الخميس، 24 ديسمبر 2009

أفريقيا بحروف أبنائها
(5)
تشينوا اتشيبي
عبدالرؤوف بابكر السيّد


*نتناول اليوم أحد كبار الروائيين الأفارقة، والذي كان منافسا قويّا ل(شوينكا) لنيل جائزة (نوبل) في الآداب، إنه (تشينوا اتشيبي).
* ولد تشينوا اتشيبي عام 1930 بإحدى قرى شرق نيجيريا، لأب من رجال الكنيسة، وكان جدّه من أوائل النيجيريين الذين تحوّلوا إلى المسيحيّة.
* وفي سن السادسة بدأ تعليمه المنظم، ولما أنهى المرحلة الثانويّة جاءته منحة لدراسة الطب بجامعة(إبادان)، ولكنه سرعان ما ترك الطب بعد عام واحد، وتحوّل إلى دراسة الآداب في الجامعة ذاتها.
* وفي العام 1953 نال البكالريوس، وبدأ حياته العمليّة بالتدريس، ولكنه سرعان ما تركه من أجل العمل بإذعة نيجيريا حيث ترقى في عمله وأصبح مديرا للإذاعة الموجهة عام1961.
* أصدر أولى رواياته عام 1958 في انجلترا بعنوان (الأشياء تتداعى) بعد بعض المحاولات في كتابة القصّة القصيرة، ولاقت الرواية نجاحا كبيرا شجعه على المضي في رحلته الموفقة مع هذا الفن الصعب.
. بعد عامين تلاها بأخرى كان قد جعلها جزءا ثانيا للأولى وهي(لم يعد ثمّة راحة).
*وفي عام 1964 ظهرت روايته الثالثة بعنوان(سهم الله)، وبعد عامين آخرين تلاها بروايته الرابعة(رجل الشعب)
*وفي العام1966 ترك العمل بالإذاعة، بعد حوادث القتل التي تعرّض لها أبناء قومه(الإيبو) وعاد إلى شرق نيجيريا.
*في العام1967 أسس مع الشاعر (كريستوفر أوكيجبو) دارا للنشر، بهدف تشجيع الكتابة لتلاميذ المدارس، ولكن الحرب الأهليّة اشتعلت بعد قليل، وانضمّ (أوكيجبو) إلى جيش (بيافرا)، ولقي مصرعه في أكتوبر من ذلك العام. ونال الدمار بيت (اتشيبي) فتوقف مشروع النشر.
* في العام 1969 وبعد توقف الحرب، سافر (أتشيبي) إلى أمريكا مع(جابرييل أوكارا) و(سيبريان إكوينسي). وطاف الثلاثة بالولايات المتحدة محاضرين بجامعاتها. وعند عودتهم عيّن (أتشيبي) باحثا بمعهد الدراسات الأفريقيّة بجامعة نيجيريا في(نوزاكا) وتولّى تحرير مجلة الجامعة، ومجلة أخرى ثقافيّة اسمها(أوكيكي).
*أصبح مستشارا لسلسلة الكتاب الأفارقة التي أنشأتها(دار هانيمان) البريطانيّة، وهي الدار التي تولت نشر رواياته.
*قضى أربع سنوات(من1972 وحتى1976) أستاذا زائرا في بعض الجامعات الأمريكيّة.
* وفي الثمانينيات استمرّ في تدريس الأدب الأفريقي في(نوزاكا)، وأحيا جمعيّة الأدباء النيجيريين التي توقفت منذ الحرب الأهليّة، وعاد إلى كتابة القصّة القصيرة، وكتب شعرا ومقالات وقصصا للأطفال.
* في تلك الأثناء نال الدكتوراه الفخريّة من جامعة(دارتموث) الأمريكيّة، وفاز بعدد من الجوائز المحلّية البريطانيّة.
*ترجمت روايته الأولى إلى 30 لغة، ورشح لجائزة (نوبل)، ولكنه توقف عن كتابة الرواية نحو عشرين سنة، وفي العام1987 نشر رواية بعنوان" كثبان نمال السهول".
* أطلق (أتشيبي) على نفسه ـ ذات مرّة ـ اسم(عابد الأسلاف)، ثم صرّح بعد ذلك بقوله:
*" يرضيني غاية الرضا أن تقتصر رواياتي، ولاسيما التي تدور عن الماضي على تعليم قرّائها أن ماضيهم ـ بكل ما فيه من جوانب نقص ـ لم يكن ليلة طويلة من الوحشيّة".
*ومع أن رواياته الثلاث الأولى تدور عن الماضي ـ كما قال ـ فهو الماضي الممتد في الحاضر، الخاضع لرؤيته وتقييمه. وتشكل هذه الروايات الثلاث الأولى ثلاثيّة عن شعب (الإيبو) في نيجيريا الذي ينتمي إليه، ولكنها ثلاثية السيطرة الاستعماريّة أيضا من حيث انعكاس هذه السيطرة وتأثيرها على حياة المجتمع التقليدي، وتمتد زمنيا على مساحة قدرها نحو قرن من الزمان(1850 ـ 1950).

• تدور " الأشياء تتداعى" حول مأساة مزدوجة يتصل أحد وجهيها ببطلها(أوكونكو) ويتصل الآخر بقريته(أوموفيا) . ومع أن حياة(أوكونكو) سيطر عليها خوف دائم من الفشل والضعف فهو نفسه"كان من أعظم رجال عصره برغم شبابه).
• ومن خلال العمل الشاق والإصرار يصبح ناجحا في حياته ومحترما عند أهل قريته، فضلا عن كونه مقاتلا عظيما. ومع أنه ليس مجبولا على القسوة فهو يتصرّف بقسوة فيضرب إحدى زوجاته في مناسبة يحرّم الضرب فيها، ويطلق الرصاص على زوجة أخرى فيكاد يقتلها. بل يقتل صبيّا عهد به إليه إلى أن يقرر الكاهن مصيره، كما تقضي التقاليد، ثم يقتل أحد أبناء عشيرته برصاصة طائشة من بندقيّته.
• لهذا كله يعاقب(أوكونكو) بالنفي سبع سنوات، فيلجأ مع أسرته إلى قرية عشيرة حماته. ويقضي عقوبته راضيا. ومع أنه يحقّق شيئا من النجاح والثراء في منفاه ، فهو يشعر باليأس من وجوده" فقد كانت حياته يحكمها هوى غلاّب" في أن يصبح أحد سادة العشيرة.
• كان ذلك يمثل ربيع حياته. وهو لم ينجز شيئا سواه ، ثم تحطّم كل شيء وأخرج من عشيرته وهو يلهث مثل سمكة أخرجت إلى شاطئ رملي جاف. ولكن السنين تمضي به فيرى أولى طلائع المبشّرين المسيحيين في المنطقة.
• وما أن تنقضي العقوبة، ويعود إلى قريته حتى يكتشف أن المبشرين أقاموا الكنائس، وعسكروا داخل القرية. عند ذلك يغضب ويثور، ويحارب رجال الإدارة الاستعماريّة حتى يقتل رسولا بعثه المأمور الأبيض لإيقاف اجتماع العشيرة الذي دعا إليه(أوكونكو). وسرعان ما يجد نفسه وحيدا في هذا الصراع الجديد، فقد انقسم القرويّون، وتداعت الوشائج القبليّة، وفي غمرة من الإحساس بالغربة والإحباط يشنق نفسه.

• في رواية (أتشيبي) الثانية التي تتدرج عودا إلى الماضي حتى تصل البداية، يطالعنا مشهد البداية(محاكمة أوبي) الشاب المثقف حفيد(أوكونكو) وبطل الرواية، وهو الوحيد من أبناء الأسرة الذي تعلّم تعليما غربيّا.
• ونظرا لتفوّقه فقد أقرضه(حزب الاتحاد القومي) بقريته(أوموفيا) بعض المال لإكمال دراسته في إنجلترا. وهناك يزداد احتكاكا بالغرب ، وفي طريق عودته، وعلى ظهر الباخرة التي أقلته يتعرّف إلى(كلارا) مواطنته الشابّة التي درست التمريض في انجلترا أيضا.
• وتتطوّر هذه المعرفة إلى حب غامر بعد ذلك، وفور عودته يحصل(أوبي) على وظيفة مغرية. إذ يعيّن سكرتيرا لهيئة البعثات الحكوميّة في( لاغوس) ويبدي مثاليّة واستقامة في وظيفته.
• ولكنه سرعان ما يسقط فريسة للديون. فقد حلّ موعد سداد قرض الاتحاد القومي، وتكاثرت ضرائبه ومشترياته، وتزايدت نفقات حبّه. وتصير علاقته ب(كلارا) عبئا نفسيّا ومادّيا كبيرا، فهي في عرف قومه من المنبوذين لأنها تنحدر من العبيد، فضلا عن أن الاتحاد المذكور وأباه لا يوافقان على هذه العلاقة، بل إن أمه تهدّد بالانتحار إذا هو تزوّجها .. وتتراكم الضغوط عليه، وترغمه حاجته إلى المال على التهاون في مثاليته وقبول الرشوة حتى يفسد وينتهي إلى السجن.

• الرواية الثالثة ل(أتشيبي) " سهم الله" ارتدت إلى موضوع التبشير، فصوّرت وقع المسيحيّة على شعب(الإيبو) التقليدي الوثني، وانخداع السود في البيض. ولكنها تركت قرية(أوموفيا) ودارت في قرى(الإيبو) المجاورة في شرق نيجيريا إبان العشرينيات من القرن الماضي.
• بطل رواية(سهم الله) "إزويلو" كاهن وثني تقليدي، يحاول تعزيز سلطانه على القرويين ، فيتصدّى لإيقاف حرب نشبت بين قبيلته وقبيلة أخرى مجاورة، ولكن مأمور المركز الانجليزي ينجح فيما لم ينجح هو فيه، فيزداد(إزويلو) إعجابا بالرجل الأبيض وذكائه وقوّته، بالرغم من أن المأمور نفسه جاهل بالعادات والمعتقدات الفبليّة.
• وبناء على هذا الإعجاب يقرر الكاهن إرسال ابنه(أودوشي) إلى مدرسة المبشّرين حتى يتعلّم أسرار هذا الذكاء وتلك القوّة، ويصبح عين أبيه وأذنه بين البيض.( ولكن الرياح تأتي بما لا يشتهي السّفن) فيتعلّق الابن بالمسيحيّة، ويزدري ديانة أبيه، بل يحاول قتل الثعبان المعبود. ويؤدي ذلك إلى صراعات عنيفة داخل الجماعة، وعداء أعنف من جانب(إزويلو) للإدارة الاستعماريّة. ويقوده عناده وزهوه بقومه إلى الصدام مع السلطة البيضاء وإلحاق الخراب بنفسه وجماعته.

• وبهذه الرواية تنتهي ثلاثية أفريقيا غير المستقلّة ـ القبليّة التقليدية ـ في إنتاج (أتشيبي) وتظهر أفريقيا المستقلّة في روايته الرابعة(رجل الشعب). فالزمان هنا هو الستينيات، والمكان دولة أفريقيّة جديدة غير محدّدة، بعد أربع سنوات من الاستقلال. بطلها وراويها (أوديلي) مثقف شاب ، وتلميذ سابق ل(نانجا) السياسي شبه الأمّي الذي وجد نفسه ـ فجأة ـ بعد استقلال بلاده وزيرا للثقافة.
• وبالرغم من مثاليّة (أوديلي) وطموحه إلى تطوير شعبه فهو يشعر بأن أستاذه السابق قد ينجح في هذا التطوير. ولكنه يصدم في رئيس الوزراء الذي حذّر في إحدى خطبه بأنه" لن يحدث أن نعهد بمصيرنا ومصير أفريقيا إلى الطبقة المهجّنة من المثقفين المتحذلقين المتعلّمين في الغرب، الذين لا يتردّدون في بيع أمهاتهم مقابل طبق من حساء الخضر باللحم". ثم يدعو(نانجا) ليكون ضيفا عليه في العاصمة.
• وهناك يجرّب حياة البذخ واللهو التي يعيشها كبار المسؤولين. وتجرّه السياسة شيئا فشيئا إلى دوّامتها، فيرشّح نفسه خصما ل(نانجا) نفسه في انتخابات البرلمان، بعد عدد من المنافسات على النساء بينه وبين أستاذه. ولكن " حزب الشعب العادي" الذي ينتمي إليه يخذله ثم يكتشف أن رئيس حزبه لا يفرق بين المبادئ والمنافع حتى صرعته سيارة رئيس حزب آخر معارض.
• وبعد إعادة انتخاب (نانجا) يعتدي أنصاره بالضرب على(أوديلي) حتى ينتهي إلى المستشفى. وعلى فراش المرض يسمع أنباء انقلاب عسكري واعتقال(نانجا) وسجنه. وبذلك تنتهي الرواية التي تردّنا منذ بدايتها إلى نيجيريا بعد استقلالها حتى الانقلاب العسكري في يناير1966.

• رواية (أتشيبي) الخامسة ( كثبان نمال السهول) تبدأ كما يلي:
.... إنك تضيّع وقت الجميع يا حضرة وزير الإعلام. لن أذهب إلى
(أبازون) . هذا قرار! انتهينا! هل عندك موضوع آخر؟
.... كما تشاء يا صاحب الرفعة. ولكن...
.... ولكن لا أريد لكن يا سيد أوريكو ! الموضوع انتهى كما قلت لك .
كم مرّة بحق الله ، تتوقع أن أكرر هذا؟ لماذا تجد صعوبة كبيرة
في فهم قراري. في أيّ شيء؟
.... معذرة يا صاحب الرفعة. ولكني لا أجد صعوبة في فهم قراراتك
وهضمها.

*وانصبّ شرر عينيه عليّ لمدة دقيقة أو نحو ذلك. وامتلأت عيوننا بالغضب برهة قصيرة. ثم خفضت عينيّ باستسلام شعائري حتى استقرّتا على سطح المنضدة اللامع. وساد صمت طويل. ولكنه لم يهدأ بل جعل الصمت ذاته ينمو بسرعة ويتحوّل إلى مشادّة مثلما يحدث في مبارزات الأطفال بلفتات العيون، وسلمت بالنصر له أيضا. ثم قلت له مرة أخرى دون أن أرفع عيني: "أنا آسف جدا يا صاحب الرفعة، ولكني لم أكن لأقول هذا مرة أخرى قبل عام ـ دون أن أسيء إلى نفسي إساءة بالغة. أما الآن فقد قلتها كمجاملة عابرة له. فهي لم تعن لي أيّ شيء على الإطلاق، لم تسبب لي أيّ ضيق من أيّ نوع ، ولكنها كانت تعني كل شيء بالنسبة له.
* هذه البداية الدراميّة المثيرة تتفتح شيئا فشيئا بعد ذلك فتكشف عن مأساة أخرى من المآسي الأفريقيّة التي شغل بها (أتشيبي)، ولكنها هنا، المأساة المعاصرة، تدور في بلد خيالي في أفريقيا اسمه(كانجان) بلد يسيطر عليه انقلاب عسكري، ويحكمه شاب جاهل، أحمق ، تعلم بمدرسة(ساند هيرست) الحربية الإنجليزيّة المعروفة. فلما نجح انقلابه جاء بصديقيه المدنيّين القديمين:( كريس أوريكو و يايكيم أوزودو) وجعل الأول وزير إعلامه، والثاني رئيس تحرير الجريدة الرسميّة.
* ومع أن هذين الصديقين كانا الوحيدين بين رجاله اللذين يناقشانه، ويبصّرانه بما يجب أن يعمل، فسرعان ما كتم نفسيهما، بل طاردهما بعد ذلك، وسحقهما بكل ما أوتي من قوّة الدولة البوليسيّة الحديثة. والسبب المباشر في ذلك كله هو منطقة(أبازون) التي أصابها الجفاف، وآلت إلى الخراب. فقد نصح (أوريكو) الرئيس بالسفر إليها، ومواساة أهلها، ومساعدتهم على مد أنابيب المياه إليها. ووافق الرئيس في البداية ثم تراجع، فبدأت مأساة البلد والنظام والبشر.
* ولما جاء شيخ المنطقة وزعيمها العجوز إلى مقر الرئاسة على رأس وفد خاص رفض أن يقابله، بل اعتقله. ومع تزايد القمع والإرهاب يلوح في الأفق بصيص انقلاب جديد، كما هي العادة في دورة الحركات الانقلابيّة المعاصرة في أفريقيا. ومع الانقلاب الجديد يختفي الرئيس، ويخرج الشعب إلى الشوارع يرقص ويغني ، قبل أن يمنع من الرقص والغناء.
* الرواية تشكل نوعا من التأمل الهادئ في مستقبل المجتمعات الأفريقية، ودولها، ومدنها المكتظة غير الآمنة. وفيها يرى أن تخرج السلطة من أيدي النخبة وتعود إلى صاحبها الحقيقي روح الشعب الصاحية . ومع ذلك فهي تنضم إلى رواياته السابقة لتؤكد مرة أخرى أنه رافض للاستعمار، متنبه لتركته المثقلة، مؤمن بحق الأفريقي العادي في الحياة الحرّة الكريمة.

.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق