السبت، 19 ديسمبر 2009

دعوا صديقكم (سيّد) وشأنه
قراءة في النص والفاعليّة

حول إبداعات الأديب سيّد قذاف الدم  
 عبد الرؤوف بابكر السيّد                                                                   

سيّد في قومه، آمن بالفكر والتزم..
سيّد على أرضه، ارتوى بالفكر والحبّ والتزم..
سيّد بقلمه وفكره، دافع عن وطنه.. عن الثورة والقائد..
تيمّم الإبداع ليعتلي صدر النهار، ويغازل الأفكار..
عينه على القمر المضيء، ويقبل جبين الشمس عزّة واعتزازا
نسج من التواضع جردا له، واستظلّ بظل خيمة، قدوته قائد الثورة ورمزه الشجرة التي تمدّ ثمارها نحو الجميع..
عندما تنسل الأرض أيّاما كئيبة حزينة رتيبة ، يجدّدها بحرفه وفعله وإبداعه..وعند الانهيار العربي والتعرّي والسقوط.. يموت ألف مرّة في غزّة ورام الله وبيروت والجنوب والجنوب وبغداد.. ولكنّ الموت يتأبّى عليه لأنّ ثقافة الحياة والعطاء والإبداع تسكنه..
عرفته من خلال الحرف الملتزم، فعشقته والحرف والفكر والقائد.. وتعرّفت عليه ثائرا متمرّدا ببنية وعيه فأحببته والحرف والفكر والقائد.. والتقيته فإذا به يعانق العبارة كما الوطن والفكر والقائد.. فأضحى بمشروعه مشروعا للآخرين..
. الهوامش ليست هي المتن، إنما هي إضاءات وإضافات وشروح لمن لا يعي النص، وحين تكتب الهوامش على الجدار، فذلك يعني حجم الحاجز الذي يصطدم به الفرد ويحول بينه والحياة، إنه جدار، وفي مواجهته، وعليه يكتب هوامش هذه الذات.. فكان إصداره عام 1983 "هوامش على جدار الغربة" والغربة دائما تتم بعد مغادرة الواقع المألوف، بعد سفر، إنه شعور يتملك الذات حين تصطدم بجدار المألوف. وحرصا لتدوين كامل لحظاته وعوالمه كتب "رفاق في رحلة سفر" في العام ذاته.
أمّا عن العوالم الداخليّة لمبدعنا، فقد جسّدتها عناوين"عندما يهزّك الشوق" و"ممارسة الحبّ علنا" و"في حالة حبّ ظاهر" و"بصمات قلب" و "ظمآن في النيل" و "همسات صاخبة" و"دعوني وشأني" و "علّميني كيف أكتب" و "غابوا عليّ اصحاب".
وحين يحمل الفارس سيفه، ويشهر قلمه في ذات الوقت، يكون قد جمع بين إرادتين: إرادة الحق وإرادة تنفيذ الحق. ويكون قد عبر دائرتين: دائرة الإرادة الذاتية إلى حيّز الالتزام . يكون لحياته معنى صاغته روحه الوثّابة، وعقله الثاقب، وجسده الملبّي ترجمة لدواخله وقناعاته، مبادئه وإيمانه. ويكون كذلك قد وازن بين أبعاده من عقل ووجدان وجسد. ويكون قد دخل دائرة الفعل مدركا أن الإنسان فاعليّة ببلاغة السيف في الحق، وقوّة الحرف في الصدق المدافع عن الحق.
والالتزام مدخل للفاعليّة..
الالتزام يتجلّى من خلاله تنازر بنى الوعي.. وتمرّد بنية الوعي المفتوح على ما هو سائد من بنى قاصرة تحب ذاتها، وتحتقر الآخر..
دعونا نتعامل مع نص نثري، نستكشف فيه معا هذا الصراع الدخلي بين بنى الوعي التي يحتازها مبدع النص، وبنى الوعي التي يعايشها بين أنا الداخل وأنا الخارج، بين تفكير داخلي، وبين هيمنة الخارج وفق ما تمليه البنية السائدة دون تفكير.
ويقتضي منهج التحليل الفاعلي الذي اعتمدنا عليه كأداة للتحليل قراءة الفاعليّة في النص، وقراءة فاعليّة المبدع من خلاله، وذلك بارتياد أفق جديد في التحليل النقدي الذي يعرّف النص الأدبي بأنه بنية فاعلية لغويّة تخيّليّة، أوسع مدى من بنية الفاعلية الواقعيّة. دعونا نستهدف في هذه القراءة محاولة النفاذ من مسلك لغويّ مطروق لاستكشاف مدى تمثيله لآخر معروف كذلك، هو بنية الوعي والضمير الأدبي والثقافي.
الواقع يشكله البشر، والبشر في كل مجتمع هم أسرى بنى الوعي التي يحتازون، والتي تحكم وتتحكّم في سلوكهم وتصرّفاتهم وفق خصائصها وسماتها وتحت ضغط آليات ضبطها، وبنى الوعي تمايز بين الأفراد كما تمايز بين المجتمعات. كل فرد يتأسس وعيه من خلال البنى الثلاث (التناسلية، البرجوازية، الخلاّقة) ولكن إحداها تسيطر عليه وتحكم سلوكه بحكم المدخلات الحاملة لأدبياتها فتساعدها البنيتان الأخريان. وعندما تسود بنية وعي في أيّ مجتمع، بمعنى أن يستدمجها غالبية أفراده، يصبح ذلك المجتمع خاضعا لتلك البنية، ويصبح الصراع بين هذا المجتمع وبين من يحتاز بنية وعي مخالفة، فيسعى للتمرّد ، وتسعي للضبط والعقاب بآلياتها.
من هنا يصبح (التنازر) التآزر والتنازع السمة الغالبة بين الأنا الداخل والأنا الخارج ، بين البنى على الصعيد الفردي والجمعي والقيمي والثقافي.

دعوني وشأني..
معاناة وصراع وملل وميل إلى الوحدة والعزلة والقلم والورق.. هذه المعاناة، وهذا الصراع، وذلك الملل يصل بمبدعنا إلى مخاطبة أصدقائه: أصدقائي .... دعوني وشأني. ولو قارب المبدع الوعي بما يحتاز من فاعلية، لكان الخطاب: أصدقائي.. اسمحوا لي أن أرثي لحالكم. إنه يحمل بنية وعي مفتوح ، متسامح، متسام، محب، عاشق، متجاوز، صادق، مخلص، شفّاف، معطاء ومبدع.
والآخرون .. البنية المغلقة القاصرة والسائدة:
ـ تهدّد، وتتوعّد، وتستبيح الآخر.
ـ تكذب، وتنافق، وتخادع.
ـ تحسد، وتحقد. الأخ يكره أخاه. الصديق يخون صديقه. عالم مليء بالحزن والنفاق والتكالب على المال والجاه والسلطة. عالم ضد الفرح، ضد الحقيقة ، ويدّعي امتلاك الحقيقة. بنى الوعي مختلفة.. الوعي بفاعلية كل منها هو الذي يحول دون الملل ودون الانعزال.
طلب المبدع من أصدقائه أن يترك وشأنه الخاص.. وشأنه الخاص هو فكره ورؤيته المخالفة لآرائهم.. نظرته للحياة ، وجدانه المفتوح العامر بالحب والإبداع والعطاء الشامل لإثراء الحياة الإنسانية، بنية الوعي التي ينطلق منها لتفسير الحياة وممارستها. والبنية كما نعلم(هي نسق أو نواة مولدة للوعي تحدّد فكرة الإنسان عن نفسه ومنحى استجابته مع العالم.
المستوى الدلالي:
جاء النص [ ويقدّمون لي الحلوى والخمر الممنوع] الذي حملت خاتمته عنوان المجموعة[دعوني وشأني]حاملا لمجموعة من الخطابات التي توضح مدى القلق والتوتر والصراع والمعاناة التي ولّدها الاختلاف بين الوجدان المفتوح الحامل لبنية الوعي الخلاّق، والوجدان المغلق الحامل لبنية الوعي القاصرة(تناسلية أو برجوازية) اللتان تتنازعان المجتمع.
فشأنه هو الشأن الجمعي وليس الذاتي القاصر المغلق، شأنه هو هذه المعاناة، وهذا التمزّق ، وهذه الكرامة المهدرة.. شأنه هو قراءته للواقع المخزي للأمّة.. شأنه هو مشروعه الداعي إلى اليقظة.. المناهض لبنى وعي القصور، تلك التي تدّعي امتلاك الحقيقة، وتستخف بالآخر، وتحب ذاتها أو تلك التي تشكل قطيعا من البشر يهشه الراعي.. شأنه هو مشروعه المتماهي مع بنية الوعي الخلاّق التي أنتجت نصوص قائد الثورة والتي دعا فيها لبناء الإنسان النموذجي الجديد.
والإنسان النموذجي الجديد لا يبنيه غير الصدق والشفافية والتوحّد بين الداخل والخارج وإعمال الفكر .. وانفتاح الوجدان الذي تعمره المحبّة ذات البعد الإنساني، ليست محبة الاشتهاء الآني القاصر.. بل محبة الإنسان وكرامته وعزّته الرافض للذل والإهانة وإهدار كرامته.
دلالة الشأن خاصة عند إضافته إلى الضمير تقاربنا بالشأن الخاص والذاتي والضيّق.. إلاّ أنّ الشأن في النص يعانق شأن الجموع، شأن الإنسان الجماهيري، شأن الكرامة العربية، شأن الفاعليّة والإبداع والعطاء.. لذلك حمل النص الكثير من القضايا العامّة في دائرة هذا الشأن، ممّا يصرف الدلالة بانزياح على الانفتاح.
* حمل المقطع الأوّل صورة التوحّد الجمعي بالضمير(نا) بارزة بصورة سلبية للبنية السائدة[قتلنا أنفسنا بأنفسنا، حاربنا أنفسنا بأنفسنا، جرحنا نساءنا، صرنا.. ، نسينا كرامتنا، جمعنا..، وجدنا..،] والضمير(نحن) [نبحث، نهدّد، نتوعّد، نكذب،] وهو خطاب توحيدي لم يخرج الأنا نفسه من دائرة ال(نحن) بمحدّداتها التاريخية والجهوية واللغوية والثقافية.
* وفي المقطع الثاني ركّز النص على(الأنا) وضميره في[أنا أستطيع أن أقف.. أنظر..أحدّث.. أحيّي..أتحمّل..أنا أفكّر] ثم ضمير المتكلّم[مللت..وأكره] محددا القيم التي لا يتفق فيها مع البنية السائدة[النفاق.. الزيف.. الخداع..].
* وفي المقطع الثالث برز الخلاف عندما جرى الحوار بين البنيتين،[ما علاقتي..أفكاري..أنا مسحوق..ضعوني..أرسلوني..خذوني..] وصوت أنا الخارج [أنت لا تواكبنا(يقولون)..اسحقوه ثوريا(تقول).]
* وفي المقطع الرابع الأنا تحاور نفسها [مللت.. مللت.. ضاقت بي الدنيا.. سرت أبحث... أنا لا أعرف.. أملك ديونا.. مللت وصوتي بحّ.. أنا متعب .. متعب.]
* ثم يعود الأنا للحوار مع الآخر في المقطع الخامس:[قلتم .. اتهمتموني.. أعاني.. أنا أقسم..أنا معترف ..] كاشفا الأنا عن عقدته المتمثلة في قيم البنية التي يحتاز[ عقدتي هي الصدق والإخلاص] كما يكشف ويعرّي الآخر المتمثل في هؤلاء السذّج [بقايا الاتحاد الاشتراكي..خلايا الأحزاب.. مخابرات العهد القديم.. جهلة العصر الحاضر من الثورجيين والثورجيّات] واصفا لهم بأنهم [واهمون.. واهمون.. يطاردون..].
* وفي المقطع الذي يليه يصف الآخرين من حملة وأسرى البنية السائدة والممتدة من العهد القديم إلى جهلة العصر الحاضر بأنهم [ يتغامزون.. يصفّقون.. ينافقون.. الأخ يكره أخاه.. الصديق يخون صديقه.. المواطن يزاحم أخاه] ويصل إلى أن تفكيره في الداخل يختلف كلّية عن تفكيرهم ويحدد الحل في الرحيل في المقطع الثامن:[ أحمل عصاي وأرحل.. أرحل من داخلي إلى خارجكم..أنافقكم.. وأضحك معكم.. وأوافق على كل شيء تقولونه.. وأصلي معكم ..وأقول لكم.. سأشكركم على اهتمامكم.] ولكنه يصل إلى أنه لا يستطيع مجاراتهم.. يحمل عصاه ويرحل [ أتقوقع.. وأعيش مع ذكرياتي القديمة..فهي ألذ من خرافكم وموائدكم وطعامكم.]
* ويؤكد في المقطع الأخير عزلته: [مللت .. مللت.. وملت إلى الوحدة والعزلة والقلم والورق] [ سأحمل عصاي وأرحل.. خذوا منى كل شيء فأنا أحمل قلبي.. وذكرياتي.. وأترك لكم العالم المليء بالحزن والنفاق والتكالب على المال والجاه والسلطة... أصدقائي .. دعوني وشأني.]
المستوى البنائي السردي:
ارتكاز النص على: الرحيل إلي والرحيل إليكم.. تفكيري وتفكيركم.. ليخلص إلى( الوحدة والعزلة والقلم .. واللجوء إلى الإبداع عبر القلم والورق.. ينطلق من تصوير الواقع وتشخيص البنية السائدة وما تتسم به من نفاق وخداع ومراءاة وكذب وتضليل وحقد وحسد وكراهية تبررها أدبيات البنية السائدة. لذا جاء البناء وفق الشكل التالي:

 الواقع
المستدمج لبنية الوعي القاصرة السائدة

الرحيل إلى الذات
تفكير الداخل                        الرحيل إلى الآخر
تفكير الخارج

الوحدة والعزلـــة..
القلم والورق..
المشروع : الإبداع

التمهيد جاء حاملا للأنا الخارج (الواقع)، الأنا في ضمير الجمع (نا) حاملا لمفردات: [القتل، الحرب، الجرح، الطبيب الأجنبي، الكرامة المهدرة، الاغتصاب لفلسطين وبيروت، اغتصاب أصغر فتاة، خيانة الأصدقاء، مع التهديد والوعيد والكذب] صورة قاتمة لواقع معاش محبط لا يحمل في ظاهره سوى مظاهر ساعات البث المرئي والمسموع والمقروء.. وتكاليف إقامة الوفود بمرافقيها.
هذا المقطع التمهيدي لوصف الواقع المحبط، هو تمهيد لطرح النأي بالأنا الداخل عن واقع ضمير الجمع (نا). وهو في ذات الوقت ممارسة نقدية لما تتسم به البنية السائدة من قصور وانغلاق. وهو تعرية لممارسات البنية السائدة، وقبولها الحياة في المستنقع الآسن. وهو التحدّي الذي جابه المبدع، فكان لابدّ من الاستجابة بالانفلات من أسر البنية التي لم تؤمّن له طموحاته، ولم تنسجم مع فكره ووعيه. وهو مبرر الاحتماء بمشروعه المتمثل في الإبداع من خلال القلم والورق وفي مساحة الوحدة والعزلة.
لذلك جاءت بنائية النص حاملة طرحه لبنية الأنا الداخل التي احتازها مخالفة لما هو سائد، إنها تعتمد التفكير الداخلي المتواصل للوعي بالذات وبالآخر، وفي ذات الوقت رفض للنفاق والزيف والخداع وقتل الوقت وشكلية الصلوات وشكلية المساعدات لإنشاء المراكز الإسلامية في كندا واستراليا، ونفاق تأليف القلوب بالمال.
وفي خطابه الثالث لا يواكب النص ضمير الجمع (نا) كما يقولون ، لذا فهو يستحق السحق كما يقولون كذلك. والبنية السائدة دائما ما تسعى لسحق أيّ متمرّد عليها أو مخالف لها. إن جسمه من خلال بنية وعيه ، مختلط[ بالغربة، والثورة، والخمر، والنساء، والإيمان ، والكفر، وحب الله والوطن والشعب،وأمّي والقائد وأطفالي وزوجتي الأولى، وزوجتي وصديقتي الثانية ، وطفلتي التي صارت تجيد اللغة أكثر من خطيب الجامع.] وهو خطاب فيه طرح للإنسان الصادق غير المنافق الذي تتشرب مسامّه كل بعد المعاني وعمق المفردات والحياة بكل ما فيها دون قيود مصطنعة. إنه خطاب الأنا مفتوحا شجاعا،شفّافا، صادقا،محبا، عاشقا، دون خداع أو خيانة أو كذب.. كما تمارس بنية وعيكم.
في الخطاب الرابع يعي دور البنية السائدة التي تحاصر أفرادها ، وتدفع بهم إلى الخداع والزيف والانفصام ،أو التوحد بين الداخل والخارج ، بل تفرض أدبيّاتها وقيمها وأخلاقياتها، ومعاقبة من ينفلت عنها أو يحاول التمرّد عليها. عقاب يستمد شرعيّته من سيادة بنية وعي قاصرة،[ أشبه ما يكون بدخولي منزلي، وتفتيش أوراقي وأشيائي الخاصة، وملابسي الداخليّة، وجوارب زوجتي، وألعاب طفلتي، وكتبي، ومسودات مقالاتي، وشريط الأدب الشعبي الذي كنت أحب الاستماع إليه، وصورة أبطال الخالصة، وأم العذارى، وبقايا طعام قديم، ومسبحة والدي، وصورة قديمة لأمّي، وأشياء كثيرة كثيرة لا أعرفها أنا شخصيّا].
هذا الحصار، وهذه الملاحقة، وهذا التلصّص والتصنّت لأشيائي الخاصّة هي التي تدفعني للضيق بالواقع، هي التي تدفعني لاحتياز بنية أخرى، [ أبحث عن لقمة شرف... عن بوّابة تحمي غرفة نومي.. وعن بوّابة أخرى تسدّ عيون الحاسدين، الحاقدين، أدعياء الثورة.]هذا الخطاب يطرح لماذا يحبط الثوريّون من ممارسات أدعياء الثورة. لأنّ الثورة من منطلقاتها التمرّد على الظلم والكذب والخيانة.. من منطلقاتها الرفض والتمرّد على البنى القاصرة(التناسليّة والبرجوازيّة) بكل خصائصهما وسماتهما.. وأدعياء الثورة يشوّهون الثورة وقيمها ومبادئها وأهدافها وفكرها.. إنهم لا يستوعبون قيم الإنسان النموذجيّ الجديد.
ويستمر البناء بوصف البنية السائدة ( التغامز، التصفيق، الحقد الأسود الدفين، الكراهية، الخيانة، المزاحمة دونما سبب إلا حب الذات. ممارسة النفاق والضحك، الموافقة على ما يقال، الصلاة دون وضوء، تخاريف عودة فلسطين دون العمل على ذلك.)
ويقودنا هذا المستوى البنائي إلى العودة إلى الداخل ، إلى الذات، التقوقع، العيش مع الذكريات القديمة، الحديث عن شموليّة العالم. [ سأحمل عصاي وأرحل.. خذوا كل شيء.. فأنا أحمل قلبي وذكرياتي.. وأترك لكم العالم المليء بالحزن والنفاق والتكالب على المال والسلطة.. أصدقائي ... دعوني وشأني.].

الأنا المختلف:
المختلف في تفكيره الداخلي، في بنية وعيه المفتوح، ما يحمله من مشروع إنساني حضاري، وسيلته لم تعد سوى الكتابة التي يقول عنها:

[ قاسية هي هذه الفتاة التي لا نملك إلاّ أن نحبّها رغم غرورها واستسلامها لنا أحيانا.. فهي الفتاة التي لا يمكن أن تقاطعها أو تدوم لها باستمرار. هي الأنثى التي تستحوذ على كل الذكورة في الرجل.. كما أنها قمة الرجولة وتحدّي المصائب..هي ليست زوجة تقليدية ترى أنّ مهمّة زوجها الرئيسيّة في الحياة أن يكون زوجا فقط.. وليست منصبا بقوّة مؤتمر الشعب العام.. ولا رتبة عسكريّة تصدر بقرار.. هي الجنون العاقل.. وهي قمّة السعادة في منخفض الحزن، كما أنها النقطة الدالّة في ربوع الحزن.. هي الجميل حقّا.. والقبيح الذي لا يمكن أن يوصف بالقبح.. هي الكتابة نتوقف أحيانا عنها.. أو نوقف.. ولكنّنا نحس بأنّنا نفقد عند التوقّف الحواس الخمس.. ونكتشف أيضا أنّ هناك خمسين حاسّة أخرى لم نكتشفها بعد..] (63 ـ 64) دعوني وشأني .
ونستعرض هنا بعض تفكيره المختلف مع بنى الوعي القاصرة، والمنسجم مع ذاته وبنية وعيه الخلاّق التي تشعره بالغربة والاختلاف.. نستعرض من بعض نصوصه في دعوني وشأني بعض تفكيره المختلف.. يقول:

• القلوب لا سلطة عليها. ص27.
• بالحب وحده تكون الحياة. ص27.
• بالحب وحده يحيا الإنسان، وبالحب وحده قامت الثورة. ص27.
• الحبّ هو النبع.
• كيف لا يكون للحب طعم الثورة؟ وكيف لا تكون حياتنا هذه ممزوجة به؟. فلا طعم لها بدونه.. والحبّ هو الكل.. وليس جزءا كما يتوقّع الجميع. ص38.
• الإنسان العاشق هو الثائر الحقيقي. ص39.
• الحب سينتصر لأنّ له طعم الثورة التي ذاقتها الجماهير. ص42.
• لا أملك وجهين لعملة واحدة. ص29.
• سيكون السور الجديد مجموعة قلوب تحمل الحبّ كلّ الحبّ لهذا الوطن.. والثورة .. والقائد..ص29.
• نفي صفة الآدميّة عن البشر أخطر منزلق تقع فيه الثورات. ص35.
• الثورة مهمتها بناء الإنسان...الثورة مهمتها خلق إنسان جديد.. الثورة مهمتها ترسيخ الآدميّة لدى الأفراد جميعا.. ص35.
• الحرّية هي أن تتذكر أنك طفل بريء غير مشاغب، يلعب ككل الأطفال في العالم. ص71.
• الحريّة هي أن تشمّ رائحة الأعشاب البرّية دون وجود حيوانات مفترسة. ص71.
• الحرية هي أنت. ص71.
• الحرية أن تقول ما في عقلك الباطن.. تحرّره حتى تتحرّر..ص77.
• الحريّة هي القلم والفكر. ص77.
• إنّ الحرب ليست بين الدولار والروبل والين الياباني كما يتوهم البعض.. الحرب حول المبادئ..ص83.
• مجرد رأي من إنسان يحمل القلم والسلاح والحب لله والوطن والقائد.. ص82.
مركزيّة الفكرة في الإبداع:
هاجس المبدع أن يعانق الفكرة، هاجسه دائما هو الاختلاف الذي يعتمل في بنية وعيه بإرادته أو بدونها.. إنه يرفض ..يتمرد .. يقاوم .. يتحدّى .. يثور ويغيّر من خلال هذا الاختلاف الذي يرتكز على بنية الوعي التي يحتاز، والفكرة التي تسيطر.. فبنى الوعي لدى أيّ إنسان في حراك دائم.. البنية السائدة في المجتمع تسعى للحفاظ على أفرادها وجعلهم أسرى المدخلات من أدبيات واجتماعيات ومفردات ودلالات وقيم. وحين ينفلت المرء من أسر البنية السائدة ، يتعرض للعقاب، تصب عليه جام غضبها، وتسعى لردعه بكل السبل، وتشعره بالغربة والعزلة حتى وهو بين أهله ومجتمعه.
يلجأ المبدع إلى بنية وعيه التي احتازها يحتمي بها .. وحتى لا تطاله البنية السائدة ولا تدمّره يحتمي بمشروعه، يلتزمه وينادي به ، ويضحّي من أجله.
احتمى مبدعنا (سيّد) في نصوصه بالفكر والفكرة والتفكير حتى لا يكون ضمن قطيع البنية، دعا له.. وانتشرت المفردة .. انتثرت .. وتشظّت عبر نصوصه بشكل لافت ، يوحي بأنها المشروع الذي احتمى به، وكان رائده في ذلك أفكار القائد..
لذلك وردت[ الأفكار المشتتة.. تهمتي أنّني أفكّر .. لم أستطع أن أكبح جماح نفسي عن التفكير.. ولأنّ تفكيري في الداخل يختلف كليّة عن تفكيركم].
وهذه الفكرة والأفكار والتفكير وإعمال العقل انتثرت في مجموعة(دعوني وشأني) إلى ما يصل إلى ثلاث وتسعين مرّة.. جاءت موصوفة بمختلف أوجه الوصف، ومضافة بدلالات متعدّدة ، وابتداء وفاعلا ومفعولا.. جاءت بما يشبع ويدعو وينبه.. جاءت هاجسا وكأنها المرتكز ونقطة البدء والصفر والختام التي انطلق منها إبداع (سيّد).
[ الشذوذ الفكري.. عادة التفكير.. التفكير الداخلي.. الأفكار المشتّتة.. الفكر الرشيد.. شرود الفكر.. الأفكار الجنسيّة.. الأفكار المطروحة للنقاش.. أفكار الغير.. سطحيّة الأفكار.. غرابة التفكير.. تسطير الأفكار .. مفتاح الأفكار.. دواعي التفكير.. العلاقة بالأفكار.. التفكير المليء.. السجن الفكري.. الصفاء الفكري.. الأفكار الخليعة.. النقاش غير الفكري.. الملاحقة الفكريّة.. الأفكار الجديدة.. التجانس الفكري.. النمو الفكري.. التفكير بالإنابة.. التفكير الشاعري.. التفكير الممنوع.. الأفكار المتعارضة.. مراودة الفكرة.. التفكير بصوت عال.. أجهزة رصد التفكير.. حركية الفكر.. الفكر والتطلعات.. الفكر والأطروحات.. الفكر التقدّمي الإنساني.. اعتناق الفكر.. تجسيد الأفكار.. القيم والأفكار.. الاتحاد بالفكر.. وابن الفكر.. الخ ].
إنه الهاجس الذي حمل من أجله القلم وراكم حوله الورق في عزلته، في غربته.. في اختلافه، خروجا من القطيع الذي تسومه البنية السائدة ، وتحكمه وتتحكم به دون تفكير، دون مساءلة، دون محاكمة. وهو بذلك يشكل قلما ملتزما جريئا حيّا وحيويّا.. سخر جهده ووقته لإيقاظ النوّم الذين لا يفكرون ولا يتساءلون.. إنه واحد من الذين تساءل عنهم (معمّر القذافي) حين قدّم وصفا للمسحراتي في السحر في مجموعته القصصيّة.. هذا عن المسحراتي في السحر .. ماذا عن المسحراتي ظهرا..

سيد قذاف الدم أحد هؤلاء لأنه لجأ إلى إعمال الفكر ومارس التفكير وسعى بقلمه لإيقاظ النوّم ليتزوّدوا استعدادا لأيّام قاسية وطويلة.. وهو الذي كتب في"علميني كيف أكتب":
يؤرّقني مصير العـرب دوما وكل العـرب يغـرق في المنام
ويصرخ فيهم صقـر وحيد ينادي بالتوحّـد لا الخصـام
عزيز النفس يصمد في شموخ شريف النفس من نسل الكرام.

أصدقاء سيّد .. قفوا مع شأن صديقكم، فهو شأنكم، والتزموا معه أو اتركوه وشأنه ومشروعه الفكري وفاعليّته الأدبيّة وضميره الثقافي.






.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق