الخميس، 13 مايو 2010


بين حبّ السلطة وحبّ الوطن
السودان على فوّهة بركان


عبدالرؤوف بابكر السيّد
لعمري ما ضاقت بلاد بأهلها         ولكنّ أحلام الرجال تضيق
بركان يغلي في أعماق التربة والمشهد السياسي والثقافي والاجتماعي السوداني يتمثل في تفاعلات كيميائية الصراع المحتدم وإشكالات الوضع القائم من حيث السعي لتطبيق الرؤية الواحديّة على كل زوايا وأركان الاختلاف والتنوّع الذي يصبغ المكوّنات الاجتماعية والرؤى السياسية والتعدد الإثني الذي يحكم التعايش السلمي في البلد القارة.. صحيح أن ما أفرزته الانتخابات (التي أخذت نهج الغرب الليبرالي العلماني) واقع أعاد شريكي الحكم إلى سدته، ولكن هذا سيجعل الحمم تتفاعل في الداخل قبل أن تنفجر بسحب من الدخان البركاني الذي سيعطل حركة الحلول في الفضاء العربي الأفريقي.. فالمؤتمر الوطني بحكم فوزه وكذا الحركة الشعبية يحملان من التناقضات الأيديولوجية والمنهجية ما يجعلهما كافيين لجعل شبح الانفصال قائما يهدد السودان بما يترتب عليه.. مطالب سقف الحركة كبير بدءا من علمانية العاصمة القومية وانتهاء بالمواطنيّة المتساوية مرورا بالتنمية المتوازية بين الشمال والجنوب.. ومساحة التنازلات ضيّقة من قبل المؤتمر الوطني الذي لا يستطيع أن يتحرك قيد أنملة عن إعلاء شأن الإسلاميين وتحديد مفوضية ترعى شؤون غير المسلمين، مما يغرس بذور الشقاق بين مواطني البلد الواحد، ويفسح المجال ليدس الخارج أنفه في تحديد مصير السودان وتشكيل خارطته الجديدة. . هذا من حيث العلاقة بين الشريكين اللذين يصبران على بعضهما ريثما يحسم الاستفتاء الأمر، وعندها يدخلان في حلبة صراع لا ينتهي ولكن هذه المرة بين دولتين إحداهما مدعومة والأخرى ملغومة..والألغام المغروسة في الشمال منها ما بدأ يبرز ويستعصي تفكيكه، ومنها ما هو كامن ينتظر المرور عليه لينفجر.. كل هذه التفاعلات نتاج الصراع على السلطة الذي أخذ بعدا سياسيا واجتماعيا داخليا وخارجيا، رغم علم الجميع بأن تفجر البركان سيغطي رماده كامل الساحة العربية والإفريقية، ولن يستطيع أحد في الفضاء العربي الأفريقي حينها التحليق في سماء المنطقة. المشهد مرعب رغم كل التعبئة السياسية والثقافية وتجيير كل الأنشطة الإعلامية والسياسية لصالح الوحدة، عسى أن تكون جاذبة وهي لعمري لا تعدو أن تكون لعبا في الزمن الضائع، ورفعا للأكف حتى يجنب الله البلاد ويلات هذا البركان..
ونستدعي هنا صورة المرأة التي ادعت بنوّة ابن ليس لها حيث اختصمت المرأتان الأم والمدعية للأمومة أمام القاضي الذي لم يجد ما يحل به هذا الإشكال سوى أن يحكم بقسمة هذا الطفل بينهما وكل امرأة تأخذ نصفها فما كان من الأم الحقيقية إلا أن تنازلت عن بنوّتها واعتبرت هذا الابن هو ابن المرأة المدعية حفاظا على حياته، هنا عرف القاضي من هي الأم الحقيقية وحكم لها..فمن يقدّم تنازلات أكبر لتفادي تجزئة السودان هو الأكثر محبّة لهذا الوطن الذي يريد من محبيه أن يعبُروا به مرحلة الشقاق والتجزئة والتشتّت والتلاشي..فتجربة يوغسلافيا التي انتهت من الوجود وتقزمت إلى دويلات.. وتجربة التدخّل في العراق الذي عجز فضاؤه العربي عن أن يمدّ له يد العون، وأفغانستان وباكستان الذي عجز فضاؤها الإسلامي عن مساندتهما كل هذا ماثل في العيان ومعاصر في الزمان، وهكذا تتفجر البراكين وتغطي الفضاءات بالسحب الرمادية الداكنة فيحظر الطيران أو التحليق، ويخسر المكان كما يخسر الجميع..والوضع في السودان لا يستهان به، فلم يشفع للإسلاميين فوزهم في انتخابات الجزائر، ولا شفع لحماس فوزها في انتخابات شفافة ونزيهة ومطابقة للمعايير الدولية.. العالم يعترف بالمواطنة وليس بالتمييز العنصري عرقي أو ديني، ولا أعتقد أننا في السودان قد وصلنا مرحلة التمييز العرقي أو الديني، اللهم إلا كبرنامج عاطفي يستقطب الأصوات ويمكّن من السلطة.. الشعب السوداني بتسامحه وطيبته وإنسانيته وأخلاقياته الرفيعة ليس هو الشعب المليء بالإحن والأحقاد، ولا هو الشعب الذي يقبل بالتجزئة والانفصالات، ولا هو الشعب الذي يمارس التمييز بين الأعراق والديانات، فلماذا نقحمه في هذه الابتلاءات؟ ولماذا من أجل السلطة والمكتسبات الشخصية والحزبية الضيّقة نذكي فيه روح الإحن والعداوات..أمن أجل الوطن؟ والوطن بحاجة إلى الوحدة والحفاظ عليه متماسكا قويا، وهو بحاجة إلى أن يكون بيد أبنائه وليس محكوما بسياسات وأجندات خارجية.. فكيف نعمل على تجنيبه هذه التدخلات وكيف نعمل على تعميق السلم الاجتماعي بنظرة عميقة ذات أبعاد تعرف ما يمكن أن تقدمه من تنازلات وما هو خط أحمر، بين أن يكون السودان أو لا يكون.. بين حبّ السلطة والذات وبين حب الوطن.. بين أن تعمل على إطفاء جذوة النار في الأعماق لتفادي حممها بعد أن ينفجر البركان.. وبين أن تتركها تتفاعل حتى تحرق الأخضر واليابس فتتغير خارطة السودان.. الأمر حتى الآن تحت السيطرة، وسيأتي اليوم الذي سيسطر التاريخ فيه آخر حرف في سودان المحبة والوئام، سودان التنوّع والتعددّ والوحدة.. فإلى إزالة الألغام وتعميق مفهوم السلام بإشراك الجميع في السلطة والثروة، ونزع تفاعلات النزاع والصراع ..فالتاريخ لن يسامح أحدا، ولا يرحم.
.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق