المجتمعات السائدة في الشرق وفي الغرب .. وكلتاهما تعملان على ثباتهما وسيادتهما وفق خصائص وسمات كل منها.. حيث يشكل مرتكز (الأنا) ودونيّة النظرة للآخر ـ أيّ آخرــ عصب هاتين البنيتين للوعي.. فكل بنية تعي ذاتها الأفضل عرقا ودينا ولغة ولونا وثقافة.. لذا فهي تغلق الباب في وجه هذا الآخر.. وتفاخر بذاتها أنها تشرب الماء الصفو عند ورودها والآخر يشرب الكدر والطين.أو أنها شعب الله المختار..
كما يشكل مرتكز التعصّب والعصبيّة عصبا كذلك لهاتين البنيتين.. فكل بنية ترى أن ما لديها هو الأفضل ومن ينتسب إليها هو الأرقى.. لذا فكلتاهما تمارسان النبذ والإقصاء واستباحة الآخر.. وكل منهما يدّعي امتلاك الحقيقة..
لذا فقد أسكتت البنية المسيطرة القاصرة كل المشاريع الفكرية في جميع المجالات بفرضها آليات ضبط في شكل عقوبات وجزاءات على كل من يتطاول على برامج عطائها، ويحاول خلخلة ثوابتها، فتمنع كل نقد يقوم به المفكرون وتحجر على كل رأي يخالفها واصفة إيّاه بالتمرد على الحرمات أو تجريح الكرامات أو نقص في التهذيب أو وقاحة أو خروج على نظام الجماعة وآدابها وتراثها ومقدساتها وتطاول على كبارها ورموزها وأصحاب المقام فيها.. وبذلك تتعطّل ملكة النقد وتدمّر الطاقة الفكرية المبدعة أو يتم الحجر عليها..
فمساحة التفكير تسهم البنية السائدة في تقليص مساحتها أو تضييق الخناق عليها أو في تنميتها وإثرائها وخلق مناخ صحّي لها.. فالبنية التي تحول دون التنوّع والتعدد أو تلك التي تحظر الاجتهاد أو تعتمد النقل وتمارس أسلوب التلقين، تكون بذلك قد جرّدت الإنسان من ممارسة حقّه في التفكير.
لقد أجرت باحثة سويديّة تدعى " مارينا استاغ" دراسة تطبيقيّة حول " حدود حريّة التعبير" اختارت ظاهرة محدّدة وهي سقف الحريّة التي يتمتّع بها كتّاب القصّة القصيرة في مصر في ثلاثة عقود منذ الخمسينيات وحتى بداية الثمانينيات. حيث ترى أن الإبداع القصصي هو أكثر أشكال الإبداع ارتباطا بحركة المجتمع وأن هذا الإبداع غالبا ما يصطدم بعوائق تتمثل في الممنوعات والمحرّمات الاجتماعيّة نتيجة للمنظومة القيميّة السائدة(السياسية، الدينيّة، الأخلاقيّة)..
ترى الكاتبة أنّ الحريّة قرينة الإبداع، وأن مؤشّر قمع الحريّة هو أهم مؤشر لتدخّل المجتمع (البنية السائدة) في تكييف الإنتاج الأدبي لا عند ممارسة هذا المجتمع للحظر فحسب ولكن حتى قبل أن يمارس هذا الحظر لدى الكاتب ذاته، بمعنى أن الكاتب الذي يعرف بحكم خبرته الاجتماعيّة أو طبيعة تفكير البنية السائدة في المجتمع أن أعماله تمنع إذا اتسمت ببعض الجرأة ، فإنه يمارس على نفسه نوعا من الرقابة الداخليّة.. فالرقابة الخارجيّة تنتج رقابة داخليّة يمارسها الكتّاب على ذواتهم..
ومن هنا يستقيم الربط للتطوّر الحضاري لمجتمع من المجتمعات بالتطوّر الإبداعي لكتّابه.. وأنّ قياس مستوياته يكون بمدى ما يتاح لهؤلاء الكتاب من هامش حرية يضيق أو يتسع في نشر أعمالهم التي تخالف منظومة القيم المستقرّة في المجتمع والتي تزعم السلطات المتعدّدة في المجتمع أنها راعية لهذه المنظومة والحريصة على عدم المساس بها ، وهي في حقيقة الأمر ترعى مصلحتها ومصلحة المؤسسات التي تنتمي إليها (11)
والحقيقة تتجلّى وفق منهج التحليل الفاعلي في أنّ الفاعليات الثلاث لبنى الوعي في حراك ديناميكي لدى كل فرد في المجتمع، ولكن البنية السائدة في هذا المجتمع أي التي يحتازها غالبية أفراده هي التي تفرض نهجها وقيمها وتسعى لاستقرارها وثباتها، وتحارب الخارجين عليها.. وما السلطات المهيمنة من سياسية أو دينيّة أو أخلاقية إلاّ نتاج بنية الوعي السائدة في هذا المجتمع أو ذاك.. ومن ثم فهذه السلطات محكومة أصلا بآليات ضبط وقواعد ثبات واستقرار البنية، لذا فلا يمكن أن تتساهل في الأمر، حتى في الجاهليّة فقد شقّ عليهم أن يخالفوا ما وجدوا عليه آباؤهم ..
أما الأعمال الإبداعية التي تسعى إلى تحريك منظومات قيم البنية السائدة، ولكنها تؤدى بطريقة نوعيّة بالغة المكر والدهاء عندما تعمد إلى الرمز والمجاز، أو باستخدام تقنيات فنية عالية الإتقان يستطيع أن ينجو من المؤاخذة المباشرة لهذه السلطات، ويكون خطابه الإبداعي أكثر قدرة وفاعليّة في خلخلة منظومة قيم البنية السائدة، ومن ثم عمل حراك في المجتمع، بما في ذلك عندما يلجأ لاستخدام خطاب البنية السائدة مستهدفا إحداث نقلة نوعية على مستوى بنى الوعي بين أفراد المجتمع
نخلص بهذا إلى أن دعوة بنية العقل الخلاّق لبنيتين للوعي سائدتين في الشرق وفي الغرب إنما تتمثل في تخفيف غلوائهما، وأن يمنحا الحقوق لأصحابها، وأن لا يتم خداع الإنسان بالالتفاف على هذه الحقوق تحت أيّ ادّعاء. وإلاّ تمّ سحب البساط من تحت أقدامها. فما تتضمنه الوثائق والإعلانات الدولية والقوانين ، وما يطبّق على أرض الواقع يختلف بتبريرات متعدّدة وحجج مختلفة .. وعلى الإنسان أن يعي أن حقّه في التعبير ينبغي أن لا تستلبه أيّة جهة كانت.. وأن مشاركته الفعليّة في حياته السياسية والاجتماعيّة والثقافية ينبغي أن تكون مشاركة فعليّة يستطيع من خلالها أن يعبّر عن رأيه وأن يتّخذ قراره وأن يطلق إبداعاته.. بمعنى أنّ البشريّة ينبغي أن تخطو خطوات واسعة نحو الإنسانيّة.. وذلك بوعي الفاعليّة وتفعيل أبستيمة بنية فاعلية الوعي الخلاّق.. فاعليّة الإبداع والمحبّة والعطاء الشامل..
إنني أقترح العمل على إقامة ندوة تؤسس لكيفية الارتقاء ببنية الوعي التي أدت دورها واستنفدت مهامها وأغراضها منذ قرون..
لقد أسهم الإسلام في إحداث نقلة نوعيّة في بنية الوعي التي كانت مشحونة بالطيش والنزق وسرعة الانفعال (الجهل) وكل صفات الجاهليّة.. إلى نشر التسامح والإخاء والمساواة والعدالة والحرية وحب وإبداع.. ولكن البنية السائدة والمتجذّرة منذ قرون عادت ووظّفت الخطاب الديني لصالحها ولا زالت.. وفسّرته وفق منظومتها القيميّة..
الآن نحن بحاجة إلى تأسيس جديد لإحداث نقلة نوعيّة جديدة هذه المرة.. للارتقاء بالوعي الانساني الذي مازال مشحونا بالتوتر والتعصب والجاهلية في الشرق أو في الغرب.. من أجل الوعي بالفاعلية وكيفية الانتقال من بنية وعي القصور أولية تناسلية أو برجوازية مادية إلى بنية وعي خلاق ووعي مفتوح مبدع يكون فيه الوعي وعي عطاء ومحبة وتسامح.. عندها نستطيع أن نستوعب الآخر وأن نفهم أي ديمقراطية نريد وكيف وما هي الحرية وكيف نكفل حق التعبير .. بل ونؤسس لهوية إنسانية تدعو الآخر لها من خلال وعينا بذاتنا وبالآخر.. وإدراك قصورنا وقصور الآخر....
الهوامش:
(1) م. روزنتال، الموسوعة الفلسفيّة، تر: سمير كرم، ط4 ، دار الطليعة، بيروت، 1981، ص332.
(2) البقرة، 256.
(3) معمر القذافي، الكتاب الأخضر،ص67
(4) عبد العزيز قباني، العصبيّة بنية المجتمع العربي، ط1، دار الآفاق الجديدة، بيروت 1997 ، ص69 .
(5) أبو الحسن علي الحسني، رجال الفكر والدعوة في الإسلام، ط1 (مطبعة جامعة دمشق 1960 ) ص 117.
(6) محمد علي أبو ريّان، تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام، دار المعرفة الجامعيّة، مصر 1996 ، ص 503.
(7) المرجع السابق ، ص28 .
(8) ندى عبد السميع، أزمة الحرية الفكرية المعاصرة في الوطن العربي،رسالة ماجستير،جامعة قاريونس،ص42
(9) المرجع السابق، ص43.
(10) الشيخ محمد الشيخ، التحليل الفاعلي نحو نظرية حول الإنسان.
(11) صلاح فضل، مناهج النقد المعاصر،دار الآفاق العربية،ط1، 1997 ، ص 50 ـ 52 .
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق